Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 47-57)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
شرع سبحانه في بيان أحوال من لم تحصل له الهداية إلى الصراط المستقيم ، فقال { وَيِقُولُونَ امَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا } وهؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان ، ويبطنون الكفر ، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، فإنهم كما حكى الله عنهم هاهنا ينسبون إلى أنفسهم الإيمان بالله ، وبالرسول والطاعة لله ولرسوله نسبة بمجرد اللسان ، لا عن اعتقاد صحيح ، ولهذا قال { ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مّنْهُمْ } أي من هؤلاء المنافقين القائلين هذه المقالة { مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } أي من بعد ما صدر عنهم ما نسبوه إلى أنفسهم من دعوى الإيمان ، والطاعة ، ثم حكم عليهم سبحانه وتعالى بعدم الإيمان ، فقال { وَمَا أُوْلَـئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } أي ما أولئك القائلون هذه المقالة بالمؤمنين على الحقيقة ، فيشمل الحكم بنفي الإيمان جميع القائلين ، ويندرج تحتهم من تولى اندراجاً أوّلياً . وقيل إن الإشارة بقوله { أُوْلَـٰئِكَ } راجع إلى من تولى ، والأوّل أولى . والكلام مشتمل على حكمين الحكم الأوّل على بعضهم بالتولي ، والحكم الثاني على جميعهم بعدم الإيمان . وقيل أراد بمن تولى من تولى عن قبول حكمه صلى الله عليه وسلم ، وقيل أراد بذلك رؤساء المنافقين ، وقيل أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين ، ولا ينافي ما تحتمله هذه الآية باعتبار لفظها وورودها على سبب خاص ، كما سيأتي بيانه . ثم وصف هؤلاء المنافقين بأن فريقاً منهم يعرضون عن إجابة الدعوة إلى الله ، وإلى رسوله في خصوماتهم ، فقال { وَإِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } أي ليحكم الرسول بينهم ، فالضمير راجع إليه لأنه المباشر للحكم ، وإن كان الحكم في الحقيقة لله سبحانه ، ومثل ذلك قوله تعالى { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } التوبة 62 . و « إذا » في قوله { إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } هي الفجائية أي فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إلى الله والرسول ، ثم ذكر سبحانه أن إعراضهم إنما هو إذا كان الحقّ عليهم ، وأما إذا كان لهم فإنهم يذعنون لعلمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلاّ بالحق فقال { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } قال الزجاج الإذعان الإسراع مع الطاعة ، يقال أذعن لي بحقي أي طاوعني لما كنت ألتمس منه ، وصار يسرع إليه ، وبه قال مجاهد . وقال الأخفش ، وابن الأعرابي مذعنين مقرّين . وقال النقاش مذعنين خاضعين . ثم قسم الأمر في إعراضهم عن حكومته إذا كان الحقّ عليهم ، فقال { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } ، وهذه الهمزة للتوبيخ ، والتقريع لهم ، والمرض النفاق أي أكان هذا الإعراض منهم بسبب النفاق الكائن في قلوبهم { أَمِ ٱرْتَابُواْ } ، وشكوا في أمر نبوّته صلى الله عليه وسلم ، وعدله في الحكم { أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } ، والحيف الميل في الحكم يقال حاف في قضيته أي جار فيما حكم به ، ثم أضرب عن هذه الأمور التي صدّرها بالاستفهام الإنكاري ، فقال { بَلْ أُوْلَـٰئِك هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } أي ليس ذلك لشيء مما ذكر ، بل لظلمهم ، وعنادهم فإنه لو كان الإعراض لشيء مما ذكر لما أتوا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم ، وفي هذه الآية دليل على وجوب الإجابة إلى القاضي العالم بحكم الله العادل في حكمه لأن العلماء ورثة الأنبياء ، والحكم من قضاة الإسلام العالمين بحكم الله العارفين بالكتاب ، والسنة ، العادلين في القضاء . هو حكم بحكم الله ، وحكم رسوله ، فالداعي إلى التحاكم إليهم قد دعا إلى الله ، وإلى رسوله أي إلى حكمهما . قال ابن خويز منداد واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق . قال القرطبي في هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم ، لأن الله سبحانه ذمّ من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذمّ ، فقال { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } الآية . انتهى . فإن كان القاضي مقصراً لا يعلم بأحكام الكتاب ، والسنة ، ولا يعقل حجج الله ، ومعاني كلامه ، وكلام رسوله ، بل كان جاهلاً جهلاً بسيطاً ، وهو من لا علم له بشيء من ذلك ، أو جهلاً مركباً ، وهو من لا علم عنده بما ذكرنا ، ولكنه قد عرف بعض اجتهادات المجتهدين ، واطلع على شيء من علم الرأي ، فهذا في الحقيقة جاهل ، وإن اعتقد أنه يعلم بشيء من العلم ، فاعتقاده باطل فمن كان من القضاة هكذا ، فلا تجب الإجابة إليه لأنه ليس ممن يعلم بحكم الله ورسوله حتى يحكم به بين المتخاصمين إليه ، بل هو من قضاة الطاغوت ، وحكام الباطل ، فإنّ ما عرفه من علم الرأي إنما رخص في العمل به للمجتهد الذي هو منسوب إليه عند عدم الدليل من الكتاب ، والسنة ، ولم يرخص فيه لغيره ممن يأتي بعده . وإذا تقرّر لديك هذا ، وفهمته حق فهمه علمت أن التقليد ، والإنتساب إلى عالم من العلماء دون غيره ، والتقيد بجميع ما جاء به من رواية ورأي ، وإهمال ما عداه من أعظم ما حدث في هذه الملة الإسلامية من البدع المضلة ، والفواقر الموحشة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وقد أوضحنا هذا في مؤلفنا الذي سميناه " القول المفيد في حكم التقليد " وفي مؤلفنا الذي سميناه " أدب الطلب ومنتهى الأرب " فمن أراد أن يقف على حقيقة هذه البدعة التي طبقت الأقطار الإسلامية ، فليرجع إليهما . ثم لما ذكر ما كان عليه أهل النفاق أتبع بما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا دعوا إلى حكم الله ، ورسوله ، فقال { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } قرأ الجمهور بنصب { قول } على أنه خبر كان واسمها { أن يقولوا } . وقرأ عليّ والحسن وابن أبي إسحاق برفع " قول " على أنه الاسم ، وأن المصدرية ، وما في حيزها الخبر ، وقد رجحت القراءة الأولى بما تقرّر عند النحاة من أنه إذا اجتمع معرفتان ، وكانت إحداهما أعرف جعلت التي هي أعرف اسماً . وأما سيبويه فقد خير بين كلّ معرفتين ، ولم يفرق هذه التفرقة ، وقد قدّمنا الكلام على الدعوة إلى الله ، ورسوله للحكم بين المتخاصمين ، وذكرنا من تجب الإجابة إليه من القضاة ، ومن لا تجب { أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي أن يقولوا هذا القول لا قولاً آخر ، وهذا ، وإن كان على طريقة الخبر ، فليس المراد به ذلك ، بل المراد به تعليم الأدب الشرعي عند هذه الدعوة من أحد المتخاصمين للآخر . والمعنى أنه ينبغي للمؤمنين أن يكونوا هكذا بحيث إذا سمعوا الدعاء المذكور قابلوه بالطاعة ، والإذعان . قال مقاتل ، وغيره يقولون سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وأطعنا أمره ، وإن كان ذلك فيما يكرهونه ، ويضرّهم ، ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله { أُوْلَـٰئِك } أي المؤمنون الذين قالوا هذا القول { هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي الفائزون بخير الدنيا والآخرة . ثم أردف الثناء عليهم بثناء آخر فقال { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُون } وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها من حسن حال المؤمنين ، وترغيب من عداهم إلى الدخول في عدادهم ، والمتابعة لهم في طاعة الله ورسوله ، والخشية من الله عزّ وجلّ ، والتقوى له . قرأ حفص { ويتقه } بإسكان القاف على نية الجزم . وقرأ الباقون بكسرها ، لأن جزم هذا الفعل بحذف آخره ، وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر واختلس الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والمثنى عن أبي عمرو وحفص وأشبع كسرة الهاء الباقون . قال ابن الأنباري وقراءة حفص هي على لغة من قال لم أر زيداً ، ولم أشتر طعاماً ، يسقطون الياء للجزم ، ثم يسكنون الحرف الذي قبلها ، ومنه قول الشاعر @ قالت سليمى اشتر لنا دقيقاً @@ وقول الآخر @ عجبت لمولود وليس له أب وذي ولد لم يلده أبوان @@ وأصله يلد بكسر اللام ، وسكون الدال للجزم ، فلما سكن اللام التقى ساكنان ، فلو حرك الأوّل لرجع إلى ما وقع الفرار منه ، فحرك ثانيهما ، وهو الدال . ويمكن أن يقال إنه حرك الأوّل على أصل التقاء الساكنين ، وبقي السكون على الدال لبيان ما عليه أهل هذه اللغة ، ولا يضرّ الرجوع إلى ما وقع الفرار منه ، فهذه الحركة غير تلك الحركة ، والإشارة بقوله { فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُون } إلى الموصوفين بما ذكر من الطاعة ، والخشية ، والتقوى أي هم الفائزون بالنعيم الدنيوي والأخروي لا من عداهم . ثم حكى سبحانه عن المنافقين أنهم لما كرهوا حكمه أقسموا بأنه لو أمرهم بالخروج إلى الغزو لخرجوا ، فقال { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } أي لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن ، و { جهد أيمانهم } منتصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف الناصب له أي أقسموا بالله يجهدون أيمانهم جهداً . ومعنى { جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ } طاقة ما قدروا أن يحلفوا ، مأخوذ من قولهم جهد نفسه إذا بلغ طاقتها ، وأقصى وسعها . وقيل هو منتصب على الحال والتقدير مجتهدين في أيمانهم ، كقولهم افعل ذلك جهدك ، وطاقتك ، وقد خلط الزمخشري الوجهين ، فجعلهما واحداً . وجواب القسم قوله { لَيُخْرِجَنَّ } ولما كانت مقالتهم هذه كاذبة ، وأيمانهم فاجرة ردّ الله عليهم ، فقال { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ } أي ردّ عليهم زاجراً لهم ، وقل لهم لا تقسموا أي لا تحلفوا على ما تزعمونه من الطاعة ، والخروج إلى الجهاد إن أمرتم به ، وهاهنا تمّ الكلام . ثم ابتدأ ، فقال { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } ، وارتفاع طاعة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي طاعتهم طاعة معروفة بأنها طاعة نفاقية لم تكن عن اعتقاد ، ويجوز أن تكون طاعة مبتدأ ، لأنها قد خصصت بالصفة ، ويكون الخبر مقدّراً أي طاعة معروفة أولى بكم من أيمانكم ، ويجوز أن ترتفع بفعل محذوف أي لتكن منكم طاعة ، أو لتوجد ، وفي هذا ضعف لأن الفعل لا يحذف إلاّ إذا تقدّم ما يشعر به . وقرأ زيد بن عليّ ، والترمذي " طاعة " بالنصب على المصدر لفعل محذوف أي أطيعوا طاعة { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الأعمال ، وما تضمرونه من المخالفة لما تنطق به ألسنتكم ، وهذه الجملة تعليل لما قبلها من كون طاعتهم طاعة نفاق . ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بطاعة الله ورسوله ، فقال { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } طاعة ظاهرة ، وباطنة بخلوص اعتقاد ، وصحة نية ، وهذا التكرير منه تعالى لتأكيد وجوب الطاعة عليهم ، فإن قوله { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } في حكم الأمر بالطاعة ، وقيل إنهما مختلفان ، فالأوّل نهي بطريق الردّ ، والتوبيخ ، والثاني أمر بطريق التكليف لهم ، والإيجاب عليهم { فَإِن تَوَلَّوْاْ } خطاب للمأمورين ، وأصله فإن تتولوا ، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً ، وفيه رجوع من الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخطاب لهم لتأكيد الأمر عليهم ، والمبالغة في العناية بهدايتهم إلى الطاعة ، والانقياد ، وجواب الشرط قوله { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ } أي فاعلموا أنما على النبي صلى الله عليه وسلم ما حمل مما أمر به من التبليغ ، وقد فعل ، وعليكم ما حملتم أي ما أمرتم به من الطاعة ، وهو وعيد لهم ، كأنه قال لهم فإن توليتم ، فقد صرتم حاملين للحمل الثقيل { وَإِن تُطِيعُوهُ } فيما أمركم به ، ونهاكم عنه { تَهْتَدُواْ } إلى الحق ، وترشدوا إلى الخير ، وتفوزوا بالأجر ، وجملة { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ } مقرّرة لما قبلها ، واللام إما للعهد ، فيراد بالرسول نبينا صلى الله عليه وسلم ، وإما للجنس ، فيراد كل رسول ، والبلاغ المبين التبليغ الواضح ، أو الموضح . قيل يجوز أن يكون قوله { فَإِن تَوَلَّوْاْ } ماضياً ، وتكون الواو لضمير الغائبين ، وتكون هذه الجملة الشرطية مما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم ، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة ، والأوّل أرجح . ويؤيده الخطاب في قوله { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ } ، وفي قوله { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } ، ويؤيده أيضاً قراءة البزي " فإن تولوا " بتشديد التاء ، وإن كانت ضعيفة لما فيها من الجمع بين ساكنين . { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من أن طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب لهدايتهم ، وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله وعمل الأعمال الصالحات بالاستخلاف لهم في الأرض لما استخلف الذين من قبلهم من الأمم ، وهو وعد يعم جميع الأمة . وقيل هو خاص بالصحابة ، ولا وجه لذلك ، فإن الإيمان وعمل الصالحات لا يختص بهم ، بل يمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة ، ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله ، فقد أطاع الله ورسوله ، واللام في { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأَرْضِ } جواب لقسم محذوف ، أو جواب للوعد بتنزيله منزلة القسم ، لأنه ناجز لا محالة ، ومعنى { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف الملوك في مملوكاتهم ، وقد أبعد من قال إنها مختصة بالخلفاء الأربعة ، أو بالمهاجرين ، أو بأن المراد بالأرض أرض مكة ، وقد عرفت أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وظاهر قوله { كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } كل من استخلفه الله في أرضه ، فلا يخصّ ذلك ببني إسرائيل ولا أمة من الأمم دون غيرها . قرأ الجمهور { كَمَا ٱسْتَخْلَفَ } بفتح الفوقية على البناء للفاعل . وقرأ عيسىٰ بن عمر ، وأبو بكر ، والمفضل ، عن عاصم بضمها على البناء للمفعول ، ومحل الكاف النصب على المصدرية أي استخلافاً كما استخلف ، وجملة { وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ } معطوفة على ليستخلفنهم داخلة تحت حكمه كائنة من جملة الجواب ، والمراد بالتمكين هنا التثبيت ، والتقرير أي يجعله الله ثابتاً مقرّراً ، ويوسع لهم في البلاد ، ويظهر دينهم على جميع الأديان ، والمراد بالدين هنا الإسلام ، كما في قوله { وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإسْلاَمَ دِيناً } المائدة 3 . ذكر سبحانه وتعالى الاستخلاف لهم أوّلاً ، وهو جعلهم ملوكاً ، وذكر التمكين ثانياً ، فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض ، والطروّ ، بل على وجه الاستقرار والثبات ، بحيث يكون الملك لهم ، ولعقبهم من بعدهم . وجملة { وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } معطوفة على التي قبلها . قرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب وأبو بكر " ليبدلنهم " بالتخفيف من أبدل ، وهي قراءة الحسن ، واختارها أبو حاتم . وقرأ الباقون بالتشديد من بدّل ، واختارها أبو عبيد ، وهما لغتان ، وزيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى ، فقراءة التشديد أرجح من قراءة التخفيف . قال النحاس وزعم أحمد بن يحيـىٰ ثعلب أن بين التخفيف والتثقيل فرقاً ، وأنه يقال بدّلته أي غيرته ، وأبدلته أزلته ، وجعلت غيره . قال النحاس ، وهذا القول صحيح . والمعنى أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمناً ، ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخشون إلاّ الله سبحانه ، ولا يرجون غيره . وقد كان المسلمون قبل الهجرة ، وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين ، لا يخرجون إلاّ في السلاح ، ولا يمسون ويصبحون إلاّ على ترقب لنزول المضرّة بهم من الكفار ، ثم صاروا في غاية الأمن ، والدعة ، وأذلّ الله لهم شياطين المشركين ، وفتح عليهم البلاد ، ومهد لهم في الأرض ، ومكنهم منها ، فلله الحمد ، وجملة { يَعْبُدُونَنِي } في محل نصب على الحال ، ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة للثناء عليهم ، وجملة { لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } في محل نصب على الحال من فاعل يعبدونني أي يعبدونني ، غير مشركين بي في العبادة شيئاً من الأشياء ، وقيل معناه لا يراؤون بعبادتي أحداً ، وقيل معناه لا يخافون غيري ، وقيل معناه لا يحبون غيري { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } أي من كفر هذه النعم بعد ذلك الوعد الصحيح ، أو من استمرّ على الكفر ، أو من كفر بعد إيمان ، فأولئك الكافرون ، هم الفاسقون أي الكاملون في الفسق . وهو الخروج عن الطاعة ، والطغيان في الكفر . وجملة { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَة } معطوفة على مقدّر يدلّ عليه ما تقدّم ، كأنه قيل لهم فآمنوا ، واعملوا صالحاً ، وأقيموا الصلاة ، وقيل معطوف على { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ } ، وقيل التقدير فلا تكفروا ، وأقيموا الصلاة . وقد تقدّم الكلام على إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وكرّر الأمر بطاعة الرسول للتأكيد ، وخصه بالطاعة ، لأن طاعته طاعة لله ، ولم يذكر ما يطيعونه فيه لقصد التعميم كما يشعر به الحذف على ما تقرّر في علم المعاني من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي افعلوا ما ذكر من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الرسول راجين أن يرحمكم الله سبحانه { لا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى ٱلأَرْضِ } قرأ ابن عامر ، وحمزة ، وأبو حيوة " لا يحسبنّ " بالتحتية بمعنى لا تحسبنّ الذين كفروا ، وقرأ الباقون بالفوقية أي لا تحسبنّ يا محمد ، والموصول المفعول الأوّل ، ومعجزين الثاني ، لأن الحسبان يتعدّى إلى مفعولين ، قاله الزجاج والفرّاء وأبو علي . وأما على القراءة الأولى ، فيكون المفعول الأوّل محذوفاً أي لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم . قال النحاس وما علمت أحداً بصرياً ولا كوفياً إلاّ وهو يخطّىء قراءة حمزة ، و { معجزين } معناه فائتين . وقد تقدّم تفسيره ، وتفسير ما بعده . وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ } الآية قال أناس من المنافقين أظهروا الإيمان ، وهم في ذلك يصدّون عن سبيل الله وطاعته ، وجهاد مع رسوله صلى الله عليه وسلم . وأخرجوا أيضاً عن الحسن قال إن الرجل كان يكون بينه ، وبين الرجل خصومة ، أو منازعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا دعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو محقّ أذعن ، وعلم أن النبي سيقضي له بالحقّ ، وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض ، وقال أنطلق إلى فلان ، فأنزل الله سبحانه { وَإِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } إلى قوله { هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كان بينه وبين أخيه شيء ، فدعاه إلى حكم من حكام المسلمين ، فلم يجب ، فهو ظالم لا حقّ له " قال ابن كثير بعد أن ساق هذا المتن ما لفظه وهذا حديث غريب ، وهو مرسل . وقال ابن العربي هذا حديث باطل ، فأما قوله فهو ظالم ، فكلام صحيح . وأما قوله فلا حق له ، فلا يصح . ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق . انتهى . وأقول أما كون الحديث مرسلاً ، فظاهر . وأما دعوى كونه باطلاً ، فمحتاجة إلى برهان ، فقد أخرجه ثلاثة من أئمة الحديث عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم كما ذكرنا ، ويبعد كل البعد أن ينفق عليهم ما هو باطل ، وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا قال ابن أبي حاتم حدّثنا أبيّ حدّثنا موسى بن إسماعيل حدّثنا مبارك حدّثنا الحسن فذكره . وليس في هؤلاء كذاب ولا وضاع . ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حقّ له " انتهى . ولا يخفاك أن قضاة العدل ، وحكام الشرع الذين هم على الصفة التي قدّمنا لك قريباً هم سلاطين الدين المترجمون عن الكتاب ، والسنة ، المبينون للناس ما نزل إليهم . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا ، فأنزل الله { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال ذلك في شأن الجهاد ، قال يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } قال أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا . وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } يقول قد عرفت طاعتهم أي إنكم تكذبون به . وأخرج مسلم ، والترمذي ، وغيرهما ، عن علقمة بن وائل الحضرمي ، عن أبيه قال قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق ، ولا يعطونا ؟ قال " فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم " وأخرج ابن جرير ، وابن قانع ، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي ، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال قلت يا رسول … فذكر نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سئل إن كان عليّ إمام فاجر ، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا ؟ قال " قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم ، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم " . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن البراء في قوله { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ } الآية . قال فينا نزلت ، ونحن في خوف شديد . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قال كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده ، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا ، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال ، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة ، فقدموا المدينة ، فأمرهم الله بالقتال ، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ، ويصبحون في السلاح ، فغبروا بذلك ما شاء الله ، ثم إن رجلاً من أصحابه قال يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ، ونضع فيه السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لن تغبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة " ، فأنزل الله { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأَرْضِ } إلى آخر الآية ، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح . ثم إن الله قبض نبيه ، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة ، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم ، وٱتخذوا الحجر والشرط وغيروا فغير ما بهم . وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب . قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد ، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح ، ولا يصبحون إلاّ فيه ، فقالوا أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله ، فنزلت { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } الآية . وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس { يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } قال لا يخافون أحداً غيري . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن مجاهد مثله ، قال { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } العاصون . وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال كفر بهذه النعمة ، ليس الكفر بالله . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة { مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } قال سابقين في الأرض .