Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 160-191)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ذكر سبحانه القصة السادسة من قصص الأنبياء مع قومهم ، وهي قصة لوط . وقد تقدّم تفسير قوله { إِذْ قَالَ لَهُمْ } إلى قوله { إِلاَّ عَلَىٰ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } في هذه السورة ، وتقدّم أيضاً تفسير قصة لوط مستوفى في الأعراف قوله { أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ } الذكران جمع الذكر ضدّ الأنثى ، ومعنى { تأتون } تنكحون الذكران من العالمين ، وهم بنو آدم ، أو كل حيوان ، وقد كانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدّم في الأعراف . { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أَزْوٰجِكُمْ } أي وتتركون ما خلقه الله لأجل استمتاعكم به من النساء ، وأراد بالأزواج جنس الإناث { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } أي مجاوزون للحدّ في جميع المعاصي ، ومن جملتها هذه المعصية التي ترتكبونها من الذكران { قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يٰلُوطُ } عن الإنكار علينا ، وتقبيح أمرنا { لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُخْرَجِينَ } من بلدنا المنفيين عنها { قَالَ إِنّي لِعَمَلِكُمْ } ، وهو ما أنتم فيه من إتيان الذكران { مّنَ ٱلْقَـٰلِينَ } المبغضين له ، والقلي البغض ، قليته أقليه قلا ، وقلاء ، ومنه قول الشاعر @ فلست بمقلي الخلال ولا قالي @@ وقال الآخر @ ومالك عندي إن نأيت قلاء @@ ثم رغب عليه الصلاة والسلام عن محاورتهم ، وطلب من الله عزّ وجلّ أن ينجيه ، فقال { رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ } أي من عملهم الخبيث ، أو من عقوبته التي ستصيبهم ، فأجاب الله سبحانه دعاءه ، وقال { فَنَجَّيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ } أي أهل بيته ، ومن تابعه على دينه ، وأجاب دعوته { إِلاَّ عَجُوزاً فِي ٱلْغَـٰبِرِينَ } هي امرأة لوط ، ومعنى { فِي ٱلْغَـٰبِرِينَ } من الباقين في العذاب . وقال أبو عبيدة من الباقين في الهرم أي بقيت حتى هرمت . قال النحاس يقال للذاهب غابر ، وللباقي غابر . قال الشاعر @ لا تكسع الشول بأغبارها إنك لا تدري من الناتج @@ والأغبار بقية الألبان ، وتقول العرب ما مضى ، وما غبر أي ما مضى ، وما بقي { ثُمَّ دَمَّرْنَا ٱلآخَرِينَ } أي أهلكناهم بالخسف ، والحصب . { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا } يعني الحجارة { فَسَاء مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ } المخصوص بالذمّ محذوف ، والتقدير مطرهم ، وقد تقدّم تفسير { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } في هذه السورة . { كَذَّبَ أَصْحَـٰبُ لْـئَيْكَةِ ٱلْمُرْسَلِينَ } قرأ نافع وابن كثير وابن عامر " ليكة " بلام واحدة وفتح التاء جعلوه اسماً غير معرّف بأل مضافاً إليه أصحاب ، وقرأ الباقون . { الأيكة } معرفاً ، و { الأيكة } الشجر الملتف ، وهي الغيضة ، وليكة اسم للقرية ، وقيل هما بمعنى واحد اسم للغيضة . قال القرطبي فأما ما حكاه أبو عبيد من أن ليكة اسم القرية التي كانوا فيها ، وأن الأيكة اسم البلد كله ، فشيء لا يثبت ، ولا يعرف من قاله ولو عرف لكان فيه نظر لأن أهل العلم جميعاً على خلافه . قال أبو عليّ الفارسي الأيكة تعريف أيكة ، فإذا حذفت الهمزة تخفيفاً ألقيت حركتها على اللام . قال الخليل الأيكة غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } لم يقل أخوهم كما قال في الأنبياء قبله لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب ، فلما ذكر مدين قال أخاهم شعيباً لأنه كان منهم ، وقد مضى تحقيق نسبه في الأعراف ، وقد تقدم تفسير قوله { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } إلى قوله تعالى { إِلاَّ عَلَىٰ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } في هذه السورة . قوله { أَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُخْسِرِينَ } أي أتموا الكيل لمن أراده ، وعامل به ، ولا تكونوا من المخسرين الناقصين للكيل والوزن ، يقال أخسرت الكيل والوزن أي نقصته ، ومنه قوله تعالى { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } المطففين 3 ، ثم زاد سبحانه في البيان ، فقال { وَزِنُواْ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ } أي أعطوا الحقّ بالميزان السويّ ، وقد مرّ بيان تفسير هذا في سورة سبحان ، وقد قرىء { بالقسطاس } مضموماً ، ومكسوراً { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ } البخس النقص ، يقال بخسه حقه إذا نقصه ، أي لا تنقصوا الناس حقوقهم التي لهم ، وهذا تعميم بعد التخصيص ، وقد تقدّم تفسيره في سورة هود ، وتقدّم أيضاً تفسير { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } فيها ، وفي غيرها { وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلْجِبِلَّةَ ٱلأَوَّلِينَ } قرأ الجمهور بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وقرأ أبو حصين والأعمش والحسن والأعرج وشيبة بضمهما وتشديد اللام ، وقرأ السلمي بفتح الجيم مع سكون الباء . والجبلة الخليقة قاله مجاهد ، وغيره يعني الأمم المتقدّمة ، يقال جبل فلان على كذا أي خلق . قال النحاس الخلق يقال له جبلة بكسر الحرفين الأوّلين وبضمهما مع تشديد اللام فيهما ، وبضم الجيم وفتحها وسكون الباء ، قال الهروي الجِبِلَّة والجُبْلَة والجِبِلّ والجُبُلّ لغات ، وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس ، ومنه قوله تعالى { جِبِلاًّ كَثِيراً } يۤس 62 أي خلقاً كثيراً ، ومن ذلك قول الشاعر @ والموت أعظم حادث فيما يمرّ على الجبلة @@ { قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } قد تقدّم تفسيره مستوفى في هذه السورة . { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ } " إن " هي المخففة من الثقيلة عملت في ضمير شأن مقدّر ، واللام هي الفارقة أي فيما تدّعيه علينا من الرسالة ، وقيل هي النافية ، واللام بمعنى إلاّ أي ما نظنك إلاّ من الكاذبين ، والأوّل أولى . { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ ٱلسَّمَاء } كان شعيب يتوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا ، فقالوا له هذا القول نعتاً واستبعاداً وتعجيزاً . والكسف القطعة . قال أبو عبيدة الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدرة . قال الجوهري الكسفة القطعة من الشيء ، يقال أعطني كسفة من ثوبك ، والجمع كسف ، وقد مضى تحقيق هذا في سورة سبحان . { إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } في دعواك { قَالَ رَبّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الشرك ، والمعاصي ، فهو مجازيكم على ذلك إن شاء ، وفي هذا تهديد شديد { فَكَذَّبُوهُ } ، فاستمروا على تكذيبه ، وأصرّوا على ذلك { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ } ، والظلة السحاب ، أقامها الله فوق رؤوسهم ، فأمطرت عليهم ناراً ، فهلكوا ، وقد أصابهم الله بما اقترحوا لأنهم إن أرادوا بالكسف القطعة من السحاب فظاهر ، وإن أرادوا بها القطعة من السماء ، فقد نزل عليهم العذاب من جهتها ، وأضاف العذاب إلى يوم الظلة لا إلى الظلة تنبيهاً على أن لهم في ذلك اليوم عذاباً غير عذاب الظلة ، كذا قيل . ثم وصف سبحانه هذا العذاب الذي أصابهم بقوله { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } لما فيه من الشدّة عليهم التي لا يقادر قدرها ، وقد تقدّم تفسير قوله { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } في هذه السورة مستوفى ، فلا نعيده ، وفي هذا التكرير لهذه الكلمات في آخر هذه القصص من التهديد والزجر والتقرير والتأكيد ما لا يخفى على من يفهم مواقع الكلام ويعرف أساليبه . وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أَزْوٰجِكُمْ } قال تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال وأدبار النساء . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة نحوه . وأخرجا أيضاً عن قتادة { إِلاَّ عَجُوزاً فِي ٱلْغَـٰبِرِينَ } قال هي امرأة لوط غبرت في عذاب الله . وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد " ليكة " قال هي الأيكة . وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس في قوله { كَذَّبَ أَصْحَـٰبُ لْـئَيْكَةِ ٱلْمُرْسَلِينَ } قال كانوا أصحاب غيضة من ساحل البحر إلى مدين { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ } ، ولم يقل أخوهم شعيب . لأنه لم يكن من جنسهم { أَلاَ تَتَّقُونَ } كيف لا تتقون وقد علمتم أني رسول أمين ، لا تعتبرون من هلاك مدين ، وقد أهلكوا فيما يأتون ؟ وكان أصحاب الأيكة مع ما كانوا فيه من الشرك استنوا بسنة أصحاب مدين ، فقال لهم شعيب { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْـئَلُكُمْ } على ما أدعوكم إليه { مِنْ أَجْرٍ } في العاجل من أموالكم إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ . { وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلْجِبِلَّةَ ٱلأَوَّلِينَ } يعني القرون الأوّلين الذي أهلكوا بالمعاصي ، ولا تهلكوا مثلهم . { قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ } يعني من المخلوقين . { وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ ٱلسَّمَاء } يعني قطعاً من السماء { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ } أرسل الله إليهم سموماً من جهنم ، فأطاف بهم سبعة أيام حتى أنضجهم الحر ، فحميت بيوتهم ، وغلت مياههم في الآبار ، والعيون ، فخرجوا من منازلهم ومحلتهم هاربين ، والسموم معهم ، فسلّط الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم ، فغشيتهم حتى تقلقلت فيها جماجمهم ، وسلّط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم ثم نشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء ، فلما رأوها ابتدروها يستغيثون بظلها حتى إذا كانوا جميعاً أطبقت عليهم فهلكوا ونجى الله شعيباً والذين آمنوا معه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال { وَٱلْجِبِلَّةَ ٱلأَوَّلِينَ } الخلق الأوّلين . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضاً أنه سئل عن قوله { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ } قال بعث الله عليهم حرًّا شديداً ، فأخذ بأنفاسهم ، فدخلوا أجواف البيوت ، فدخل عليهم أجوافها فأخذ بأنفسهم ، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية ، فبعث الله عليهم سحابة ، فأظلتهم من الشمس فوجدوا لها برداً ولذة ، فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أسقط الله عليهم ناراً ، فذلك عذاب يوم الظلة . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضاً قال من حدّثك من العلماء عذاب يوم الظلة ، فكذبه . أقول فما نقول له رضي الله عنه فيما حدّثنا به من ذلك مما نقلناه عنه ها هنا ؟ ويمكن أن يقال إنه لما كان هو البحر الذي علّمه الله تأويل كتابه بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم كان مختصاً بمعرفة هذا الحديث دون غيره من أهل العلم ، فمن حدّث بحديث عذاب الظلة على وجه غير هذا الوجه الذي حدّثنا به ، فقد وصانا بتكذيبه ، لأنه قد علمه ، ولم يعلمه غيره .