Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 98-103)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ } خطاب لليهود ، والنصارى ، والاستفهام في قوله { لِمَ تَكْفُرُونَ } للإنكار ، والتوبيخ . وقوله { وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } جملة حالية مؤكدة للتوبيخ ، والإنكار ، وهكذا المجيء بصيغة المبالغة في شهيد يفيد مزيد التشديد ، والتهويل ، والاستفهام في قوله { لِمَ تَصُدُّونَ } يفيد ما أفاده الاستفهام الأول . وقرأ الحسن { تَصُدُّونَ } من أصد ، وهما لغتان مثل صد اللحم ، وأصد إذا تغير ، وأنتن ، وسبيل الله دينه الذي ارتضاه لعباده ، وهو دين الإسلام ، والعوج الميل ، والزيغ ، يقال عوج بالكسر إذا كان في الدين ، والقول ، والعمل ، وبالفتح في الأجسام كالجدار ، ونحوه ، روي ذلك عن أبي عبيدة ، وغيره ، ومحل قوله { تبغونها عوجاً } النصب على الحال . والمعنى تطلبون لها اعوجاجاً ، وميلاً عن القصد ، والاستقامة بإبهامكم على الناس بأنها كذلك تثقيفاً لتحريفكم ، وتقويماً لدعاويكم الباطلة . وقوله { وَأَنْتُمْ شُهَدَاء } جملة حالية ، أي كيف تطلبون ذلك بملة الإسلام ، والحال أنكم تشهدون أنها دين الله الذي لا يقبل غيره ، كما عرفتم ذلك من كتبكم المنزلة على أنبيائكم ، قيل إن في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام ، وأن فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم وقيل المراد { وَأَنْتُمْ شُهَدَاء } أي عقلاء ، وقيل المعنى وأنتم شهداء بين أهل دينكم مقبولون عندهم ، فكيف تأتون بالباطل الذي يخالف ما أنتم عليه بين أهل دينكم ؟ ثم توعدهم سبحانه بقوله { وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ثم خاطب سبحانه المؤمنين محذراً لهم عن طاعة اليهود ، والنصارى مبيناً لهم أن تلك الطاعة تفضي إلى أن يردونهم بعد إيمانهم كافرين ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية ، والاستفهام في قوله { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } للإنكار ، أي من أين يأتيكم ذلك ، ولديكم ما يمنع منه ويقطع أثره ، وهو تلاوة آيات الله عليكم ، وكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم ؟ ومحل قوله { وَأَنتُمْ } وما بعده النصب على الحال . ثم أرشدهم إلى الاعتصام بالله ليحصل لهم بذلك الهداية إلى الصراط المستقيم الذي هو الإسلام ، وفي وصف الصراط بالاستقامة ردّ على ما ادَّعوه من العوج . قال الزجاج يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم ، وهم يشاهدونه ، ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة لأن آثاره ، وعلامته ، والقرآن الذي أوتيه فينا ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ، وإن لم نشاهده . انتهى . ومعنى الاعتصام بالله التمسك بدينه ، وطاعته ، وقيل بالقرآن ، يقال اعتصم به ، واستعصم ، وتمسك ، واستمسك إذا امتنع به من غيره ، وعصمه الطعام منع الجوع منه . قوله { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } أي التقوى التي تحق له ، وهي أن لا يترك العبد شيئاً مما يلزمه فعله ، ولا يفعل شيئاً مما يلزمه تركه ، ويبذل في ذلك جهده ، ومستطاعه . قال القرطبي ذكر المفسرون أنها لما نزلت هذه الآية قالوا يا رسول الله من يقوى على هذا ؟ وشق عليهم ذلك ، فأنزل الله { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } التغابن 16 فنسخت هذه الآية . روي ذلك عن قتادة ، والربيع ، وابن زيد . قال مقاتل وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذا . وقيل إن قوله { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } مبين بقوله { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } والمعنى اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم . قال وهذا أصوب لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع ، والجمع ممكن ، فهو أولى . قوله { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي لا تكونن على حال سوى حال الإسلام ، فالاستثناء مفرغ ، ومحل الجملة أعني قوله { وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } النصب على الحال ، وقد تقدم في البقرة تفسير مثل هذه الآية . قوله { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } الحبل لفظ مشترك ، وأصله في اللغة السبب الذي يتوصل به إلى البغية ، وهو إما تمثيل ، أو استعارة . أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام ، أو بالقرآن ، ونهاهم عن التفرق الناشيء عن الاختلاف في الدين ، ثم أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم ، وبين لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام ، وهو أنهم كانوا أعداء مختلفين يقتل بعضهم بعضاً ، وينهب بعضهم بعضاً ، فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخواناً وكانوا على شفا حفرة من النار بما كانوا عليه من الكفر ، فأنقذهم الله من هذه الحفرة بالإسلام . ومعنى قوله { أصبحتم } صرتم ، وليس المراد به معناه الأصلي وهو الدخول في وقت الصباح ، وشفا كل شيء حرفه ، وكذلك شفيره ، وأشفى على الشيء أشرف عليه ، وهو تمثيل للحالة التي كانوا عليها في الجاهلية . وقوله { قَالَ كَذٰلِكَ } إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده أي مثل ذلك البيان البليغ يبين الله لكم . وقوله { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } إرشاد لهم إلى الثبات على الهدى ، والازدياد منه . وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال مرّ شاس بن قيس - وكان شيخاً قد عسى في الجاهلية ، عظيم الكفر ، شديد الطعن على المسلمين ، شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس ، والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من ألفتهم ، وجماعتهم ، وصلاح ذات بينهم على الإسلام . بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية ، فقال قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد ، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتى شاباً معه من يهود ، فقال اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، ثم ذكرهم يوم بعاث ، وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار - وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس ، والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ، - ففعل فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا ، وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب ، أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس ، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه إن شئتم ، والله رددناها الآن جذعة ، وغضب الفريقان جميعاً ، وقالوا قد فعلنا ، السلاح السلاح موعدكم الظاهرة - والظاهرة الحرة - فخرجوا إليها ، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض ، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم ، فقال " يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية ، وأنا بين أظهركم ؟ بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف به بينكم ، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً ؟ " فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوهم لهم ، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا ، وعانق الرجال بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس ، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس ، وما صنع { قُلْ يٰأَهْلَ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن تَكْفُرُونَ بِـئَيَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } إلى قوله { وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وأنزل في أوس بن قيظي ، وجبار بن صخر ، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } إلى قوله { وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وقد رويت هذه القصة مختصرة ، ومطولة من طرق . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله { لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } قال كانوا إذا سألهم أحد تجدون محمداً ؟ قالوا لا ، قال فصدوا الناس عنه ، وبغوا محمداً عوجاً هلاكاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة لم تصدون عن الإسلام ، وعن نبي الله من آمن بالله ، وأنتم شهداء فيما تقرءون من كتاب الله أن محمداً رسول الله ، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره ، ولا يجزي إلا به يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة ، والإنجيل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج في قوله { وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ } قال يؤمن به . وأخرجوا عن أبي العالية قال الاعتصام الثقة بالله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود في قوله { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } قال أن يطاع ، فلا يعصى ، ويذكر ، فلا ينسى ، ويشكر ، فلا يكفر . وقد رواه الحاكم وصححه ، وابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعاً بدون قوله ويشكر ، فلا يكفر . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال حقّ تقاته أن يطاع ، فلا يعصى ، فلن تستطيعوا ، فأنزل الله بعد ذلك { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } التغابن 16 وأخرج عبد بن حميد ، عنه نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، نحوه . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { حَقَّ تُقَاتِهِ } قال لم تنسخ ، ولكن حق تقاته أن يجاهدوا في الله حق جهاده ، ولا يأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ، ولو على أنفسهم ، وآبائهم ، وأبنائهم . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ } قال حبل الله القرآن . وقد وردت أحاديث أن كتاب الله هو حبل الله الممدود . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قال { واعتصموا بحبل الله } بالإخلاص لله وحده . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن قال بطاعته . وأخرج أيضاً ، عن قتادة قال بعهده ، وأمره . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد قال بالإسلام . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن جريج في قوله { إِذْ كُنتُم أَعْدَاء } قال ما كان بين الأوس ، والخزرج في شأن عائشة . وأخرج ابن إسحاق قال كانت الحرب بين الأوس ، والخزرج عشرين ومائة سنة ، حتى قام الإسلام ، فأطفأ الله ذلك ، وألف بينهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله { وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ٱلنَّارِ } يقول كنتم على طرف النار ، من مات منكم ، وقع في النار ، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، واستنقذكم به من تلك الحفرة .