Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 39-46)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما ذكر سبحانه حال المؤمنين ، وما يئول إليه أمرهم ذكر مثلاً للكافرين ، فقال { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } المراد بالأعمال هنا هي الأعمال التي من أعمال الخير كالصدقة ، والصلة ، وفكّ العاني ، وعمارة البيت ، وسقاية الحاجّ ، والسراب ما يرى في المفاوز من لمعان الشمس عند اشتداد حرّ النهار على صورة الماء في ظنّ من يراه ، وسمي سراباً لأنه يسرب أي يجري كالماء يقال سرب الفحل أي مضى ، وسار في الأرض ، ويسمى الآل أيضاً . وقيل الآل هو الذي يكون ضحى كالماء ، إلاّ أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين السماء والأرض ، قال امرؤ القيس @ ألم أنض المطيّ بكلّ خرق طويل الطول لماع السراب @@ وقال آخر @ فلما كففنا الحرب كانت عهودهم كلمع سرابٍ بالفلا متألق @@ والقيعة جمع قاع وهو الموضع المنخفض الذي يستقرّ فيه الماء ، مثل جيرة ، وجار ، قاله الهروي . وقال أبو عبيد قيعة ، وقاع واحد . قال الجوهري القاع المستوي من الأرض ، والجمع أقوع وأقواع وقيعان ، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها ، والقيعة مثل القاع . قال وبعضهم يقول هو جمع { يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَاء } هذه صفة ثانية لسراب ، والظمآن العطشان ، وتخصيص الحسبان بالظمآن مع كون الرّيان يراه كذلك ، لتحقيق التشبيه المبنيّ على الطمع { حَتَّىٰ إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } أي إذا جاء العطشان ذلك الذي حسبه ماء لم يجده شيئاً مما قدّره وحسبه ، ولا من غيره ، والمعنى أن الكفار يعوّلون على أعمالهم التي يظنونها من الخير ، ويطمعون في ثوابها ، فإذا قدموا على الله سبحانه لم يجدوا منها شيئاً ، لأن الكفر أحبطها ، ومحا أثرها ، والمراد بقوله { حَتَّىٰ إِذَا جَاءهُ } مع أنه ليس بشيء أنه جاء الموضع الذي كان يحسبه فيه . ثم ذكر سبحانه ما يدلّ على زيادة حسرة الكفرة ، وأنه لم يكن قصارى أمرهم مجرّد الخيبة كصاحب السراب ، فقال { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أي وجد الله بالمرصاد ، فوفاه حسابه أي جزاء عمله ، كما قال امرؤ القيس @ فولى مدبراً يهوى حثيثا وأيقن أنه لاقى الحسابا @@ وقيل وجد وعد الله بالجزاء على عمله ، وقيل وجد أمر الله عند حشره ، وقيل وجد حكمه وقضاءه عند المجيء ، وقيل عند العمل ، والمعنى متقارب . وقرأ مسلمة بن محارب " بقيعاه " بهاء مدورة كما يقال رجل عزهاه . وروى عنه أنه قرأ " بقيعات " بتاء مبسوطة . قيل يجوز أن تكون الألف متولدة من إشباع العين على الأوّل ، وجمع قيعة على الثاني . وروي عن نافع ، وأبي جعفر ، وشيبة أنهم قرؤوا " الظمآن " بغير همز ، والمشهور عنهم الهمز . { أَوْ كَظُلُمَـٰتٍ } معطوف على كسراب ، ضرب الله مثلاً لأعمال الكفار كما أنه تشبه السراب الموصوف بتلك الصفات ، فهي أيضاً تشبه الظلمات . قال الزجاج أعلم الله سبحانه أن أعمال الكفار إن مثلت بما يوجد ، فمثلها كمثل السراب ، وإن مثلت بما يرى ، فهي كهذه الظلمات التي وصف . قال أيضاً إن شئت مثل بالسراب ، وإن شئت مثل بهذه الظلمات ، فأو للإباحة حسبما تقدّم من القول في { أَوْ كَصَيّبٍ } البقرة 19 . قال الجرجاني الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار ، والثانية في ذكر كفرهم ، ونسق الكفر على أعمالهم لأنه أيضاً من أعمالهم . قال القشيري فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار ، وعند الجرجاني لكفر الكفار { فِي بَحْرٍ لُّجّيّ } اللجة معظم الماء ، والجمع لجج ، وهو الذي لا يدرك لعمقه . ثم وصف سبحانه هذا البحر بصفة أخرى ، فقال { يَغْشَـٰهُ مَوْجٌ } أي يعلو هذا البحر موج ، فيستره ويغطيه بالكلية ، ثم وصف هذا الموج بقوله { مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } أي من فوق هذا الموج موج ، ثم وصف الموج الثاني ، فقال { مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب ، فيجتمع حينئذٍ عليهم خوف البحر وأمواجه ، والسحاب المرتفعة فوقه . وقيل إن المعنى يغشاه موج من بعده موج ، فيكون الموج يتبع بعضه بعضاً حتى كأن بعضه فوق بعض ، والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه ، فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه زاد الخوف شدّة ، لأنها تستر النجوم التي يهتدي بها من في البحر ، ثم إذا أمطرت تلك السحاب ، وهبت الريح المعتادة في الغالب عند نزول المطر تكاثفت الهموم ، وترادفت الغموم ، وبلغ الأمر إلى الغاية التي ليس وراءها غاية ، ولهذا قال سبحانه { ظُلُمَـٰتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } أي هي ظلمات متكاثفة مترادفة ، ففي هذه الجملة بيان لشدّة الأمر وتعاظمه ، وقرأ ابن محيصن ، والبزي " سحاب ظلمات " بإضافة سحاب إلى ظلمات ، ووجه الإضافة أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات ، فأضيف إليها لهذه الملابسة . وقرأ الباقون بالقطع ، والتنوين . ومن غرائب التفاسير أنه سبحانه أراد بالظلمات أعمال الكافر ، وبالبحر اللجيّ قلبه ، وبالموج فوق الموج ما يغشى قلبه من الجهل ، والشكّ ، والحيرة . والسحاب الرين ، والختم ، والطبع على قلبه ، وهذا تفسير هو عن لغة العرب بمكانٍ بعيد . ثم بالغ سبحانه في هذه الظلمات المذكورة بقوله { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } وفاعل أخرج ضمير يعود على مقدّر دلّ عليه المقام أي إذا أخرج الحاضر في هذه الظلمات أو من ابتلى بها . قال الزجاج ، وأبو عبيدة المعنى لم يرها ، ولم يكد . وقال الفرّاء إن كاد زائدة . والمعنى إذا أخرج يده لم يرها ، كما تقول ما كدت أعرفه . وقال المبرد يعني لم يرها إلاّ من بعد الجهد . قال النحاس أصح الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها ، فإذن لم يرها رؤية بعيدة ، ولا قريبة ، وجملة { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } مقرّرة لما قبلها من كون أعمال الكفرة على تلك الصفة ، والمعنى ومن لم يجعل الله له هداية ، فما له من هداية . قال الزجاج ذلك في الدنيا ، والمعنى من لم يهده الله لم يهتد ، وقيل المعنى من لم يجعل له نوراً يمشي به يوم القيامة ، فما له من نور يهتدي به إلى الجنة . { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } قد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة سبحان ، والخطاب لكلّ من له أهلية النظر ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد علمه من جهة الاستدلال ومعنى { أَلَمْ تَرَ } ألم تعلم ، والهمزة للتقرير أي قد علمت علماً يقينياً شبيهاً بالمشاهدة ، والتسبيح التنزيه في ذاته ، وأفعاله ، وصفاته عن كل ما لا يليق به ، ومعنى { مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } من هو مستقرّ فيهما من العقلاء ، وغيرهم ، وتسبيح غير العقلاء ما يسمع من أصواتها ، ويشاهد من أثر الصنعة البديعة فيها . وقيل إن التسبيح هنا هو الصلاة من العقلاء ، والتنزيه من غيرهم . وقد قيل إن هذه الآية تشمل الحيوانات ، والجمادات ، وأن آثار الصنعة الإلهية في الجمادات ناطق ، ومخبر باتصافه سبحانه بصفات الجلال ، والكمال ، وتنزّهه عن صفات النقص ، وفي ذلك تقريع للكفار ، وتوبيخ لهم حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له يعبدونها كعبادته عزّ وجلّ . وبالجملة ، فإنه ينبغي حمل التسبيح على ما يليق بكل نوع من أنواع المخلوقات على طريقة عموم المجاز . قرأ الجمهور { والطير صافات } بالرفع للطير ، والنصب لصافات على أن الطير معطوفة على من ، وصافات منتصب على الحال . وقرأ الأعرج " والطير " بالنصب على المفعول معه ، وصافات حال أيضاً . قال الزجاج وهي أجود من الرفع . وقرأ الحسن ، وخارجة عن نافع " والطير صافات " برفعهما على الابتداء ، والخبر ، ومفعول صافات محذوف أي أجنحتها ، وخصّ الطير بالذكر مع دخولها تحت من في السماوات والأرض لعدم استمرار استقرارها في الأرض ، وكثرة لبثها في الهواء ، وهو ليس من السماء ولا من الأرض ، ولما فيها من الصنعة البديعة التي تقدر بها تارة على الطيران ، وتارة على المشي بخلاف غيرها من الحيوانات ، وذكر حالة من حالات الطير ، وهي كون صدور التسبيح منها حال كونها صافات لأجنحتها لأن هذه الحالة هي أغرب أحوالها ، فإن استقرارها في الهواء مسبحة من دون تحريك لأجنحتها ، ولا استقرار على الأرض من أعظم صنع الله الذي أتقن كلّ شيء . ثم زاد في البيان فقال { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } أي كلّ واحد مما ذكر ، والضمير في علم يرجع إلى كلّ ، والمعنى أن كل واحد من هذه المسبحات لله قد علم صلاة المصلي وتسبيح المسبح . وقيل المعنى أن كلّ مصلّ ومسبح قد علم صلاة نفسه ، وتسبيح نفسه . قيل والصلاة هنا بمعنى التسبيح ، وكرّر للتأكيد ، والصلاة قد تسمى تسبيحاً . وقيل المراد بالصلاة هنا الدعاء أي كل واحد قد علم دعاءه ، وتسبيحه . وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك ، أن صدور هذا التسبيح هو عن علم قد علمها الله ذلك ، وألهمها إليه ، لا أن صدوره منها على طريقة الإتفاق بلا روية ، وفي ذلك زيادة دلالة على بديع صنع الله سبحانه ، وعظيم شأنه ، كونه جعلها مسبحة له عالمة بما يصدر منها غير جاهلة له { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } هذه الجملة مقرّرة لما قبلها أي لا تخفى عليه طاعتهم ، ولا تسبيحهم ، ويجوز أن يكون الضمير في { علم } لله سبحانه ، أي كلّ واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلاته له ، وتسبيحه إياه ، والأوّل أرجح لاتفاق القرّاء على رفع كل ، ولو كان الضمير في علم لله لكان نصب كل أولى . وذكر بعض المفسرين أنها قراءة طائفة من القراء علم على البناء للمفعول . ثم بين سبحانه أن المبدأ منه ، والمعاد إليه ، فقال { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي له لا لغيره { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } لا إلى غيره ، والمصير الرجوع بعد الموت . وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في غير موضع . ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر من الآثار العلوية ، فقال { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً } الإزجاء السوق قليلاً قليلاً ، ومنه قول النابغة @ إني أتيتك من أهلي ومن وطني أزجي حشاشة نفس ما بها رمق @@ وقوله أيضاً @ أسرت عليه من الجوزاء سارية يزجي السماك عليه جامد البرد @@ والمعنى أنه سبحانه يسوق السحاب سوقاً رقيقاً إلى حيث يشاء { ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ } أي بين أجزائه ، فيضم بعضه إلى بعض ، ويجمعه بعد تفرّقه ليقوى ، ويتصل ، ويكثف ، والأصل في التأليف الهمز . وقرأ ورش ، وقالون عن نافع " يولف " بالواو تخفيفاً ، والسحاب واحد في اللفظ ، ولكن معناه جمع ، ولهذا دخلت « بين » عليه لأن أجزاءه في حكم المفردات له . قال الفراء إن الضمير في { بينه } راجع إلى جملة السحاب ، كما تقول الشجر قد جلست بينه ، لأنه جمع ، وأفرد الضمير باعتبار اللفظ { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي متراكماً يركب بعضه بعضاً . والركم جمع الشيء ، يقال ركم الشيء يركمه ركماً أي جمعه وألقى بعضه على بعض وارتكم الشيء ، وتراكم إذا اجتمع . والركمة الطين المجموع ، والركام الرمل المتراكب { فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } الودق المطر عند جمهور المفسرين ، ومنه قول الشاعر @ فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها @@ وقال امرؤ القيس @ فدمعهما ودق وسح وديمة وسكب وتوكاف وتنهملان @@ يقال ودقت السحاب فهي وادقة ، وودق المطر يدق أي قطر يقطر ، وقيل إن الودق البرق ، ومنه قول الشاعر @ أثرن عجاجة وخرجن منها خروج الودق من خلل السحاب @@ والأوّل أولى . ومعنى { مِنْ خِلاَلِهِ } من فتوقه التي هي مخارج القطر ، وجملة { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } في محل نصب على الحال ، لأن الرؤية هنا هي البصرية . وقرأ ابن عباس وابن مسعود والضحاك وأبو العالية " من خلله " على الإفراد . وقد وقع الخلاف في خلال هل هو مفرد كحجاب ؟ أو جمع كجبال ؟ { وَيُنَزّلُ مِنَ ٱلسَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } المراد بقوله من سماء من عال ، لأن السماء قد تطلق على جهة العلوّ ، ومعنى { من جبال } من قطع عظام تشبه الجبال ، ولفظ « فيها » في محل نصب على الحال ، و « من » في { من برد } للتبعيض ، وهو مفعول ينزل . وقيل إن المفعول محذوف ، والتقدير ينزل من جبال فيها من برد برداً . وقيل إن من في { من برد } زائدة ، والتقدير ينزل من السماء من جبال فيها برد . وقيل إن في الكلام مضافاً محذوفاً أي ينزل من السماء قدر جبال ، أو مثل جبال من برد إلى الأرض . قال الأخفش إن من في { من جبال } وفي { من برد } زائدة في الموضعين ، والجبال والبرد في موضع نصب أي ينزل من السماء برداً يكون كالجبال . والحاصل أن « من » في { من السماء } لابتداء الغاية بلا خلاف ، و « من » في { من جبال } فيها ثلاثة أوجه الأوّل لابتداء الغاية ، فتكون هي ومجرورها بدلاً من الأولى بإعادة الخافض بدل اشتمال . الثاني أنها للتبعيض فتكون على هذا هي ومجرورها في محل نصب على أنها مفعول الإنزال ، كأنه قال وينزل بعض جبال . الثالث أنها زائدة أي ينزل من السماء جبالاً . وأما « من » في { من برد } ففيها أربعة أوجه الثلاثة المتقدّمة . والرابع أنها لبيان الجنس ، فيكون التقدير على هذا الوجه وينزل من السماء بعض جبال التي هي البرد . قال الزجاج معنى الآية وينزل من السماء من جبال برد فيها كما تقول هذا خاتم في يدي من حديد أي خاتم حديد في يدي ، لأنك إذا قلت هذا خاتم من حديد ، وخاتم حديد كان المعنى واحداً . انتهى . وعلى هذا يكون { من برد } في موضع جرّ صفة لجبال كما كان من حديد صفة لخاتم ، ويكون مفعول ينزل { من جبال } ، ويلزم من كون الجبال برداً أن يكون المنزل برداً . وذكر أبو البقاء أن التقدير شيئاً من جبال ، فحذف الموصوف ، واكتفى بالصفة { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء } أي يصيب بما ينزل من البرد من يشاء أن يصيبه من عباده { وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء } منهم ، أو يصيب به مال من يشاء ، ويصرفه عن مال من يشاء ، وقد تقدّم الكلام عن مثل هذا في البقرة . { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَـٰرِ } السنا الضوء ، أي يكاد ضوء البرق الذي في السحاب يذهب بالأبصار من شدّة بريقه ، وزيادة لمعانه ، وهو كقوله { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ } البقرة 20 قال الشماخ @ وما كادت إذا رفعت سناها ليبصر ضوءها إلاّ البصير @@ وقال امرؤ القيس @ يضيء سناه أو مصابيح راهب أمال السليط في الذبال المفتل @@ فالسنا بالقصر ضوء البرق ، وبالمدّ الرفعة ، كذا قال المبرّد ، وغيره . وقرأ طلحة بن مصرف ، ويحيىٰ ابن وثاب " سناء برقه " بالمدّ على المبالغة في شدّة الضوء ، والصفاء ، فأطلق عليه اسم الرفعة ، والشرف . وقرأ طلحة ، ويحيى أيضاً بضم الباء من برقه ، وفتح الراء . قال أحمد بن يحيىٰ ثعلب وهي على هذه القراءة جمع برق . وقال النحاس البرقة المقدار من البرق ، والبرقة الواحدة . وقرأ الجحدري ، وابن القعقاع " يذهب " بضم الياء ، وكسر الهاء من الإذهاب . وقرأ الباقون { سنا } بالقصر و { بَرْقه } بفتح الباء ، وسكون الراء ، و { يَذْهَبُ } بفتح الياء والهاء من الذهاب ، وخطأ قراءة الجحدري وابن القعقاع الأخفش وأبو حاتم . ومعنى ذهاب البرق بالأبصار خطفه إياها من شدّة الإضاءة ، وزيادة البريق ، والباء في { بالأبصار } على قراءة الجمهور للإلصاق ، وعلى قراءة غيرهم زائدة . { يُقَلّبُ ٱللَّهُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } أي يعاقب بينهما ، وقيل يزيد في أحدهما ، وينقص الآخر ، وقيل يقلبهما باختلاف ما يقدره فيهما من خير وشرّ ، ونفع وضرّ ، وقيل بالحرّ والبرد ، وقيل المراد بذلك تغيير النهار بظلمة السحاب مرّة ، وبضوء الشمس أخرى ، وتغيير الليل بظلمة السحاب تارة ، وبضوء القمر أخرى ، والإشارة بقوله { إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِى ٱلأَبْصَـٰرِ } إلى ما تقدّم ، ومعنى العبرة الدلالة الواضحة التي يكون بها الاعتبار ، والمراد بأولي الأبصار كل من له بصر يبصر به . ثم ذكر سبحانه دليلاً ثالثاً من عجائب خلق الحيوان ، وبديع صنعته ، فقال { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء } قرأ يحيـىٰ بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي " والله خالق كل دابة " ، وقرأ الباقون { خلق } ، والمعنيان صحيحان ، والدابة كلّ ما دب على الأرض من الحيوان ، يقال دبّ يدبّ ، فهو دابّ ، والهاء للمبالغة ، ومعنى { مِن مَّاء } من نطفة ، وهي المنيّ ، كذا قال الجمهور . وقال جماعة إن المراد الماء المعروف ، لأن آدم خلق من الماء ، والطين . وقيل في الآية تنزيل الغالب منزلة الكل على القول الأوّل ، لأن في الحيوانات ما يتولد لا عن نطفة ، ويخرج من هذا العموم الملائكة ، فإنهم خلقوا من نور ، والجانّ ، فإنهم خلقوا من نار . ثم فصل سبحانه أحوال كلّ دابة ، فقال { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ } ، وهي الحيات والحوت والدود ونحو ذلك { وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ } الإنسان والطير { وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ } سائر الحيوانات ، ولم يتعرّض لما يمشي على أكثر من أربع لقلته ، وقيل لأن المشي على أربع فقط ، وإن كانت القوائم كثيرة ، وقيل لعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع ، ولا وجه لهذا ، فإن المراد التنبيه على بديع الصنع ، وكمال القدرة ، فكيف يقال لعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع ؟ وقيل ليس في القرآن ما يدلّ على عدم المشي على أكثر من أربع ، لأنه لم ينف ذلك ، ولا جاء بما يقتضي الحصر ، وفي مصحف أبيّ " ومنهم من يمشي على أكثر " ، فعمّ بهذه الزيادة جميع ما يمشي على أكثر من أربع ، كالسرطان والعناكب وكثير من خشاش الأرض { يَخْلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَاء } مما ذكره هاهنا ، ومما لم يذكره ، كالجمادات مركبها وبسيطها ، ناميها وغير ناميها { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } لا يعجزه شيء بل الكلّ من مخلوقاته داخل تحت قدرته سبحانه . { لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايَـٰتٍ مُّبَيّنَـٰتٍ } أي القرآن ، فإنه قد اشتمل على بيان كلّ شيء ، وما فرّطنا في الكتاب من شيء ، وقد تقدّم بيان مثل هذا في غير موضع { وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء } بتوفيقه للنظر الصحيح ، وإرشاده إلى التأمل الصادق { إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } إلى طريق مستوي لا عوج فيه ، فيتوصل بذلك إلى الخير التام ، وهو نعيم الجنة . وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ } قال هو مثل ضربه الله كرجل عطش ، فاشتد عطشه ، فرأى سراباً ، فحسبه ماء ، فطلبه ، فظن أنه قدر عليه حتى أتى ، فلما أتاه لم يجده شيئاً ، وقبض عند ذلك ، يقول الكافر كذلك السراب إذا أتاه الموت لم يجد عمله يغني عنه شيئاً ، ولا ينفعه إلاّ كما نفع السراب العطشان { أَوْ كَظُلُمَـٰتٍ فِي بَحْرٍ لُّجّىّ } قال يعني بالظلمات الأعمال ، وبالبحر اللجيّ قلب الإنسان { يَغْشَـٰهُ مَوْجٌ } يعني بذلك الغشاوة التي على القلب ، والسمع والبصر . وأخرج ابن جرير عنه { بِقِيعَةٍ } بأرض مستوية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم مِن طريق السديّ ، عن أبيه ، عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الكفار يبعثون يوم القيامة ورداً عطاشاً ، فيقولون أين الماء ؟ فيتمثل لهم السراب ، فيحسبونه ماء ، فينطلقون إليه ، فيجدون الله عنده ، فيوفيهم حسابه ، والله سريع الحساب " ، وفي إسناده السديّ عن أبيه ، وفيه مقال معروف . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة في قوله { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } قال الصلاة للإنسان ، والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله { وَٱلطَّيْرُ صَافَّـٰتٍ } قال بسط أجنحتهن . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة نحوه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } يقول ضوء برقه . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس قال كل شيء يمشي على أربع إلاّ الإنسان . وأقول هذه الطيور على اختلاف أنواعها تمشي على رجلين ، وهكذا غيرها ، كالنعامة ، فإنها تمشي على رجلين ، وليست من الطير ، فهذه الكلية المروية عنه رضي الله عنه لا تصحّ .