Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 27-40)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

جملة { قَالَ سَنَنظُرُ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر أي قال سليمان للهدهد سننظر فيما أخبرتنا به من هذه القصة { أَصَدَقْتَ } فيما قلت { أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ } هذه الجملة الاستفهامية في محل نصب على أنها مفعول { سننظر } ، وأم هي المتصلة ، وقوله { أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ } أبلغ من قوله أم كذبت لأن المعنى من الذين اتصفوا بالكذب ، وصار خلقاً لهم . والنظر هو التأمل والتصفح ، وفيه إرشاد إلى البحث عن الأخبار ، والكشف عن الحقائق ، وعدم قبول خبر المخبرين تقليداً لهم واعتماداً عليهم إذا تمكن من ذلك بوجه من الوجوه . ثم بيّن سليمان هذا النظر الذي وعد به فقال { ٱذْهَب بّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ } أي إلى أهل سبأ . قال الزجاج في " ألقه " خمسة أوجه إثبات الياء في اللفظ وحذفها ، وإثبات الكسرة للدلالة عليها ، وبضم الهاء وإثبات الواو ، وبحذف الواو وإثبات الضمة للدلالة عليها ، وبإسكان الهاء . وقرأ بهذه اللغة الخامسة أبو عمرو وحمزة وأبو بكر . وقرأ قالون بكسر الهاء فقط من غير ياء . وروي عن هشام وجهان إثبات الياء لفظاً ، وحذفها مع كسر الهاء . وقرأ الباقون بإثبات الياء في اللفظ . وقوله { بّكِتَابِي هَـٰذَا } يحتمل أن يكون اسم الإشارة صفة للكتاب ، وأن يكون بدلاً منه ، وأن يكون بياناً له ، وخصّ الهدهد بإرساله بالكتاب لأنه المخبر بالقصة ، ولكونه رأى منه من مخايل الفهم والعلم ما يقتضي كونه أهلاً للرسالة { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } أي تنحّ عنهم ، أمره بذلك لكون التنحي بعد دفع الكتاب من أحسن الآداب التي يتأدب بها رسول الملوك ، والمراد التنحي إلى مكان يسمع فيه حديثهم حتى يخبر سليمان بما سمع ، وقيل معنى التولي الرجوع إليه ، والأوّل أولى لقوله { فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } أي تأمل وتفكر فيما يرجع بعضهم إلى بعض من القول وما يتراجعونه بينهم من الكلام . { قَالَتْ } أي بلقيس { يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأ إِنّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } في الكلام حذف ، والتقدير فذهب الهدهد ، فألقاه إليهم ، فسمعها تقول يا أيها الملأ إلخ ، ووصفت الكتاب بالكريم لكونه من عند عظيم في نفسها ، فعظمته إجلالاً لسليمان ، وقيل وصفته بذلك لاشتماله على كلام حسن ، وقيل وصفته بذلك لكونه وصل إليها مختوماً بخاتم سليمان ، وكرامة الكتاب ختمه كما روي ذلك مرفوعاً . ثم بينت ما تضمنه هذا الكتاب ، فقالت { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } أي وإن ما اشتمل عليه من الكلام ، وتضمنه من القول مفتتح بالتسمية ، وبعد التسمية { أَن لا تَعْلُواْ عَلَيَّ } أي لا تتكبروا كما يفعله جبابرة الملوك ، و " أن " هي المفسرة ، وقيل مصدرية ، ولا ناهية ، وقيل نافية ، ومحل الجملة الرفع على أنها بدل من كتاب ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هو أن لا تعلوا . قرأ الجمهور { إنه من سليمان وإنه } بكسرهما على الاستئناف ، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتحهما على إسقاط حرف الجرّ ، وقرأ أبيّ " إن من سليمان وإن بسم الله " بحذف الضميرين ، وإسكان النونين على أنهما مفسرتان ، وقرأ عبد الله بن مسعود " وإنه من سليمان " بزيادة الواو ، وروي ذلك أيضاً عن أبيّ ، وقرأ أشهب العقيلي وابن السميفع " أن لا تغلوا " بالغين المعجمة من الغلوّ ، وهو تجاوز الحدّ في الكبر { وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أي منقادين للدين مؤمنين بما جئت به . { قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأَ أَفْتُونِي فِى أَمْرِي } الملأ أشراف القوم ، والمعنى يا أيها الأشراف أشيروا علي ، وبيّنوا لي الصواب في هذا الأمر ، وأجيبوني بما يقتضيه الحزم ، وعبرت عن المشورة بالفتوى لكون في ذلك حلّ لما أشكل من الأمر عليها ، وفي الكلام حذف ، والتقدير فلما قرأت بلقيس الكتاب جمعت أشراف قومها ، وقالت لهم يا أيها الملأ إني ألقي إليّ ، يا أيها الملأ أفتوني ، وكرّر « قالت » لمزيد العناية بما قالته لهم ، ثم زادت في التأدب ، واستجلاب خواطرهم ، ليمحضوها النصح ، ويشيروا عليها بالصواب ، فقالت { مَا كُنتُ قَـٰطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ } أي ما كنت مبرمة أمراً من الأمور حتى تحضروا عندي ، وتشيروا عليّ . فقولوا مجيبين لها { نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ } في العدد والعدّة { وَأُوْلُواْ بَأْسٍ شَدِيدٍ } عند الحرب ، واللقاء لنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا وبلدنا ومملكتنا . ثم فوّضوا الأمر إليها لعلمهم بصحة رأيها ، وقوّة عقلها فقالوا { وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ } أي موكول إلى رأيك ونظرك { فَٱنظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } أي تأملي ماذا تأمرينا به فنحن سامعون لأمرك مطيعون له فلما سمعت تفويضهم الأمر إليها { قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } أي إذا دخلوا قرية من القرى خرّبوا مبانيها ، وغيروا معانيها ، وأتلفوا أموالها ، وفرّقوا شمل أهلها { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } أي أهانوا أشرافها ، وحطوا مراتبهم ، فصاروا عند ذلك أذلة ، وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتمّ لهم الملك ، وتستحكم لهم الوطأة ، وتتقرّر لهم في قلوبهم المهابة . قال الزجاج أي إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة ، والمقصود من قولها هذا تحذير قومها من مسير سليمان إليهم ، ودخوله بلادهم ، وقد صدقها الله سبحانه فيما قالت ، فقال سبحانه { وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ } أي مثل ذلك الفعل يفعلون . قال ابن الأنباري الوقف على قوله { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً } وقف تام ، فقال الله عزّ وجلّ تحقيقاً لقولها { وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ } ، وقيل هذه الجملة من تمام كلامها ، فتكون من جملة مقول قولها ، وعلى القول الأوّل تكون هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب . ثم لما قدّمت لهم هذه المقدّمة ، وبيّنت لهم ما في دخول الملوك إلى أرضهم من المفسدة ، أوضحت لهم وجه الرأي عندها ، وصرحت لهم بصوابه ، فقالت { وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } أي إني أجرّب هذا الرجل بإرسال رسلي إليه بهدية مشتملة على نفائس الأموال ، فإن كان ملكاً أرضيناه بذلك وكفينا أمره ، وإن كان نبياً لم يرضه ذلك ، لأن غاية مطلبه ومنتهى أربه هو الدعاء إلى الدين ، فلا ينجينا منه إلاّ إجابته ومتابعته والتدين بدينه وسلوك طريقته ولهذا قالت { فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ } الفاء للعطف على مرسلة ، و { بم } متعلق بـ { يرجع } ، والمعنى إني ناظرة فيما يرجع به رسلي المرسلون بالهدية من قبول أو ردّ فعاملة بما يقتضيه ذلك ، وقد طوّل المفسرون في ذكر هذه الهدية ، وسيأتي في آخر البحث بيان ما هو أقرب ما قيل إلى الصواب والصحة . { فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ } أي فلما جاء رسولها المرسل بالهدية سليمان ، والمراد بهذا المضمر الجنس ، فلا ينافي كونهم جماعة كما يدل عليه قولها { بم يرجع المرسلون } وقرأ عبد الله " فلما جاؤوا سليمان " أي الرسل ، وجملة { قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والاستفهام للاستنكار أي قال منكراً لإمدادهم له بالمال مع علوّ سلطانه وكثرة ماله . وقرأ حمزة بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية ، والباقون بنونين من غير إدغام ، وأما الياء ، فإن نافعاً وأبا عمرو وحمزة يثبتونها وصلاً ويحذفونها وقفاً ، وابن كثير يثبتها في الحالين ، والباقون يحذفونها في الحالين . وروي عن نافع أنه يقرأ بنون واحدة { فَمَا ءاتَـٰنِي ٱللَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَـٰكُمْ } أي ما آتاني من النبوّة والملك العظيم والأموال الكثيرة خير مما آتاكم من المال الذي هذه الهدية من جملته . قرأ أبو عمرو ونافع وحفص { آتاني الله } بياء مفتوحة وقرأ يعقوب بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل ، وقرأ الباقون بغير ياء في الوصل والوقف . ثم إنه أضرب عن الإنكار المتقدّم ، فقال { بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } توبيخاً لهم بفرحهم بهذه الهدية فرح فخر وخيلاء ، وأما أنا فلا أفرح بها ، وليست الدنيا من حاجتي ، لأن الله سبحانه قد أعطاني منها ما لم يعطه أحداً من العالمين ، ومع ذلك أكرمني بالنبوّة . والمراد بهذا الإضراب من سليمان بيان السبب الحامل لهم على الهدية مع الإزراء بهم ، والحط عليهم . { ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } أي قال سليمان للرسول ارجع إليهم أي إلى بلقيس وقومها ، خاطب المفرد ها هنا بعد خطابه للجماعة فيما قبل ، إما لأن الذي سيرجع هو الرسول فقط ، أو خص أمير الرسل بالخطاب هنا وخاطبهم معه فيما سبق افتناناً في الكلام . وقرأ عبد الله بن عباس " ارجعوا " ، وقيل إن الضمير يرجع إلى الهدهد ، واللام في " لنأتيهم " جواب قسم محذوف . قال النحاس وسمعت ابن كيسان يقول هي لام توكيد ولام أمر ولام خفض ، وهذا قول الحذاق من النحويين لأنهم يردّون الشيء إلى أصله ، وهذا لا يتهيأ إلاّ لمن درب في العربية ، ومعنى { لاَّ قِبَلَ لَهُمْ } لا طاقة لهم بها ، والجملة في محل جرّ صفة لجنود { وَلَنُخْرِجَنَّهُم } معطوف على جواب القسم ، أي لنخرجنهم من أرضهم التي هم فيها { أَذِلَّةٍ } أي حال كونهم أذلة بعد ما كانوا أعزّة ، وجملة { وَهُمْ صَـٰغِرُونَ } في محل نصب على الحال ، قيل وهي حال مؤكدة لأن الصغار هو الذلة ، وقيل إن المراد بالصغار هنا الأسر ، والاستعباد ، وقيل إن الصغار الإهانة التي تسبب عنها الذلة . ولما رجع الرسول إلى بلقيس تجهزت للمسير إلى سليمان ، وأخبر جبريل سليمان بذلك ، فقال سليمان { ياأَيُّهَا ٱلْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا } أي عرش بلقيس الذي تقدّم وصفه بالعظم { قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أي قبل أن تأتيني هي وقومها مسلمين . قيل إنما أراد سليمان أخذ عرشها قبل أن يصلوا إليه ويسلموا لأنها إذا أسلمت وأسلم قومها لم يحلّ أخذ أموالهم بغير رضاهم . قال ابن عطية وظاهر الروايات أن هذه المقالة من سليمان هي بعد مجيء هديتها وردّه إياها وبعثه الهدهد بالكتاب ، وعلى هذا جمهور المتأوّلين . وقيل استدعاء العرش قبل وصولها ليريها القدرة التي هي من عند الله ويجعله دليلاً على نبوّته ، وقيل أراد أن يختبر عقلها ، ولهذا قَال { نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } … إلخ ، وقيل أراد أن يختبر صدق الهدهد في وصفه للعرش بالعظم ، والقول الأوّل هو الذي عليه الأكثر . { قَالَ عِفْرِيتٌ مّن ٱلْجِنّ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } قرأ الجمهور بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء وسكون المثناة التحتية وبالتاء ، وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي وابن السميفع ، وأبو السمال " عفريه " بفتح التحتية بعدها تاء تأنيث منقلبة هاء رويت هذه القراءة عن أبي بكر الصديق . وقرأ أبو حيان بفتح العين . والعفريت المارد الغليظ الشديد . قال النحاس يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء عفر وعفريه وعفريت . وقال قتادة هو الداهية ، وقيل هو رئيس الجنّ . قال ابن عطية وقرأت فرقة " عفر " بكسر العين جمعه على عفار ، ومما ورد من أشعار العرب مطابقاً لقراءة الجمهور ما أنشده الكسائي @ فقال شيطان لهم عفريت ما لكم مكث ولا تبييت @@ ومما ورد على القراءة الثانية قول ذي الرمة @ كأنه كوكب في إثر عفرية مصوّب في سواد الليل منقضب @@ ومعنى قول العفريت أنه سيأتي بالعرش إلى سليمان قبل أن يقوم من مجلسه الذي يجلس فيه للحكومة بين الناس { وَإِنّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } إني لقويّ على حمله أمين على ما فيه . قيل اسم هذا العفريت كودن ذكره النحاس عن وهب بن منبه ، وقال السهيلي ذكوان . وقيل اسمه دعوان . وقيل صخر . وقوله { ءَاتِيكَ } فعل مضارع ، وأصله ءَأتيك بهمزتين ، فأبدلت الثانية ألفاً . وقيل هو اسم فاعل . { قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } قال أكثر المفسرين اسم هذا الذي عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا ، وهو من بني إسرائيل ، وكان وزيراً لسليمان ، وكان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى . قال ابن عطية ، وقالت فرقة هو سليمان نفسه ، ويكون الخطاب على هذا للعفريت كأن سليمان استبطأ ما قاله العفريت ، فقال له تحقيراً له { أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } ، وقيل هو جبريل ، وقيل الخضر . والأوّل أولى . وقد قيل غير ذلك بما لا أصل له . والمراد بالطرف تحريك الأجفان ، وفتحها للنظر وارتداده انضمامها . وقيل هو بمعنى المطروف ، أي الشيء الذي ينظره ، وقيل هو نفس الجفن عبر به عن سرعة الأمر كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة . قاله مجاهد . وقال سعيد بن جبير إنه قال لسليمان انظر إلى السماء فما طرف حتى جاء به ، فوضعه بين يديه ، والمعنى حتى يعود إليك طرفك بعد مدّه إلى السماء ، والأول أولى هذه الأقوال . ثم الثالث { فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } قيل في الآية حذف ، والتقدير فأذن له سليمان ، فدعا الله ، فأتى به ، فلما رآه سليمان مستقرًّا عنده أي رأى العرش حاضراً لديه { هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } الإشارة بقوله { هَـٰذَا } إلى حضور العرش ، { ليبلوني } أي ليختبرني أشكره بذلك ، وأعترف أنه من فضله من غير حول مني ولا قوّة ، أم أكفر بترك الشكر وعدم القيام به . قال الأخفش المعنى لينظر أأشكر أم أكفر ، وقال غيره معنى { لِيَبْلُوَنِي } ليتعبدني ، وهو مجاز ، والأصل في الابتلاء الاختبار . { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } لأنه استحق بالشكر تمام النعمة ودوامها ، والمعنى أنه لا يرجع نفع ذلك إلاّ إلى الشاكر { وَمَن كَفَرَ } بترك الشكر { فَإِنَّ رَبّي غَنِيٌّ } عن شكره { كَرِيمٌ } في ترك المعاجلة بالعقوبة بنزع نعمه عنه ، وسلبه ما أعطاه منها ، و " أم " في { أَمْ أَكْفُرُ } هي متصلة . وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ٱذْهَب بّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } يقول كن قريباً منهم { فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } فانطلق بالكتاب حتى إذا توسط عرشها ألقى الكتاب إليها ، فقرىء عليها ، فإذا فيه { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ، وأخرج ابن مردويه عنه { كِتَابٌ كَرِيمٌ } قال مختوم ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب « باسمك اللهم » حتى نزلت { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } . وأخرج أبو داود في مراسيله عن أبي مالك مرفوعاً مثله . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { أَفْتُونِي فِي أَمْرِي } قال جمعت رؤوس مملكتها فشاورتهم في رأيها ، فأجمع رأيهم ورأيها على أن يغزوه ، فسارت حتى إذا كانت قريبة قالت أرسل إليهم بهدية ، فإن قبلها ، فهو ملك أقاتله ، وإن ردّها تابعته ، فهو نبيّ ، فلما دنت رسلها من سليمان علم خبرهم ، فأمر الشياطين ، فموّهوا ألف قصر من ذهب وفضة ، فلما رأت رسلها قصور الذهب قالوا ما يصنع هذا بهديتنا ، وقصوره ذهب وفضة ، فلما دخلوا عليه بهديتها قال { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } ، ثم قال سليمان { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } فقال كاتب سليمان ارفع بصرك ، فرفع بصره ، فلما رجع إليه طرفه فإذا هو بسرير { قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } فنزع منه فصوصه ، ومرافقه ، وما كان عليه من شيء فـ قيل لها { أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } وأمر الشياطين فجعلوا لها صرحاً ممرّداً من قوارير ، وجعل فيها تماثيل السمك ، فقيل لها { ٱدْخُلِي ٱلصَّرْحَ } فكشفت عن ساقيها فإذا فيها شعر ، فعند ذلك أمر بصنعة النورة فصنعت . فقيل لها { إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـٰنَ لِلَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله { إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } قال إذا أخذوها عنوة أخربوها . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال يقول الربّ تبارك وتعالى { وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ } . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } قال أرسلت بلبنة من ذهب ، فلما قدموا إذا حيطان المدينة من ذهب فذلك قوله { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } الآية . وقال ثابت البناني أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج . وقال مجاهد جواري لباسهن لباس الغلمان ، وغلمان لباسهم لباس الجواري . وقال عكرمة أهدت مائتي فرس على كلّ فرس غلام وجارية ، وعلى كلّ فرس لون ليس على الآخر . وقال سعيد بن جبير كانت الهدية جواهر ، وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره . وأخرج ابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } قال طائعين . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عنه قال اسم العفريت صخر . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً { قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } قال من مجلسك . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } قال هو آصف بن برخيا ، وكان صديقاً يعلم الاسم الأعظم . وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال في قراءة ابن مسعود " قال الذي عنده علم من الكتاب أنا أنظر في كتاب ربي ، ثم آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك " قال فتكلم ذلك العالم بكلام دخل العرش في نفق تحت الأرض حتى خرج إليهم . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } قال قال لسليمان انظر إلى السماء ، قال فما أطرف حتى جاءه به فوضعه بين يديه . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر ، عن ابن عباس قال لم يجر عرش صاحبة سبأ بين الأرض والسماء ، ولكن انشقت به الأرض ، فجرى تحت الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان .