Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 58-70)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ } أي من أهل قرية كانوا في خفض عيش ودعة ورخاء ، فوقع منهم البطر ، فأهلكوا . قال الزجاج البطر الطغيان عند النعمة . قال عطاء عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام . قال الزجاج ، والمازني معنى { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } بطرت في معيشتها ، فلما حذفت « في » تعدّى الفعل كقوله { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ } الأعراف 155 . وقال الفراء هو منصوب على التفسير كما تقول أبطرك مالك وبطرته ، ونظيره عنده قوله تعالى { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } البقرة 130 ونصب المعارف على التمييز غير جائز عند البصريين لأن معنى التفسير أن تكون النكرة دالة على الجنس . وقيل إن معيشتها منصوبة ببطرت على تضمينه معنى جهلت { فَتِلْكَ مَسَـٰكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي لم يسكنها أحد بعدهم إلاّ زمناً قليلاً ، كالذي يمرّ بها مسافراً فإنه يلبث فيها يوماً أو بعض يوم ، أو لم يبق من يسكنها فيها إلاّ أياماً قليلة لشؤم ما وقع فيها من معاصيهم . وقيل إن الاستثناء يرجع إلى المساكن ، أي لم تسكن بعد هلاك أهلها إلاّ قليلاً من المساكن ، وأكثرها خراب ، كذا قال الفراء ، وهو قول ضعيف { وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوٰرِثِينَ } منهم لأنهم لم يتركوا وارثاً يرث منازلهم وأموالهم ، ومحلّ جملة { لَمْ تُسْكَن } الرفع على أنها خبر ثان لاسم الإشارة ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال . { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِنَا } أي وما صحّ ، ولا استقام أن يكون الله مهلك القرى الكافرة ، أي الكافر أهلها حتى يبعث في أمها رسولاً ينذرهم ، ويتلوا عليهم آيات الله الناطقة بما أوجبه الله عليهم ، وما أعدّه من الثواب للمطيع والعقاب للعاصي ، ومعنى { أُمّهَا } أكبرها وأعظمها ، وخص الأعظم منها بالبعثة إليها لأن فيها أشراف القوم ، وأهل الفهم والرأي ، وفيها الملوك والأكابر ، فصارت بهذا الاعتبار كالأم لما حولها من القرى . وقال الحسن أمّ القرى أوّلها . وقيل المراد بأمّ القرى هنا مكة ، كما في قوله { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } آل عمران 96 الآية ، وقد تقدّم بيان ما تضمنته هذه الآية في آخر سورة يوسف ، وجملة { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِنَا } في محل نصب على الحال ، أي تالياً عليهم ومخبراً لهم أن العذاب سينزل بهم إن لم يؤمنوا { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـٰلِمُونَ } هذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال ، أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد أن نبعث إلى أمها رسولاً يدعوهم إلى الحق إلاّ حال كونهم ظالمين قد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم ، وتأكيد الحجة عليهم كما في قوله سبحانه { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } هود 117 . ثم قال سبحانه { وَمَا أُوتِيتُم مّن شَيْء فَمَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتُهَا } الخطاب لكفار مكة ، أي وما أعطيتم من شيء من الأشياء فهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به مدّة حياتكم أو بعض حياتكم ثم تزولون عنه ، أو يزول عنكم ، وعلى كل حال فذلك إلى فناء ، وانقضاء { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ } من ثوابه وجزائه { خَيْرٌ } من ذلك الزائل الفاني لأنه لذّة خالصة عن شوب الكدر { وَأَبْقَىٰ } لأنه يدوم أبداً ، وهذا ينقضي بسرعة { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن الباقي أفضل من الفاني ، وما فيه لذّة خالصة غير مشوبة أفضل من اللذات المشوبة بالكدر المنغصة بعوارض البدن والقلب ، وقرىء بنصب " متاع " على المصدرية ، أي فتمتعون متاع الحياة ، قرأ أبو عمرو " يعقلون " بالتحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب وقراءتهم أرجح لقوله { وَمَا أُوتِيتُم } . { أَفَمَن وَعَدْنَـٰهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ } أي وعدناه بالجنة ، وما فيها من النعم التي لا تحصى فهو لاقيه ، أي مدركه لا محالة فإن الله لا يخلف الميعاد { كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَـٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } فأعطي منها بعض ما أراد مع سرعة زواله ، وتنغيصه { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ } هذا معطوف على قوله { مَّتَّعْنَاهُ } داخل معه في حيز الصلة مؤكد لإنكار التشابه ، ومقرّر له ، والمعنى ثم هذا الذي متعناه هو يوم القيامة من المحضرين النار ، وتخصيص المحضرين بالذين أحضروا للعذاب اقتضاه المقام ، والاستفهام للإنكار ، أي ليس حالهما سواء ، فإن الموعود بالجنة لا بدّ أن يظفر بما وعد به مع أنه لا يفوته نصيبه من الدنيا ، وهذا حال المؤمن . وأما حال الكافر فإنه لم يكن معه إلاّ مجرّد التمتيع بشيء من الدنيا يستوي فيه هو والمؤمن ، وينال كل واحد منهما حظه منه ، وهو صائر إلى النار ، فهل يستويان ؟ قرأ الجمهور { ثم هو } بضم الهاء ، وقرأ الكسائي وقالون بسكون الهاء إجراء لـ { ثم } مجرى الواو ، والفاء . وانتصاب « يوم » في قوله { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } بالعطف على يوم القيامة ، أو بإضمار اذكر ، أي يوم ينادي الله سبحانه هؤلاء المشركين { فَيَقُولُ } لهم { أَيْنَ شُرَكَائِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم ، ومفعولا يزعمون محذوفان ، أي تزعمونهم شركائي لدلالة الكلام عليهما { قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } أي حقت عليهم كلمة العذاب ، وهم رؤساء الضلال الذين اتخذوهم أرباباً من دون الله ، كذا قال الكلبي . وقال قتادة هم الشياطين { رَبَّنَا هَـؤُلاء ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَا } أي دعوناهم إلى الغواية يعنون الأتباع { أَغْوَيْنَـٰهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } أي أضللناهم كما ضللنا { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ } منهم ، والمعنى أن رؤساء الضلال ، أو الشياطين تبرّؤوا ممن أطاعهم . قال الزجاج برىء بعضهم من بعض ، وصاروا أعداء كما قال الله تعالى { ٱلأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } الزخرف 67 ، و { هؤلاء } مبتدأ ، { والذين أغوينا } صفته ، والعائد محذوف ، أي أغويناهم ، والخبر { أغويناهم } ، و { كما غوينا } نعت مصدر محذوف . وقيل إن خبر هؤلاء هو الذين أغوينا ، وأما { أغويناهم كما غوينا } فكلام مستأنف لتقرير ما قبله ، ورجح هذا أبو عليّ الفارسي ، واعترض الوجه الأوّل ، وردّ اعتراضه أبو البقاء . { مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } وإنما كانوا يعبدون أهواءهم . وقيل إن « ما » في { ما كانوا } مصدرية ، أي تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا ، والأول أولى . { وَقِيلَ ٱدْعُواْ شُرَكَاءكُمْ } أي قيل للكفار من بني آدم هذا القول ، والمعنى استغيثوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونهم من دون الله في الدنيا لينصروكم ويدفعوا عنكم { فَدَعَوْهُمْ } عند ذلك { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ولا نفعوهم بوجه من وجوه النفع { وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } أي التابع والمتبوع قد غشيهم { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } قال الزجاج جواب لو محذوف ، والمعنى لو أنهم كانوا يهتدون لأنجاهم ذلك ، ولم يروا العذاب . وقيل المعنى لو أنهم كانوا يهتدون ما دعوهم وقيل المعنى لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لعلموا أن العذاب حق . وقيل المعنى لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب . وقيل قد آن لهم أن يهتدوا لو كانوا يهتدون . وقيل غير ذلك . والأوّل أولى ، ويوم في قوله { وَيَوْمَ يُنَـٰدِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ } معطوف على ما قبله ، أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي . { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـاء يَوْمَئِذٍ } أي خفيت عليهم الحجج حتى صاروا كالعمي الذين لا يهتدون ، والأصل فعموا عن الأنباء ، ولكنه عكس الكلام للمبالغة ، والأنباء الأخبار ، وإنما سمى حججهم أخباراً لأنها لم تكن من الحجة في شيء ، وإنما هي أقاصيص ، وحكايات { فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ } لا يسأل بعضهم بعضاً ، ولا ينطقون بحجة ولا يدرون بما يجيبون ، لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا فلا يكون لهم عذر ، ولا حجة يوم القيامة . قرأ الجمهور عميت بفتح العين ، وتخفيف الميم . وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش بضم العين وتشديد الميم . { فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ } أن تاب من الشرك وصدّق بما جاء به الرسل ، وأدّى الفرائض واجتنب المعاصي فعسى أن يكون من المفلحين ، أي الفائزين بمطالبهم من سعادة الدارين ، وعسى وإن كانت في الأصل للرجاء فهو من الله واجب على ما هو عادة الكرام . وقيل إن الترجي هو من التائب المذكور لا من جهة الله سبحانه . { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء } أي يخلقه { وَيَخْتَارُ } ما يشاء أن يختاره . { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ } الأنبياء 23 وهذا متصل بذكر الشركاء الذين عبدوهم ، واختاروهم أي الاختيار إلى الله { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } أي التخير ، وقيل المراد من الآية أنه ليس لأحد من خلق الله أن يختار ، بل الاختيار هو إلى الله عزّ وجلّ . وقيل إن هذه الآية جواب عن قولهم { لَوْلاَ نُزّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } الزخرف 31 وقيل هذه الآية جواب عن اليهود حيث قالوا لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به . قال الزجاج الوقف على { ويختار } تام على أن " ما " نافية . قال ويجوز أن تكون « ما » في موضع نصب بـ { يختار } ، والمعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة . والصحيح الأوّل لإجماعهم على الوقف . وقال ابن جرير إن تقدير الآية ويختار لولايته الخيرة من خلقه ، وهذا في غاية من الضعف . وجوّز ابن عطية أن تكون « كان » تامة ، ويكون لهم الخيرة جملة مستأنفة . وهذا أيضاً بعيد جداً . وقيل إن « ما » مصدرية ، أي يختار اختيارهم ، والمصدر واقع موقع المفعول به ، أي ويختار مختارهم ، وهذا كالتفسير لكلام ابن جرير ، والراجح أوّل هذه التفاسير ، ومثله قوله سبحانه { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } الأحزاب 36 والخيرة التخير كالطيرة فإنها التطير ، اسمان يستعملان استعمال المصدر ، ثم نزّه سبحانه نفسه ، فقال { سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ } أي تنزّه تنزّهاً خاصاً به من غير أن ينازعه منازع ، ويشاركه مشارك { وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي عن الذين يجعلونهم شركاء له ، أو عن إشراكهم . { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } أي تخفيه من الشرك ، أو من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو من جميع ما يخفونه مما يخالف الحق { وَمَا يُعْلِنُونَ } أي يظهرونه من ذلك . قرأ الجمهور { تكن } بضم التاء الفوقية وكسر الكاف . وقرأ ابن محيصن وحميد بفتح الفوقية وضم الكاف . ثم تمدح سبحانه وتعالى بالوحدانية والتفرّد باستحقاق الحمد ، فقال { وَهُوَ ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ } أي الدنيا { وَٱلآخِرَةِ } أي الدار الآخرة { وَلَهُ ٱلْحُكْمُ } يقضي بين عباده بما شاء من غير مشارك { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بالبعث ، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، لا ترجعون إلى غيره . وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـٰلِمُونَ } قال قال الله لم نهلك قرية بإيمان ، ولكنه أهلك القرى بظلم إذا ظلم أهلها ، ولو كانت مكة آمنت لم يهلكوا مع من هلك ، ولكنهم كذبوا ، وظلموا فبذلك هلكوا . وأخرج مسلم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يقول الله عزّ وجلّ يا ابن آدم مرضت فلم تعدني " الحديث بطوله . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن عبد بن عبيد بن عمير قال " يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا ، وأعطش ما كانوا ، وأعرى ما كانوا ، فمن أطعم لله عزّ وجلّ أطعمه الله ، ومن كسا لله عزّ وجلّ كساه الله ، ومن سقى لله عزّ وجلّ سقاه الله ، ومن كان في رضا الله كان الله على رضاه " وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأنبَـاء } قال الحجج { فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ } قال بالأنساب . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح تعليم الاستخارة وكيفية صلاتها ودعائها ، فلا نطول بذكره .