Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 15-26)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما فرغ سبحانه من قصة موسى شرع في قصة داود ، وابنه سليمان ، وهذه القصص وما قبلها وما بعدها هي كالبيان ، والتقرير لقوله { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْءانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم } ، والتنوين في { عِلْمًا } إما للنوع أي طائفة من العلم ، أو للتعظيم أي علماً كثيراً ، والواو في قوله { وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } للعطف على محذوف لأن هذا المقام مقام الفاء فالتقدير ولقد آتيناهما علماً فعملا به ، وقالا الحمد لله ، ويؤيده أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقاً بعمل القلب ، وهو العزم على فعل الطاعة ، وترك المعصية { ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي فضلنا بالعلم والنبوّة وتسخير الطير والجنّ والإنس ، ولم يفضلوا أنفسهم على الكلّ تواضعاً منهم . وفي الآية دليل على شرف العلم ، وارتفاع محله ، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم التي ينعم الله بها على عباده ، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من العباد ، ومنح شرفاً جليلاً . { وَوَرِثَ سُلَيْمَـٰنُ دَاوُودُ } أي ورثه العلم والنبوّة . قال قتادة والكلبي كان لداود تسعة عشر ولداً ذكراً ، فورث سليمان من بينهم نبوّته ، ولو كان المراد وراثة المال لم يخصّ سليمان بالذكر لأن جميع أولاده في ذلك سواء ، وكذا قال جمهور المفسرين ، فهذه الوراثة هي وراثة مجازية كما في قوله صلى الله عليه وسلم " العلماء ورثة الأنبياء " { وَقَالَ ياأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ } قال سليمان هذه المقالة مخاطباً للناس تحدّثاً بما أنعم الله به عليه ، وشكر النعمة التي خصه بها . وقدّم منطق الطير لأنها نعمة خاصة به لا يشاركه فيها غيره . قال الفراء منطق الطير كلام الطير ، فجعل كمنطق الرجل ، وأنشد قول حميد بن ثور @ عجيب لها أن يكون غناؤها فصيحاً ولم يغفر بمنطقها فماً @@ ومعنى الآية فهمنا ما يقول الطير . قال جماعة من المفسرين إنه علم منطق جميع الحيوانات ، وإنما ذكر الطير لأنه كان جنداً من جنده يسير معه لتظليله من الشمس . وقال قتادة والشعبي إنما علم منطق الطير خاصة ولا يعترض ذلك بالنملة ، فإنها من جملة الطير ، وكثيراً ما تخرج لها أجنحة ، فتطير ، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع كلامها وفهمه ، ومعنى { وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَيْء } كلّ شيء تدعو إليه الحاجة كالعلم والنبوّة والحكمة والمال وتسخير الجن والإنس والطير والرياح والوحش والدواب وكل ما بين السماء والأرض . وجاء سليمان بنون العظمة ، والمراد نفسه بياناً لحاله من كونه مطاعاً لا يخالف ، لا تكبراً وتعظيماً لنفسه ، والإشارة بقوله { إِنَّ هَذَا } إلى ما تقدّم ذكره من التعليم ، والإيتاء { لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ } أي الظاهر الواضح الذي لا يخفى على أحد ، أو المظهر لفضيلتنا . { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَـٰنَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ } الحشر الجمع أي جمع له جنوده من هذه الأجناس . وقد أطال المفسرون في ذكر مقدار جنده ، وبالغ كثير منهم مبالغة تستبعدها العقول ، ولا تصحّ من جهة النقل ، ولو صحت لكان في القدرة الربانية ما هو أعظم من ذلك وأكثر { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي لكلّ طائفة منهم وزعة تردّ ، أولهم على آخرهم فيقفون على مراتبهم ، يقال وزعه يزعه وزعاً كفه ، والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدّم منهم ، أي يردّه ، ومنه قول النابغة @ على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع @@ وقول الآخر @ ومن لم يزعه لبه وحياؤه فليس له من شيب فوديه وازع @@ وقول الآخر @ ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى من الناس إلاّ وافر العقل كامله @@ وقيل من التوزيع بمعنى التفريق ، يقال القوم أوزاع أي طوائف . { حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِي ٱلنَّمْلِ } حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، ويكون غاية لما قبلها ، والمعنى فهم يوزعون إلى حصول هذه الغاية وهو إتيانهم على واد النمل ، أي فهم يسيرون ممنوعاً بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا أتوا إلخ ، و { على واد النمل } متعلق بـ { أتوا } ، وعدّي بعلى لأنهم كانوا محمولين على الريح فهم مستعلون . والمعنى أنهم قطعوا الوادي وبلغوا آخره ، ووقف القراء جميعهم على واد بدون ياء اتباعاً للرسم حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين كقوله { ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ } الفجر 9 إلاّ الكسائي ، فإنه وقف بالياء ، قال لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل . قال كعب واد النمل بالطائف . وقال قتادة ومقاتل هو بالشام { قَالَتْ نَمْلَةٌ } هذا جواب إذا ، كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت ونبهت سائر النمل منادية لها قائلة { ياأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ } جعل خطاب النمل كخطاب العقلاء لفهمها لذلك الخطاب ، والمساكن هي الأمكنة التي يسكن النمل فيها . قيل وهذه النملة التي سمعها سليمان هي أنثى بدليل تأنيث الفعل المسند إليها . وردّ هذا أبو حيان ، فقال لحاق التاء في قالت لا يدلّ على أن النملة مؤنثة ، بل يصحّ أن يقال في المذكر قالت ، لأن نملة وإن كانت بالتاء فهي مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث بتذكير الفعل ولا بتأنيثه ، بل يتميز بالإخبار عنه بأنه ذكر ، أو أنثى ، ولا يتعلق بمثل هذا كثير فائدة ، ولا بالتعرّض لاسم النملة ، ولما ذكر من القصص الموضوعة ، والأحاديث المكذوبة . قرأ الحسن وطلحة ومعمر بن سليمان « نملة » والنمل بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة . وقرأ سليمان التيمي بضمتين فيهما . { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُ } الحطم الكسر ، يقال حطمته حطماً أي كسرته كسراً ، وتحطم تكسر ، وهذا النهي هو في الظاهر للنمل ، وفي الحقيقة لسليمان ، فهو من باب لا أرينك هاهنا ، ويجوز أن يكون بدلاً من الأمر ، ويحتمل أن يكون جواباً للأمر . قال أبو حيان أما تخريجه على جواب الأمر ، فلا يكون إلاّ على قراءة الأعمش ، فإنه قرأ " لا يحطمكم " بالجزم بدون نون التوكيد ، وأما مع وجود نون التوكيد ، فلا يجوز ذلك إلاّ في الشعر . قال سيبويه وهو قليل في الشعر ، شبهوه بالنهي حيث كان مجزوماً . وقرأ أبيّ " ادخلوا مساكنكنّ " وقرأ شهر بن حوشب " مسكنكم " وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني " لا يحطمنكم " بضمّ الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء . وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد وجملة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } في محل نصب على الحال من فاعل { يحطمنكم } أي لا يشعرون بحطمكم ولا يعلمون بمكانكم ، وقيل إن المعنى والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها ، وهو بعيد . { فَتَبَسَّمَ ضَـٰحِكاً مّن قَوْلِهَا } قرأ ابن السميفع " ضحكاً " وعلى قراءة الجمهور يكون { ضاحكاً } حالاً مؤكدة لأنه قد فهم الضحك من التبسم . وقيل هي حال مقدّرة لأن التبسم أوّل الضحك . وقيل لما كان التبسم قد يكون للغضب كان الضحك مبيناً له ، وقيل إن ضحك الأنبياء هو التبسم لا غير ، وعلى قراءة ابن السميفع يكون " ضحكاً " مصدراً منصوباً بفعل محذوف أو في موضع الحال ، وكان ضحك سليمان تعجباً من قولها وفهمها واهتدائها إلى تحذير النمل { وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } قد تقدّم بيان معنى أوزعني قريباً في قوله { فَهُمْ يُوزَعُونَ } قال في الكشاف وحقيقة أوزعني اجعلني أزع شكر نعمك عندي وأكفه وارتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكراً لك . انتهى . قال الواحدي أوزعني ، أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ ، يقال فلان موزع بكذا أي مولع به . انتهى . قال القرطبي وأصله من وزع ، فكأنه قال كفني عما يسخطك . انتهى . والمفعول الثاني لأوزعني هو أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وقال الزجاج إن معنى { أوزعني } امنعني أن أكفر نعمتك ، وهو تفسير باللازم ، ومعنى { وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } الدعاء منه بأن يوزعه الله شكر نعمته على والديه كما أوزعه شكر نعمته عليه ، فإن الإنعام عليهما إنعام عليه ، وذلك يستوجب الشكر منه لله سبحانه ، ثم طلب أن يضيف الله له لواحق نعمه إلى سوابقها ، ولا سيما النعم الدينية ، فقال { وَأَنْ أَعْمَلَ صَـٰلِحاً تَرْضَـٰهُ } أي عملاً صالحاً ترضاه مني ، ثم دعا أن يجعله الله سبحانه في الآخرة داخلاً في زمرة الصالحين فإن ذلك هو الغاية التي يتعلق الطلب بها ، فقال { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } ، والمعنى أدخلني في جملتهم ، وأثبت اسمي في أسمائهم ، واحشرني في زمرتهم إلى دار الصالحين ، وهي الجنة . اللهم وإني أدعوك بما دعاك به هذا النبيّ الكريم ، فتقبل ذلك مني ، وتفضل عليّ به ، فإني وإن كنت مقصراً في العمل ، ففضلك هو سبب الفوز بالخير ، فهذه الآية منادية بأعلى صوت ، وأوضح بيان بأن دخول الجنة التي هي دار المؤمنين بالتفضل منك لا بالعمل منهم كما قال رسولك الصادق المصدوق فيما ثبت عنه في الصحيح " سدّدوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله ، قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمته " فإذا لم يكن إلاّ تفضلك الواسع ، فترك طلبه منك عجز ، والتفريط في التوسل إليك بالإيصال إليه تضييع . ثم شرع سبحانه في ذكر قصة بلقيس ، وما جرى بينها وبين سليمان ، وذلك بدلالة الهدهد ، فقال { وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ } التفقد تطلب ما غاب عنك ، وتعرّف أحواله ، والطير اسم جنس لكلّ ما يطير ، والمعنى أنه تطلب ما فقد من الطير ، وتعرف حال ما غاب منها ، وكانت الطير تصحبه في سفره ، وتظله بأجنحتها { فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَائِبِينَ } أي ما للهدهد لا أراه ؟ فهذا الكلام من الكلام المقلوب الذي تستعمله العرب كثيراً ، وقيل لا حاجة إلى ادّعاء القلب ، بل هو استفهام عن المانع له من رؤية الهدهد ، كأنه قال مالي لا أراه ؟ هل ذلك لساتر يستره عني ، أو لشيء آخر ؟ ثم ظهر له أنه غائب ، فقال { أم كان من الغائبين } و " أم " هي المنقطعة التي بمعنى الإضراب قرأ ابن كثير وابن محيصن وهشام وأيوب " مالي " بفتح الياء ، وكذلك قرؤوا في يسۤ { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } يۤس 22 بفتح الياء ، وقرأ بإسكانها في الموضعين حمزة والكسائي ، ويعقوب ، وقرأ الباقون بفتح التي في يسۤ وإسكان التي هنا . قال أبو عمرو لأن هذه التي هنا استفهام ، والتي في يسۤ نفي ، واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان . { لأعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ } . اختلفوا في هذا العذاب الشديد ما هو ؟ فقال مجاهد وابن جريج هو أن ينتف ريشه جميعاً . وقال يزيد بن رومان هو أن ينتف ريش جناحيه . وقيل هو أن يحبسه مع أضداده ، وقيل أن يمنعه من خدمته ، وفي هذا دليل على أن العقوبة على قدر الذنب لا على قدر الجسد . وقوله { عَذَاباً } اسم مصدر على حذف الزوائد كقوله { أَنبَتَكُمْ مّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } نوح 17 . { أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ } قرأ ابن كثير وحده بنون التأكيد المشدّدة بعدها نون الوقاية ، وقرأ الباقون بنون مشدّدة فقط ، وهي نون التوكيد ، وقرأ عيسى بن عمر بنون مشدّدة مفتوحة غير موصولة بالياء ، والسلطان المبين هو الحجة البينة في غيبته . { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أي الهدهد مكث زماناً غير بعيد . قرأ الجمهور " مكث " بضم الكاف ، وقرأ عاصم وحده بفتحها ، ومعناه في القراءتين أقام زماناً غير بعيد . قال سيبويه مكث يمكث مكوثاً كقعد يقعد قعوداً . وقيل إن الضمير في مكث لسليمان . والمعنى بقي سليمان بعد التفقد والتوعد زماناً غير طويل ، والأوّل أولى { فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أي علمت ما لم تعلمه من الأمر ، والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته ، ولعلّ في الكلام حذفاً ، والتقدير فمكث الهدهد غير بعيد ، فجاء ، فعوتب على مغيبه ، فقال معتذراً عن ذلك { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } . قال الفراء ويجوز إدغام التاء في الطاء ، فيقال أحطّ ، وإدغام الطاء في التاء ، فيقال أحتّ { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } قرأ الجمهور من سبأ بالصرف على أنه اسم رجل ، نسب إليه قوم ، ومنه قول الشاعر @ الواردون وتيم في ذرى سبأ قد غضّ أعناقهم جلد الجواميس @@ وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بفتح الهمزة ، وترك الصرف على أنه اسم مدينة ، وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل ، وقال سبأ اسم مدينة تعرف بمأرب اليمن بينها وبين صنعاء ثلاثة أيام . وقيل هو اسم امرأة سميت بها المدينة . قال القرطبي والصحيح أنه اسم رجل كما في كتاب الترمذي من حديث فروة ابن مسيك المرادي . قال ابن عطية وخفي هذا على الزجاج ، فخبط خبط عشواء . وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ ، فقال ما أدري ما هو ؟ قال النحاس وأبو عمرو أجلّ من أن يقول هذا ، قال والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل ، فإن صرفته ، فلأنه قد صار اسماً للحيّ ، وإن لم تصرفه جعلته اسماً للقبيلة مثل ثمود ، إلاّ أن الاختيار عند سيبويه الصرف . انتهى . وأقول لا شك أن سبأ اسم لمدينة باليمن كانت فيها بلقيس ، وهو أيضاً اسم رجل من قحطان ، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود ، ولكن المراد هنا أن الهدهد جاء إلى سليمان بخبر ما عاينه في مدينة سبأ مما وصفه ، وسيأتي في آخر هذا البحث من المأثور ما يوضح هذا ، ويؤيده ، ومعنى الآية أن الهدهد جاء سليمان من هذه المدينة بخبر يقين ، والنبأ هو الخبر الخطير الشأن . فلما قال الهدهد لسليمان ما قال ، قال له سليمان وما ذاك ؟ فقال { إِنّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } ، وهي بلقيس بنت شرحبيل ، وجدها الهدهد تملك أهل سبأ ، والجملة هذه كالبيان ، والتفسير للجملة التي قبلها أي ذلك النبأ اليقين هو كون هذه المرأة تملك هؤلاء { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيْء } فيه مبالغة ، والمراد أنها أوتيت من كلّ شيء من الأشياء التي تحتاجها . وقيل المعنى أوتيت من كلّ شيء في زمانها شيئاً ، فحذف شيئاً لأن الكلام قد دلّ عليه { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } أي سرير عظيم ، ووصفه بالعظم لأنه - كما قيل - كان من ذهب طوله ثمانون ذراعاً ، وعرضه أربعون ذراعاً ، وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعاً مكلل بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر . وقيل المراد بالعرش هنا الملك ، والأوّل أولى لقوله { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا } قال ابن عطية واللازم من الآية أنها امرأة ، ملكة على مدائن اليمن ذات ملك عظيم وسرير عظيم ، وكانت كافرة من قوم كفار { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله سبحانه ، قيل كانوا مجوساً ، وقيل زنادقة { وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ } التي يعملونها ، وهي عبادة الشمس ، وسائر أعمال الكفر { فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ } أي صدّهم الشيطان بسبب ذلك التزيين عن الطريق الواضح ، وهو الإيمان بالله وتوحيده { فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } إلى ذلك . { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } قرأ الجمهور بتشديد { ألا } . قال ابن الأنباري الوقف على فهم لا يهتدون غير تامّ عند من شدّد ألا ، لأن المعنى وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا . قال النحاس هي أن دخلت عليها لا ، وهي في موضع نصب . قال الأخفش أي زين لهم أن لا يسجدوا لله بمعنى لئلا يسجدوا لله . وقال الكسائي هي في موضع نصب بصدّهم أي فصدّهم ألا يسجدوا بمعنى لئلا يسجدوا ، فهو على الوجهين مفعول له . وقال اليزيدي إنه بدل من أعمالهم في موضع نصب . وقال أبو عمرو في موضع خفض على البدل من السبيل . وقيل العامل فيها { لا يهتدون } أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله ، وتكون لا على هذا زائدة كقوله { وَمَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدَ } الأعراف 12 . وعلى قراءة الجمهور ليس هذه الآية موضع سجدة لأن ذلك إخبار عنهم بترك السجود إما بالتزيين أو بالصدّ ، أو بمنع الاهتداء ، وقد رجح كونه علة للصدّ الزجاج ، ورجح الفراء كونه علة لزين ، قال زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا ، ثم حذفت اللام . وقرأ الزهري والكسائي بتخفيف " ألا " قال الكسائي ما كنت أسمع الأشياخ يقرؤونها إلاّ بالتخفيف على نية الأمر ، فتكون « ألاّ » على هذه القراءة حرف تنبيه واستفتاح ، وما بعدها حرف نداء ، واسجدوا فعل أمر ، وكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون هكذا ألا يا اسجدوا ، ولكن الصحابة رضي الله عنهم أسقطوا الألف من يا وهمزة الوصل من اسجدوا خطأ ووصلوا الياء بسين اسجدوا ، فصارت صورة الخط ألاّ يسجدوا ، والمنادى محذوف ، وتقديره ألاّ يا هؤلاء اسجدوا . وقد حذفت العرب المنادى كثيراً في كلامها ، ومنه قول الشاعر @ ألاّ يا اسلمي يا دار ميّ على البلى ولا زال منهلاً بجرعائك القطر @@ وقول الآخر @ ألاّ يا اسلمى ثم اسلمي ثمت اسلمى ثلاث تحيات وإن لم تكلم @@ وقول الآخر أيضاً @ ألاّ يا اسلمي يا هند هند بني بكر @@ وهو كثير في أشعارهم . قال الزجاج وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون قراءة التشديد ، واختار أبو حاتم وأبو عبيد قراءة التشديد . قال الزجاج ولقراءة التخفيف وجه حسن إلاّ أن فيها انقطاع الخبر عن أمر سبأ ثم الرجوع بعد ذلك إلى ذكرهم . والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضاً لا انقطاع في وسطه ، وكذا قال النحاس ، وعلى هذه القراءة تكون جملة { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } معترضة من كلام الهدهد ، أو من كلام سليمان ، أو من كلام الله سبحانه . وفي قراءة عبد الله بن مسعود " هل لا تسجدوا " بالفوقية ، وفي قراءة أبيّ { أَلا تَسْجُدُواْ } بالفوقية أيضاً { ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْء فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي يظهر ما هو مخبوء ومخفيّ فيهما ، يقال خبأت الشيء أخبؤه خبأ والخبء ما خبأته . قال الزجاج جاء في التفسير أن الخبء هاهنا بمعنى القطر من السماء والنبات من الأرض . وقيل خبء الأرض كنوزها ونباتها . وقال قتادة الخبء السرّ . قال النحاس أي ما غاب في السماوات والأرض . وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر " الخب " بفتح الباء من غير همز تخفيفاً ، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار " الخبا " بالألف . قال أبو حاتم وهذا لا يجوز في العربية . وردّ عليه بأن سيبويه حكى عن العرب أن الألف تبدل من الهمزة إذا كان قبلها ساكن . وفي قراءة عبد الله « يخرج الخب من السموات والأرض » . قال الفراء ومن وفى يتعاقبان ، والموصول يجوز أن يكون في محل جرّ نعتاً لله سبحانه ، أو بدلاً منه ، أو بياناً له ، ويجوز أن يكون في محل نصب على المدح ، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف . وجملة { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } معطوفة على يخرج ، قرأ الجمهور بالتحتية في الفعلين ، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي بالفوقية للخطاب ، أما القراءة الأولى فلكون الضمائر المتقدّمة ضمائر غيبة ، وأما القراءة الثانية فلكون قراءة الزهري والكسائي فيها الأمر بالسجود والخطاب لهم بذلك ، فهذا عندهم من تمام ذلك الخطاب . والمعنى أن الله سبحانه يخرج ما في هذا العالم الإنساني من الخفاء بعلمه له كما يخرج ما خفي في السماوات والأرض . ثم بعد ما وصف الربّ سبحانه بما تقدّم مما يدلّ على عظيم قدرته وجليل سلطانه ووجوب توحيده ، وتخصيصه بالعبادة قال { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } قرأ الجمهور { العظيم } بالجرّ نعتاً للعرش ، وقرأ ابن محيصن بالرفع نعتاً للربّ ، وخصّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات كما ثبت ذلك في المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إن الله لم ينعم على عبد نعمة ، فحمد الله عليها إلاّ كان حمده أفضل من نعمته لو كنت لا تعرف ذلك إلاّ في كتاب الله المنزل . قال الله عزّ وجلّ { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَـٰنَ عِلْماً وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وأي نعمة أفضل مما أعطى داود وسليمان ؟ أقول ليس في الآية ما يدلّ على ما فهمه رحمه الله ، والذي تدلّ عليه أنهما حمدا الله سبحانه على ما فضلهما به من النعم ، فمن أين تدلّ على أن حمده أفضل من نعمته ؟ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وَوَرِثَ سُلَيْمَـٰنُ دَاوُود } قال ورثه نبوّته ، وملكه وعلمه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال « خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس ، فمرّ على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء ، وهي تقول اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك ، فإما أن تسقينا وإما أن تهلكنا ، فقال سليمان للناس ارجعوا ، فقد سقيتم بدعوة غيركم » . وأخرج الحاكم في المستدرك عن جعفر بن محمد قال أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سليمان سبعمائة سنة وستة أشهر ، ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والدواب والطير والسباع ، وأعطي كل شيء ، ومنطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة ، حتى إذا أراد الله أن يقبضه إليه أوحى إليه أن يستودع علم الله وحكمته أخاه ، وولد داود كانوا أربعمائة وثمانين رجلاً أنبياء بلا رسالة . قال الذهبي هذا باطل ، وقد رويت قصص في عظم ملك سليمان لا تطيب النفس بذكر شيء منها ، فالإمساك عن ذكرها أولى . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { فَهُمْ يُوزَعُونَ } قال يدفعون . وأخرج ابن جرير عنه في قوله { فَهُمْ يُوزَعُونَ } قال جعل لكل صنف وزعة تردّ أولاها على أخراها لئلا تتقدّمه في السير كما تصنع الملوك . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { أَوْزِعْنِي } قال ألهمني . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس أنه سئل كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير ؟ قال إن سليمان نزل منزلاً ، فلم يدر ما بعد الماء ، وكان الهدهد يدلّ سليمان على الماء ، فأراد أن يسأله عنه ، ففقده ، قيل كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ يلقى عليه التراب ، ويضع له الصبي الحبالة ، فيغيبها ، فيصيده ؟ فقال إذا جاء القضاء ذهب البصر . وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله { لأعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } قال أنتف ريشه كله ، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين ، وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قال كان اسم هدهد سليمان غبر . وأقول من أين جاء علم هذا للحسن رحمه الله ، وهكذا ما رواه عنه ابن عساكر أن اسم النملة حرس ، وأنها من قبيلة يقال لها بنو الشيصان ، وأنها كانت عرجاء ، وكانت بقدر الذئب ، وهو رحمه الله أورع الناس عن نقل الكذب ، ونحن نعلم أنه لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء ، ونعلم أنه ليس للحسن إسناد متصل بسليمان ، أو بأحد من أصحابه ، فهذا العلم مأخوذ من أهل الكتاب ، وقد أمرنا « أن لا نصدّقهم ، ولا نكذبهم » ، فإن ترخص مترخص بالرواية عنهم لمثل ما روى " حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " فليس ذلك فيما يتعلق بتفسير كتاب الله سبحانه بلا شك ، بل فيما يذكر عنهم من القصص الواقعة لهم . وقد كرّرنا التنبيه على مثل هذا عند عروض ذكر التفاسير الغريبة . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { أَوْ لَيَأْتِيَنّي بِسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ } قال خبر الحقّ الصدق البين . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة قال قال ابن عباس كلّ سلطان في القرآن حجة ، وذكر هذه الآية ، ثم قال وأيّ سلطان كان للهدهد ؟ يعني أن المراد بالسلطان الحجة لا السلطان الذي هو الملك . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } قال اطلعت على ما لم تطلع عليه . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً { وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ } قال سبأ بأرض اليمن ، يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليالٍ { بِنَبَإٍ يَقِينٍ } قال بخبر حقّ . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه أيضاً { إِنّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } قال كان اسمها بلقيس بنت ذي شيرة ، وكانت صلباء شعراء . وروى عن الحسن وقتادة وزهير بن محمد أنها بلقيس بنت شراحيل ، وعن ابن جريج بنت ذي شرح . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إحدى أبوي بلقيس كان جنياً " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } قال سرير كريم من ذهب وقوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله { يُخْرِجُ ٱلْخَبْء } قال يعلم كلّ خبيئة في السماء والأرض .