Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 71-88)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { قُلْ أَرَءيْتُمْ } أي أخبروني { إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَدا } السرمد الدائم المستمرّ ، من السرد ، وهو المتابعة فالميم زائدة ، ومنه قول طرفة @ لعمرك ما أمري عليك بغمة نهاري ولا ليلي عليك بسرمد @@ وقيل إن ميمه أصلية ، ووزنه فعلل لا مفعل ، وهو الظاهر ، بيّن لهم سبحانه أنه مهّد لهم أسباب المعيشة ليقوموا بشكر النعمة فإنه لو كان الدهر الذي يعيشون فيه ليلاً دائماً إلى يوم القيامة لم يتمكنوا من الحركة فيه ، وطلب ما لا بدّ لهم منه مما يقوم به العيش من المطاعم والمشارب والملابس . ثم امتنّ عليهم فقال { مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء } أي هل لكم إلاه من الآلهة التي تعبدونها يقدر على أن يرفع هذه الظلمة الدائمة عنكم بضياء ؟ أي بنور تطلبون فيه المعيشة وتبصرون فيه ما تحتاجون إليه ، وتصلح به ثماركم وتنمو عنده زرائعكم وتعيش فيه دوابكم { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } هذا الكلام سماع فهم وقبول ، وتدبر وتفكر . ثم لما فرغ من الامتنان عليهم بوجود النهار امتنّ عليهم بوجود الليل فقال { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } أي جعل جميع الدهر الذي تعيشون فيه نهاراً إلى يوم القيامة { مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } أي تستقرّون فيه من النصب والتعب ، وتستريحون مما تزاولون من طلب المعاش والكسب { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } هذه المنفعة العظيمة إبصار متعظ متيقظ حتى تنزجروا عما أنتم فيه من عبادة غير الله ، وإذا أقرّوا بأنه لا يقدر على ذلك إلاّ الله عزّ وجلّ فقد لزمتهم الحجة ، وبطل ما يتمسكون به من الشبه الساقطة ، وإنما قرن سبحانه بالضياء قوله { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل قوله { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } لأن البصر يدرك ما لا يدركه السمع من ذلك { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } أي في الليل { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي في النهار بالسعي في المكاسب { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي ولكي تشكروا نعمة الله عليكم ، وهذه الآية من باب اللف والنشر ، كما في قول امرىء القيس @ كأنّ قلوب الطير رطباً ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي @@ واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكناً ، وطلب الرزق في الليل ممكناً ، وذلك عند طلوع القمر على الأرض ، أو عند الاستضاءة بشيء بما له نور كالسراج ، لكن ذلك قليل نادر مخالف لما يألفه العباد فلا اعتبار به . { وَيَوْمَ يُنَـٰدِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } كرّر سبحانه هذا لاختلاف الحالتين لأنهم ينادون مرة فيدعون الأصنام ، وينادون أخرى فيسكتون ، وفي هذا التكرير أيضاً تقريع بعد تقريع وتوبيخ بعد توبيخ ، وقوله { وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيداً } عطف على ينادي ، وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقق ، والمعنى وأخرجنا من كل أمة من الأمم شهيداً يشهد عليهم . قال مجاهد هم الأنبياء ، وقيل عدول كلّ أمة ، والأوّل أولى . ومثله قوله سبحانه { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـؤُلاء شَهِيداً } النساء 41 ثم بين سبحانه ما يقوله لكل أمة من هذه الأمم بقوله { فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَـٰنَكُمْ } أي حجتكم ودليلكم بأن معي شركاء ، فعند ذلك اعترفوا وخرسوا عن إقامة البرهان ، ولذا قال { فَعَلِمُواْ أَنَّ ٱلْحَقَّ لِلَّهِ } في الإلهية ، وأنه وحده لا شريك له { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي غاب عنهم وبطل وذهب ما كانوا يختلقونه من الكذب في الدنيا بأن لله شركاء يستحقون العبادة . ثم عقب سبحانه حديث أهل الضلال بقصة قارون لما اشتملت عليه من بديع القدرة وعجيب الصنع فقال { إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ } قارون على وزن فاعول اسم أعجمي ممتنع للعجمة والعلمية ، وليس بعربيّ مشتق من قرنت . قال الزجاج لو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف . قال النخعي وقتادة وغيرهما كان ابن عمّ موسى ، وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، وموسى هو ابن عمران بن قاهث . وقال ابن إسحاق كان عمّ موسى لأب وأم فجعله أخا لعمران ، وهما ابنا قاهث . وقيل ابن خالة موسى ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه ، فنافق كما نافق السامري وخرج عن طاعة موسى ، وهو معنى قوله { فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ } أي جاوز الحدّ في التجبر والتكبر عليهم ، وخرج عن طاعة موسى وكفر بالله . قال الضحاك بغيه على بني إسرائيل استخفافه بهم لكثرة ماله ، وولده . وقال قتادة بغيه بنسبته ما آتاه الله من المال إلى نفسه لعلمه ، وحيلته . وقيل كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل ، فتعدّى عليهم وظلمهم . وقيل كان بغيه بغير ذلك مما لا يناسب معنى الآية . { وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ } جمع كنز ، وهو المال المدّخر . قال عطاء أصاب كنزاً من كنوز يوسف . وقيل كان يعمل الكيمياء ، و « ما » في قوله { مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } موصولة صلتها إنّ وما في حيزها ، ولهذا كسرت . ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع جعل المكسورة ، وما في حيزها صلة الذي ، واستقبح ذلك منهم لوروده في الكتاب العزيز في هذا الموضع . والمفاتح جمع مفتح بالكسر ، وهو ما يفتح به ، وقيل المراد بالمفاتح الخزائن ، فيكون واحدها مفتح بفتح الميم . قال الواحدي إن المفاتح الخزائن في قول أكثر المفسرين ، كقوله { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } الأنعام 59 قال وهو اختيار الزجاج ، فإنه قال الأشبه في التفسير أن مفاتحه خزائن ماله . وقال آخرون هي جمع مفتاح ، وهو ما يفتح به الباب ، وهذا قول قتادة ومجاهد { لَتَنُوأُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ } هذه الجملة خبر إن وهي واسمها وخبرها صلة ما الموصولة ، يقال ناء بحمله إذا نهض به مثقلاً ، ويقال ناء بي الحمل إذا أثقلني ، والمعنى يثقلهم حمل المفاتح . قال أبو عبيدة هذا من المقلوب ، والمعنى لتنوء بها العصبة ، أي تنهض بها . قال أبو زيد نؤت بالحمل إذا نهضت به . قال الشاعر @ إنا وجدنا خلفاً بئس الخلف عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف @@ وقال الفراء معنى تنوء بالعصبة تميلهم بثقلها كما يقال يذهب بالبؤس ، ويُذهِب البؤس وذهبت به ، وأذهبته وجئت به وأجأته ونؤت به ، وأنأته ، واختار هذا النحاس ، وبه قال كثير من السلف . وقيل هو مأخوذ من النأي ، وهو البعد وهو بعيد . وقرأ بديل بن ميسرة " لينوء " بالياء ، أي لينوء الواحد منها أو المذكور ، فحمل على المعنى . والمراد بالعصبة الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض . قيل هي من الثلاثة إلى العشرة ، وقيل من العشرة إلى الخمسة عشر ، وقيل ما بين العشرة إلى العشرين ، وقيل من الخمسة إلى العشرة . وقيل أربعون . وقيل سبعون . وقيل غير ذلك { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ } الظرف منصوب بـ { تنوء } . وقيل بـ { آتيناه } ، وقيل بـ { بغى } . وردّهما أبو حبان بأن الإيتاء والبغي لم يكونا ذلك الوقت . وقال ابن جرير هو متعلق بمحذوف ، وهو اذكر ، والمراد بقومه هنا هم المؤمنون من بني إسرائيل . وقال الفراء هو موسى ، وهو جمع أريد به الواحد ، ومعنى { لا تفرح } لا تبطر ولا تأشر { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } البطرين الأشرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم . قال الزجاج المعنى لا تفرح بالمال ، فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه ، وقيل المعنى لا تفسد كقول الشاعر @ إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع @@ أي أفسدتك . قال الزجاج الفرحين ، والفارحين سواء . وقال الفراء معنى الفرحين الذين هم في حال الفرح ، والفارحين الذين يفرحون في المستقبل . وقال مجاهد معنى { لا تفرح } لا تبغ إن الله لا يحبّ الفرحين الباغين . وقيل معناه لا تبخل إن الله لا يحبّ الباخلين . { وَٱبْتَغِ فِيمَا ءَاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } أي واطلب فيما أعطاك الله من الأموال الدار الآخرة فأنفقه فيما يرضاه الله لا في التجبر والبغي . وقرىء " واتبع " . { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا } . قال جمهور المفسرين وهو أن يعمل في دنياه لآخرته ، ونصيب الإنسان عمره ، وعمله الصالح . قال الزجاج معناه لا تنس أن تعمل لآخرتك لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته . وقال الحسن ، وقتادة معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ، وهذا ألصق بمعنى النظم القرآني { وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بما أنعم به عليك من نعم الدنيا . وقيل أطع الله واعبده كما أنعم عليك ، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما أن جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " { وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ } أي لا تعمل فيها بمعاصي الله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } في الأرض . { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي } قال قارون هذه المقالة ردّاً على من نصحه بما تقدّم ، أي إنما أعطيت ما أعطيت من المال لأجل علمي ، فقوله { عَلَىٰ عِلْمٍ } في محل نصب على الحال ، و { عندي } إما ظرف لأوتيته ، وإما صلة للعلم . وهذا العلم الذي جعله سبباً لما ناله من الدنيا ، قيل هو علم التوراة . وقيل علمه بوجوه المكاسب والتجارات . وقيل معرفة الكنوز والدفائن . وقيل علم الكيمياء . وقيل المعنى إن الله آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل علمه مني . واختار هذا الزجاج وأنكر ما عداه . ثم ردّ الله عليه قوله هذا ، فقال { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } المراد بالقرون الأمم الخالية ، ومعنى أكثر جمعاً أكثر منه جمعاً للمال ، ولو كان المال أو القوّة يدلان على فضيلة لما أهلكهم الله . وقيل القوّة الآلات . والجمع الأعوان . وهذا الكلام خارج مخرج التقريع والتوبيخ لقارون لأنه قد قرأ التوراة ، وعلم علم القرون الأولى وإهلاك الله سبحانه لهم { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } أي لا يسألون سؤال استعتاب ، كما في قوله { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } النحل 84 ، { وَمَا هُم من ٱلْمُعْتَبِينَ } فصلت 24 وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ ، كما في قوله { فَوَرَبّكَ لَنَسْـئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } الحجر 92 وقال مجاهد لا تسأل الملائكة غداً عن المجرمين لأنهم يعرفون بسيماهم ، فإنهم يحشرون سود الوجوه زرق العيون . وقال قتادة لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها ، بل يدخلون النار . وقيل لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية . { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ } الفاء للعطف على { قال } وما بينهما اعتراض ، و { فِي زِينَتِهِ } متعلق بخرج ، أو بمحذوف هو حال من فاعل خرج . وقد ذكر المفسرون في هذه الزينة التي خرج فيها روايات مختلفة ، والمراد أنه خرج في زينة انبهر لها من رآها ، ولهذا تمنى الناظرون إليه أن يكون لهم مثلها كما حكى الله عنهم بقوله { قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا } وزينتها { ٱلدُّنْيَا يٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَـٰرُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ } أي نصيب وافر من الدنيا . واختلف في هؤلاء القائلين بهذه المقالة ، فقيل هم من مؤمني ذلك الوقت ، وقيل هم قوم من الكفار . { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } ، وهم أحبار بني إسرائيل قالوا للذين تمنوا { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ } أي ثواب الله في الآخرة خير مما تمنونه { لّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً } فلا تمنوا عرض الدنيا الزائل الذي لا يدوم { وَلاَ يُلَقَّاهَا } أي هذه الكلمة التي تكلم بها الأحبار ، وقيل الضمير يعود إلى الأعمال الصالحة . وقيل إلى الجنة { إِلاَّ ٱلصَّـٰبِرُونَ } على طاعة الله والمصبرون أنفسهم عن الشهوات . { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } يقال خسف المكان يخسف خسوفاً ذهب في الأرض ، وخسف به الأرض خسفاً ، أي غاب به فيها ، والمعنى أن الله سبحانه غيبه وغيب داره في الأرض { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي ما كان له جماعة يدفعون ذلك عنه { وَمَا كَانَ } هو في نفسه { مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ } من الممتنعين مما نزل به من الخسف . { وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلاْمْسِ } أي منذ زمان قريب { يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } أي يقول كل واحد منهم متندّماً على ما فرط منه من التمني . قال النحاس أحسن ما قيل في هذا ما قاله الخليل وسيبويه ويونس والكسائي أن القوم تنبهوا ، فقالوا وي . والمتندم من العرب يقول في خلال ندمه وي . قال الجوهري وي كلمة تعجب ، ويقال ويك ، وقد تدخل وي على كأن المخففة ، والمشدّدة ويكأن الله . قال الخليل هي مفصولة تقول وي ، ثم تبتدىء ، فيقول كأن . وقال الفراء هي كلمة تقرير كقولك أما ترى صنع الله وإحسانه ؟ وقيل هي كلمة تنبيه بمنزلة ألا . وقال قطرب إنما هو ويلك فأسقطت لامه ، ومنه قول عنترة @ ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها قول الفوارس ويك عنتر أقدم @@ وقال ابن الأعرابي معنى وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ أعلم أن الله . وقال القتيبي معناها بلغة حمير رحمة ، وقيل هي بمعنى ألم تر ؟ وروي عن الكسائي أنه قال هي كلمة تفجع { لَوْلا أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا } برحمته وعصمنا من مثل ما كان عليه قارون من البطر ، والبغي ، ولم يؤاخذنا بما وقع منا من ذلك التمني { لَخَسَفَ بِنَا } كما خسف به . قرأ حفص { لَخَسَفَ } مبنياً للفاعل ، وقرأ الباقون مبنياً للمفعول { وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } أي لا يفوزون بمطلب من مطالبهم { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ } أي الجنة ، والإشارة إليها لقصد التعظيم لها والتفخيم لشأنها ، كأنه قال تلك التي سمعت بخبرها وبلغك شأنها { نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ } أي رفعة وتكبراً على المؤمنين { وَلاَ فَسَاداً } أي عملاً بمعاصي الله سبحانه فيها ، وذكر العلوّ والفساد منكرين في حيز النفي يدلّ على شمولهما لكلّ ما يطلق عليه أنه علوّ وأنه فساد من غير تخصيص بنوع خاص ، أما الفساد فظاهر أنه لا يجوز شيء منه كائناً ما كان ، وأما العلوّ فالممنوع منه ما كان على طريق التكبر على الغير ، والتطاول على الناس ، وليس منه طلب العلو في الحقّ ، والرئاسة في الدين ولا محبة اللباس الحسن والمركوب الحسن والمنزل الحسن . { مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } وهو أن الله يجازيه بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف { وَمَن جَاء بِٱلسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي إلاّ مثل ما كانوا يعملون ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقد تقدّم بيان معنى هذه الآية في سورة النمل { إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ } قال المفسرون أي أنزل عليك القرآن . وقال الزجاج فرض عليك العمل بما يوجبه القرآن ، وتقدير الكلام فرض عليك أحكام القرآن وفرائضه { لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ } قال جمهور المفسرين أي إلى مكة . وقال مجاهد وعكرمة والزهري والحسن إنّ المعنى لرادّك إلى يوم القيامة ، وهو اختيار الزجاج ، يقال بيني وبينك المعاد ، أي يوم القيامة لأن الناس يعودون فيه أحياء . وقال أبو مالك وأبو صالح لرادّك إلى معاد إلى الجنة . وبه قال أبو سعيد الخدري ، وروي عن مجاهد . وقيل { إِلَىٰ مَعَادٍ } إلى الموت { قُل رَّبّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِٱلْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنك في ضلال ، والمراد من جاء بالهدى هو النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ومن هو في ضلال مبين المشركون ، والأولى حمل الآية على العموم ، وأن الله سبحانه يعلم حال كلّ طائفة من هاتين الطائفتين ، ويجازيها بما تستحقه من خير وشرّ . { وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبُ } أي ما كنت ترجو أنا نرسلك إلى العباد ، وننزل عليك القرآن . وقيل ما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب بردّك إلى معادك ، والاستثناء في قوله { إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } منقطع ، أي لكن إلقاؤه عليك رحمة من ربك ، ويجوز أن يكون متصلاً حملاً على المعنى ، كأنه قيل وما ألقى إليك الكتاب إلاّ لأجل الرحمة من ربك . والأوّل أولى ، وبه جزم الكسائي والفرّاء { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لّلْكَـٰفِرِينَ } أي عونا لهم ، وفيه تعريض بغيره من الأمة . وقيل المراد لا تكوننّ ظهيراً لهم بمداراتهم . { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } أي لا يصدنك يا محمد الكافرون وأقوالهم وكذبهم وأذاهم عن تلاوة آيات الله والعمل بها بعد إذ أنزلها الله إليك وفرضت عليك . قرأ الجمهور بفتح الياء وضم الصاد من صدّه يصدّه . وقرأ عاصم بضم الياء وكسر الصاد ، من أصدّه بمعنى صدّه . { وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبّكَ } أي ادع الناس إلى الله ، وإلى توحيده ، والعمل بفرائضه ، واجتناب معاصيه { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } وفيه تعريض بغيره كما تقدّم ، لأنه لا يكون من المشركين بحال من الأحوال ، وكذلك قوله { وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءَاخَرَ } فإنه تعريض لغيره . ثم وحد سبحانه نفسه ، ووصفها بالبقاء والدوام ، فقال { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْء } من الأشياء كائناً ما كان { هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } أي إلاّ ذاته . قال الزجاج وجهه منصوب على الاستثناء ، ولو كان في غير القرآن كان مرفوعاً بمعنى كلّ شيء غير وجهه هالك ، كما قال الشاعر @ وكلّ أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلاّ الفرقدان @@ والمعنى كلّ أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه . { لَهُ ٱلْحُكْمُ } أي القضاء النافذ يقضي بما شاء ، ويحكم بما أراد { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } عند البعث ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، لا إلٰه غيره سبحانه وتعالى . وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { سَرْمَداً } قال دائماً . وأخرج ابن أبي حاتم عنه { وَضَلَّ عَنْهُم } يوم القيامة { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } قال يكذبون في الدنيا . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه أيضاً { إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ } قال كان ابن عمه ، وكان يتبع العلم حتى جمع علماً فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى ، وحسده ، فقال له موسى إن الله أمرني أن آخذ الزكاة ، فأبى ، فقال إن موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة ، وجاءكم بأشياء فاحتملتموها ، فتحتملون أن تعطوه أموالكم ؟ فقالوا لا نحتمل فما ترى ؟ فقال لهم أرى أن أرسل إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل ، فنرسلها إليه ، فترميه بأنه أرادها على نفسها ، فأرسلوا إليها ، فقالوا لها نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك ، قالت نعم ، فجاء قارون إلى موسى فقال اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك ، قال نعم ، فجمعهم فقالوا له ما أمرك ربك ؟ قال أمرني أن تعبدوا الله ، ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا ، وأمرني إذا زنا ، وقد أحصن أن يرجم ، قالوا وإن كنت أنت . قال نعم ، قالوا فإنك قد زنيت . قال أنا ؟ فأرسلوا للمرأة ، فجاءت ، فقالوا ما تشهدين على موسى ؟ فقال لها موسى أنشدك بالله إلاّ ما صدقت . قالت أما إذا نشدتني بالله فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي ، وأنا أشهد أنك بريء ، وأنك رسول الله ، فخرّ موسى ساجداً يبكي ، فأوحى الله إليه ما يبكيك ؟ قد سلطناك على الأرض ، فمرها فتطيعك ، فرفع رأسه ، فقال خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم ، فجعلوا يقولون يا موسى يا موسى ، فقال خذيهم ، فأخذتهم إلى ركبهم ، فجعلوا يقولون يا موسى يا موسى ، فقال خذيهم ، فأخذتهم إلى أعناقهم ، فجعلوا يقولون يا موسى يا موسى ، فقال خذيهم ، فأخذتهم فغشيتهم ، فأوحى الله يا موسى سألك عبادي وتضرّعوا إليك فلم تجبهم ، وعزّتي لو أنهم دعوني لأجبتهم . قال ابن عباس وذلك قوله { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } خسف به إلى الأرض السفلى . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن خيثمة قال كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود ، كل مفتاح مثل الأصبع ، كل مفتاح على خزانة على حدة ، فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلاً أغرّ محجل . وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عنه قال وجدت في الإنجيل أن بغال مفاتيح خزائن قارون غر محجلة لا يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح كنز . قلت لم أجد في الإنجيل هذا الذي ذكره خيثمة . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { لَتَنُوأُ بِٱلْعُصْبَةِ } قال تثقل . وأخرج ابن المنذر عنه قال لا يرفعها العصبة من الرجال أولو القوّة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال العصبة أربعون رجلاً . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } قال المرحين ، وفي قوله { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا } قال أن تعمل فيها لآخرتك . وأخرج ابن مردويه عن أوس بن أوس الثقفي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } في أربعة آلاف بغل . وقد روي عن جماعة من التابعين أقوال في بيان ما خرج به على قومه من الزينة ، ولا يصحّ منها شيء مرفوعاً ، بل هي من أخبار أهل الكتاب كما عرفناك غير مرّة ، ولا أدري كيف إسناد هذا الحديث الذي رفعه ابن مردويه ، فمن ظفر بكتابه ، فلينظر فيه . وأخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } قال خسف به إلى الأرض السفلى . وأخرج المحاملي ، والديلمي في مسند الفردوس عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً } قال " التجبر في الأرض والأخذ بغير الحق " وروي نحوه عن مسلم البطين ، وابن جريج ، وعكرمة . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير { لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ } قال بغياً في الأرض . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال هو الشرف والعلوّ عند ذوي سلطانهم . وأقول إن كان ذلك للتقوّي به على الحق ، فهو من خصال الخير لا من خصال الشرّ . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب قال إن الرجل ليحبّ أن يكون شسع نعله أفضل من شسع نعل صاحبه ، فيدخل في هذه الآية { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً } قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكر هذه الرواية عن عليّ رضي الله عنه وهذا محمول على من أحبّ ذلك لا لمجرّد التجمل ، فهذا لا بأس به . فقد ثبت أن رجلاً قال يا رسول الله إني أحبّ أن يكون ثوبي حسناً ونعلي حسنة . أفمن الكبر ذلك ؟ قال " لا ، إن الله جميل يحبّ الجمال " وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب أنه قال نزلت هذه الآية ، يعني { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ } إلخ في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم قال لما دخل عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ألقى إليه وسادة ، فجلس على الأرض ، فقال أشهد أنك لا تبغي علوًّا في الأرض ، ولا فساداً فأسلم . وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك . وأخرج أيضاً ابن مردويه عن عليّ بن الحسين بن واقد أن قوله تعالى { إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ } الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة حين خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي من طرق عن ابن عباس في قوله { لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ } قال إلى مكة . زاد ابن مردويه كما أخرجك منها . وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري { لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ } قال الآخرة . وأخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري في تاريخه ، وأبو يعلى وابن المنذر عنه أيضاً في قوله { لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ } قال معاده الجنة ، وفي لفظ معاده آخرته . وأخرج الحاكم في التاريخ ، والديلمي عن عليّ بن أبي طالب قال { لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ } الجنة . وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن مردويه عنه قال لما نزلت { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } الرحمٰن 26 قالت الملائكة هلك أهل الأرض ، فلما نزلت { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ } آل عمران 185 قالت الملائكة هلك كلّ نفس ، فلما نزلت { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } قالت الملائكة هلك أهل السماء والأرض . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس { كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } قال إلاّ ما أريد به وجهه .