Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 14-27)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أجمل سبحانه قصة نوح تصديقاً لقوله في أوّل السورة { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } فيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم ، كأنه قيل له إن نوحاً لبث ألف سنة إلاّ خمسين عاماً يدعو قومه ، ولم يؤمن منهم إلاّ قليل ، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك . قيل ووقع في النظم إلاّ خمسين عاماً ولم يقل تسعمائة سنة وخمسين لأن في الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني ، فقد يطلق على ما يقرب منه . وقد اختلف في مقدار عمر نوح . وسيأتي آخر البحث . وليس في الآية إلاّ أنه لبث فيهم هذه المدة ، وهي لا تدل على أنها جميع عمره . فقد تلبث في غيرهم قبل اللبث فيهم ، وقد تلبث في الأرض بعد هلاكهم بالطوفان ، والفاء في { فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ } للتعقيب ، أي أخذهم عقب تمام المدة المذكورة ، والطوفان يقال لكل شيء كثير مطيف بجمع محيط بهم من مطر أو قتل أو موت قاله النحاس . وقال سعيد بن جبير وقتادة والسدي هو المطر ، وقال الضحاك الغرق ، وقيل الموت ، ومنه قول الشاعر @ أفناهم طوفان موت جارف @@ وجملة { وَهُمْ ظَـٰلِمُونَ } في محل نصب على الحال ، أي مستمرون على الظلم ، ولم ينجع فيهم ما وعظهم به نوح ، وذكرهم هذه المدّة بطولها { فأَنْجَيْنـٰهُ وأَصْحَـٰبَ ٱلسَّفِينَةِ } أي أنجينا نوحاً ، وأنجينا من معه في السفينة من أولاده وأتباعه . واختلف في عددهم على أقوال { وَجَعَلْنَـٰهَا } أي السفينة { آيَةً لّلْعَـٰلَمِينَ إِنَّ } أي عبرة عظيمة لهم ، وفي كونها آية وجوه أحدها أنها كانت باقية على الجوديّ مدة مديدة . وثانيها أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة . وثالثها أن الماء غيض قبل نفاذ الزاد . وهذا غير مناسب لوصف السفينة بأن الله جعلها آية . وقيل إن الضمير راجع في { جعلناها } إلى الواقعة أو إلى النجاة ، أو إلى العقوبة بالغرق . { وَإِبْرٰهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } انتصاب { إبراهيم } بالعطف على { نوحاً } وقال النسائي هو معطوف على الهاء في { جعلناها } وقيل منصوب بمقدّر ، أي واذكر إبراهيم . و { إذ قال } منصوب على الظرفية ، أي وأرسلنا إبراهيم وقت قوله لقومه اعبدوا الله ، أو جعلنا إبراهيم آية وقت قوله هذا ، أو واذكر إبراهيم وقت قوله ، على أن الظرف بدل اشتمال من إبراهيم { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ } أي أفردوه بالعبادة وخصوه بها واتقوه أن تشركوا به شيئاً { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي عبادة الله وتقواه خير لكم من الشرك ، ولا خير في الشرك أبداً ، ولكنه خاطبهم باعتبار اعتقادهم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } شيئاً من العلم ، أو تعلمون علماً تميزون به بين ما هو خير ، وما هو شرّ . قرأ الجمهور { وإبراهيم } بالنصب . ووجهه ما قدّمنا . وقرأ النخعي وأبو جعفر وأبو حنيفة بالرفع على الابتداء والخبر مقدّر ، أي ومن المرسلين إبراهيم . { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَـٰناً } بيّن لهم إبراهيم أنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضرّ ولا يسمع ولا يبصر ، والأوثان هي الأصنام . وقال أبو عبيدة الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس ، والوثن ما يتخذ من جصّ أو حجارة . وقال الجوهري الوثن الصنم والجمع أوثان { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } أي وتكذبون كذباً على أن معنى { تخلقون } تكذبون ، ويجوز أن يكون معناه تعملون وتنحتون ، أي تعملونها ، وتنحتونها للإفك . قال الحسن معنى تخلقون تنحتون أي إنما تعبدون أوثاناً ، وأنتم تصنعونها . قرأ الجمهور { تخلقون } بفتح الفوقية وسكون الخاء وضم اللام مضارع خلق وإفكاً بكسر الهمزة وسكون الفاء . وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن عليّ والسلمي وقتادة بفتح الخاء واللام مشدّدة ، والأصل تتخلقون . وروي عن زيد بن عليّ أنه قرأ بضم التاء وتشديد اللام مكسورة . وقرأ ابن الزبير وفضيل بن ورقان " أَفكا " بفتح الهمزة وكسر الفاء وهو مصدر كالكذب ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي خلقا أفكا { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } أي لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئاً من الرزق { فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرّزْقَ } أي اصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله فهو الذي عنده الرزق كله ، فاسألوه من فضله ووحدوه دون غيره { وَٱشْكُرُواْ لَهُ } أي على نعمائه ، فإن الشكر موجب لبقائها وسبب للمزيد عليها ، يقال شكرته وشكرت له { إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بالموت ثم بالبعث لا إلى غيره . { وَإِن تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ } قيل هذا من قول إبراهيم ، أي وإن تكذبوني فقد وقع ذلك لغيري ممن قبلكم ، وقيل هو من قول الله سبحانه ، أي وإن تكذبوا محمداً ، فذلك عادة الكفار مع من سلف { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ } لقومه الذي أرسل إليهم ، وليس عليه هدايتهم ، وليس ذلك في وسعه { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيء ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } قرأ الجمهور { أولم يروا } بالتحتية على الخبر ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم . قال أبو عبيد كأنه قال أولم ير الأمم . وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي بالفوقية على الخطاب من إبراهيم لقومه . وقيل هو خطاب من الله لقريش . قرأ الجمهور { كيف يبدىء } بضم التحتية من أبدأ يبدىء . وقرأ الزبيري وعيسى بن عمر وأبو عمرو بفتحها من بدأ يبدأ . وقرأ الزهري « كيف بدأ » والمعنى ألم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم ينفخ فيه الروح ، ثم يخرجه إلى الدنيا ، ثم يتوفاه بعد ذلك وكذلك سائر الحيوانات وسائر النباتات ، فإذا رأيتم قدرة الله سبحانه على الابتداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة ، والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم ، والواو للعطف على مقدّر { إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } لأنه إذا أراد أمراً قال له كن فيكون . ثم أمر سبحانه إبراهيم أن يأمر قومه بالمسير في الأرض ليتفكروا ويعتبروا ، فقال { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلاْرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ } على كثرتهم واختلاف ألوانهم وطبائعهم وألسنتهم وانظروا إلى مساكن القرون الماضية والأمم الخالية وآثارهم لتعلموا بذلك كمال قدرة الله . وقيل إن المعنى قل لهم يا محمد سيروا ، ومعنى قوله { ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىء ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ } أن الله الذي بدأ النشأة الأولى ، وخلقها على تلك الكيفية ينشئها نشأة ثانية عند البعث ، والجملة عطف على جملة { سيروا في الأرض } داخلة معها في حيز القول ، وجملة { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ } تعليل لما قبلها . قرأ الجمهور بـ { النشأة } بالقصر ، وسكون الشين . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالمدّ وفتح الشين ، وهما لغتان كالرأفة والرآفة . وهي منتصبة على المصدرية بحذف الزوائد ، والأصل الإنشاءة { يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء } أي هو سبحانه بعد النشأة الآخرة يعذب من يشاء تعذيبه وهم الكفار والعصاة ويرحم من يشاء رحمته ، وهم المؤمنون به المصدّقون لرسله العاملون بأوامره ونواهيه { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } أي ترجعون وتردّون لا إلى غيره { وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَاء } قال الفراء ولا من في السماء بمعجزين الله فيها . قال وهو كما في قول حسان @ فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سـواء @@ أي ومن يمدحه ، وينصره سواء . ومثله قوله تعالى { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } الصافات 164 أي إلاّ من له مقام معلوم . والمعنى أنه لا يعجزه سبحانه أهل الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوه . وقال قطرب إن معنى الآية ولا في السماء لو كنتم فيها ، كما تقول لا يفوتني فلان ها هنا ، ولا بالبصرة ، يعني ولا بالبصرة لو صار إليها . وقال المبرد المعنى ولا من في السماء . على أن " من " ليست موصولة بل نكرة ، وفي السماء صفة لها ، فأقيمت الصفة مقام الموصوف ، وردّ ذلك عليّ بن سليمان وقال لا يجوز ، ورجح ما قاله قطرب { وَمَا لَكُم مّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } " من " مزيدة للتأكيد ، أي ليس لكم وليّ يواليكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم عذاب الله { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ وَلِقَائِهِ } المراد بالآيات الآيات التنزيلية أو التكوينية أو جميعهما . وكفروا بلقاء الله ، أي أنكروا البعث وما بعده ولم يعملوا بما أخبرتهم به رسل الله سبحانه . والإشارة بقوله { أُوْلَـٰئِكَ } إلى الكافرين بالآيات ، واللقاء ، وهو مبتدأ وخبره { يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } أي إنهم في الدنيا آيسون من رحمة الله لم ينجع فيهم ما نزل من كتب الله ، ولا ما أخبرتهم به رسله . وقيل المعنى أنهم ييأسون يوم القيامة من رحمة الله ، وهي الجنة . والمعنى أنهم أويسوا من الرحمة { وَأُوْلَـٰئِك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } كرّر سبحانه الإشارة للتأكيد ، ووصف العذاب بكونه أليماً للدلالة على أنه في غاية الشدّة . { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ } هذا رجوع إلى خطاب إبراهيم بعد الاعتراض بما تقدّم من خطاب محمد صلى الله عليه وسلم على قول من قال إن قوله { قل سيروا في الأرض } خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم . وأما على قول من قال إنه خطاب لإبراهيم عليه السلام ، فالكلام في سياقه سابقاً ولاحقاً ، أي قال بعضهم لبعض عند المشاورة بينهم افعلوا بإبراهيم أحد الأمرين المذكورين ، ثم اتفقوا على تحريقه { فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ } وجعلها عليه برداً وسلاماً { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي في إنجاء الله لإبراهيم { لآيَاتٍ } بيّنة ، أي دلالات واضحة وعلامات ظاهرة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه ، حيث أضرموا تلك النار العظيمة وألقوه فيها ، ولم تحرقه ولا أثرت فيه أثراً ، بل صارت إلى حالة مخالفة لما هو شأن عنصرها من الحرارة والإحراق ، وإنما خصّ المؤمنون لأنهم الذين يعتبرون بآيات الله سبحانه ، وأما من عداهم ، فهم عن ذلك غافلون . قرأ الجمهور بنصب { جواب قومه } على أنه خبر كان وما بعده اسمها . وقرأ سالم الأفطس وعمرو بن دينار والحسن برفعه على أنه اسم كان وما بعده في محل نصب على الخبر . { وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَـٰناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } أي قال إبراهيم لقومه ، أي للتوادد بينكم ، والتواصل لاجتماعكم على عبادتها ، وللخشية من ذهاب المودّة فيما بينكم إن تركتم عبادتها . قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي « مودّة بينكم » برفع مودّة غير منوّنة ، وإضافتها إلى بينكم . وقرأ الأعمش وابن وثاب « مودّة » برفعها منوّنة . وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بنصب " مَّوَدَّةَ " منوّنة ونصب بينكم على الظرفية . وقرأ حمزة وحفص بنصب « مودّة » مضافة إلى بينكم . فأما قراءة الرفع فذكر الزجاج لها وجهين الأوّل أنها ارتفعت على خبر إنّ في { إنما اتخذتم } وجعل ما موصولة . والتقدير إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثاناً مودّة بينكم . والوجه الثاني أن تكون على إضمار مبتدأ ، أي هي مودّة ، أو تلك مودّة . والمعنى أن المودّة هي التي جمعتكم على عبادة الأوثان ، واتخاذها . قيل ويجوز أن تكون مودّة مرتفعة بالابتداء ، وخبرها في الحياة الدنيا . ومن قرأ برفع مودّة منوّنة فتوجيهه كالقراءة الأولى ، ونصب بينكم على الظرفية . ومن قرأ بنصب مودّة ، ولم ينوّنها جعلها مفعول اتخذتم ، وجعل إنما حرفاً واحداً للحصر ، وهكذا من نصبها ونوّنها . ويجوز أن يكون النصب في هاتين القراءتين على أن المودّة علة فهي مفعول لأجله ، وعلى قراءة الرفع يكون مفعول اتخذتم الثاني محذوفاً ، أي أوثاناً آلهة ، وعلى تقدير أن ما في قوله { إنما اتخذتم } موصولة يكون المفعول الأوّل ضميرها أي اتخذتموه ، والمفعول الثاني أوثاناً { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } أي يكفر بعض هؤلاء المتخذين للأوثان العابدين لها بالبعض الآخر منهم ، فيتبرأ القادة من الأتباع والأتباع من القادة ، وقيل المعنى يتبرأ العابدون للأوثان من الأوثان ، وتتبرأ الأوثان من العابدين لها { وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } أي يلعن كلّ فريق الآخر على التفسيرين المذكورين { وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } أي الكفار . وقيل يدخل في ذلك الأوثان ، أي هي منزلكم الذي تأوون إليه { وَمَا لَكُمْ مّن نَّـٰصِرِينَ } يخلصونكم منها بنصرتهم لكم . { فَـئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } أي آمن لإبراهيم لوط فصدّقه في جميع ما جاء به . وقيل إنه لم يؤمن به إلاّ حين رأى النار لا تحرقه ، وكان لوط ابن أخي إبراهيم { وَقَالَ إِنّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبّي } قال النخعي ، وقتادة الذي قال { إني مهاجر إلى ربي } هو إبراهيم قال قتادة هاجر من كوثى ، وهي قرية من سواد الكوفة إلى حران ، ثم إلى الشام ، ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارّة . والمعنى إني مهاجر عن دار قومي إلى حيث أعبد ربي { إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي الغالب الذي أفعاله جارية على مقتضى الحكمة وقيل إن القائل { إني مهاجر إلى ربي } هو لوط ، والأوّل أولى لرجوع الضمير في قوله { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } إلى إبراهيم ، وكذا في قوله { وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَـٰبَ } ، وكذا في قوله { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } فإن هذه الضمائر كلها لإبراهيم بلا خلاف ، أي منّ الله عليه بالأولاد ، فوهب له إسحاق ولداً له ويعقوب ولداً لولده إسحاق ، وجعل في ذرّيته النبوّة والكتاب ، فلم يبعث الله نبياً بعد إبراهيم إلاّ من صلبه ، ووحد الكتاب لأن الألف واللام فيه للجنس الشامل للكتب ، والمراد التوراة والإنجيل والزبور والقرآن ، ومعنى { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا } أنه أعطي في الدنيا الأولاد ، وأخبره الله باستمرار النبوّة فيهم ، وذلك مما تقرّ به عينه ، ويزداد به سروره ، وقيل أجره في الدنيا أن أهل الملل كلها تدّعيه ، وتقول هو منهم . وقيل أعطاه في الدنيا عملاً صالحاً وعاقبة حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ، أي الكاملين في الصلاح المستحقين لتوفير الأجرة وكثرة العطاء من الربّ سبحانه . وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال بعث الله نوحاً ، وهو ابن أربعين سنة ، ولبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا . وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال كان عمر نوح قبل أن يبعث إلى قومه وبعد ما بعث ألفاً وسبعمائة سنة . وأخرج ابن جرير عن عوف بن أبي شدّاد قال إن الله أرسل نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة ، فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذمّ الدنيا عن أنس بن مالك قال جاء ملك الموت إلى نوح فقال يا أطول النبيين عمراً كيف وجدت الدنيا ولذتها ؟ قال كرجل دخل بيتاً له بابان ، فقال في وسط البيت هنيهة ، ثم خرج من الباب الآخر . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وَجَعَلْنَـٰهَا ءَايَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } قال أبقاها الله آية فهي على الجوديّ . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } قال تقولون كذباً . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ } قال هي الحياة بعد الموت ، وهو النشور . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { فَـئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } قال صدّق لوط إبراهيم . وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عن أنس قال أوّل من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صحبهما الله ، إن عثمان لأوّل من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط " وأخرج ابن منده وابن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت هاجر عثمان إلى الحبشة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنه أوّل من هاجر بعد إبراهيم ولوط " وأخرج ابن عساكر والطبراني ، والحاكم في الكنى عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما كان بين عثمان وبين رقية وبين لوط مهاجر " وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال أوّل من هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان كما هاجر لوط إلى إبراهيم . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } قال هما ولدا إبراهيم ، وفي قوله { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا } قال إن الله وصى أهل الأديان بدينه فليس من أهل الأديان دين إلاّ وهم يقولون إبراهيم ويرضون به . وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا } قال الذكر الحسن . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال الولد الصالح ، والثناء ، وقول ابن عباس هما ولدا إبراهيم لعله يريد ولده وولد ولده ، لأن ولد الولد بمنزلة الولد ، ومثل هذا لا يخفى على مثل ابن عباس ، فهو حبر الأمة ، وهذه الرواية عنه هي من رواية العوفي ، وفي الصحيحين " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " .