Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 1-10)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قد تقدّم الكلام على فاتحة هذه السورة في فاتحة سورة البقرة ، وتقدّم الكلام على محلها من الإعراب ، ومحلّ أمثالها في غير موضع من فواتح السور . قرأ الجمهور { غلبت الروم } بضم الغين المعجمة وكسر اللام مبنياً للمفعول ، وقرأ عليّ بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري ومعاوية بن قرّة وابن عمر وأهل الشام بفتح الغين ، واللام مبنياً للفاعل . قال النحاس قراءة أكثر الناس { غُلِبَتِ } بضم الغين وكسر اللام . قال أهل التفسير غلبت فارس الروم ففرح بذلك كفار مكة وقالوا الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب ، وافتخروا على المسلمين وقالوا نحن أيضاً نغلبكم كما غلبت فارس الروم ، وكان المسلمين يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب . ومعنى { فِي أَدْنَى ٱلأَرْضِ } في أقرب أرضهم من أرض العرب ، أو في أقرب أرض العرب منهم . قيل هي أرض الجزيرة . وقيل أذرعات . وقيل كسكر وقيل الأدرن . وقيل فلسطين ، وهذه المواضع هي أقرب إلى بلاد العرب من غيرها ، وإنما حملت الأرض على أرض العرب لأنها المعهود في ألسنتهم إذا أطلقوا الأرض أرادوا بها جزيرة العرب . وقيل إن الألف واللام عوض عن المضاف إليه . والتقدير في أدنى أرضهم فيعود الضمير إلى الروم ، ويكون المعنى في أقرب أرض الروم من العرب . قال ابن عطية إن كانت الوقعة بأذرعات ، فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة ، وإن كانت الوقعة بالجزيرة ، فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى ، وإن كانت بالأردن ، فهي أدنى إلى أرض الروم { وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } أي والروم من بعد غلب فارس إياهم سيغلبون أهل فارس ، والغلب والغلبة لغتان ، والمصدر مضاف إلى المفعول على قراءة الجمهور ، وإلى الفاعل على قراءة غيرهم . قرأ الجمهور { سيغلبون } مبنياً للفاعل ، وقرأ علي وأبو سعيد ومعاوية بن قرّة وابن عمر ، وأهل الشام على البناء للمفعول ، وسيأتي في آخر البحث ما يقوّي قراءة الجمهور في الموضعين . وقرأ أبو حيوة الشامي وابن السميفع " من بعد غلبهم " بسكون اللام . { فِي بِضْعِ سِنِينَ } متعلق بما قبله ، وقد تقدّم تفسير البضع واشتقاقه في سورة يوسف ، والمراد به هنا ما بين الثلاثة إلى العشرة { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } أي هو المنفرد بالقدرة وإنقاذ الأحكام وقت مغلوبيتهم ووقت غالبيتهم ، فكلّ ذلك بأمر الله سبحانه وقضائه ، قرأ الجمهور { من قبل ومن بعد } بضمهما لكونهما مقطوعين عن الإضافة ، والتقدير من قبل الغلب ومن بعده ، أو من قبل كل أمر ومن بعده . وحكى الكسائي " من قبل ومن بعدُ " بكسر الأوّل منوّناً وضم الثاني بلا تنوين . وحكى الفراء " من قبلِ ومن بعدِ " بكسرهما من غير تنوين ، وغلطه النحاس . قال شهاب الدين قد قرىء بكسرهما منوّنين . قال الزجاج ومعنى الآية من متقدّم ومن متأخر { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ } أي يوم أن تغلب الروم على فارس في بضع سنين يفرح المؤمنون بنصر الله للروم لكونهم أهل كتاب كما أن المسلمين أهل كتاب ، بخلاف فارس فإنه لا كتاب لهم ، ولهذا سرّ المشركون بنصرهم على الروم . وقيل نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس ، والأوّل أولى . قال الزجاج وهذه الآية من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله لأنه إنباء بما سيكون ، وهذا لا يعلمه إلاّ الله سبحانه { يَنصُرُ مَن يَشَاء } أن ينصره { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } الغالب القاهر { ٱلرَّحِيمِ } الكثير الرحمة لعباده المؤمنين . وقيل المراد بالرحمة هنا الدنيوية ، وهي شاملة للمسلم والكافر . { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } أي وعد الله وعداً لا يخلفه ، وهو ظهور الروم على فارس { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أن الله لا يخلف وعده ، وهم الكفار ، وقيل كفار مكة على الخصوص . { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } أي يعلمون ظاهر ما يشاهدونه من زخارف الدنيا وملاذها وأمر معاشهم وأسباب تحصيل فوائدهم الدنيوية . وقيل هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع . وقيل الظاهر الباطل { وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ } التي هي النعمة الدائمة ، واللذة الخالصة { هُمْ غَـٰفِلُونَ } لا يلتفتون إليها ولا يعدون لها ما يحتاج إليه ، أو غافلون عن الإيمان بها والتصديق بمجيئها . { أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا } الهمزة للإنكار عليهم ، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره ، و { في أنفسهم } ظرف للتفكر وليس مفعولاً للتفكر والمعنى أن أسباب التفكر حاصلة لهم ، وهي أنفسهم لو تفكروا فيها كما ينبغي لعلموا وحدانية الله وصدق أنبيائه . وقيل إنها مفعول للتفكر . والمعنى أو لم يتفكروا في خلق الله إياهم ولم يكونوا شيئاً ؟ و « ما » في { ما خلق الله } نافية ، أي لم يخلقها إلاّ بالحق الثابت الذي يحق ثبوته ، أو هي اسم في محل نصب على إسقاط الخافض ، أي بما خلق الله ، والعامل فيها العلم الذي يؤدي إليه التفكر . وقال الزجاج في الكلام حذف ، أي فيعلموا ، فجعل " ما " معمولة للفعل المقدّر لا للعلم المدلول عليه ، والباء في { إِلاَّ بِٱلْحَقّ } إما للسببية ، أو هي ومجرورها في محل نصب على الحال ، أي ملتبسة بالحق . قال الفراء معناه إلاّ للحق ، أي للثواب ، والعقاب . وقيل بالحق بالعدل . وقيل بالحكمة . وقيل بالحق ، أي أنه هو الحق وللحق خلقها { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } معطوف على الحق ، أي وبأجل مسمى للسماوات والأرض وما بينهما تنتهي إليه ، وهو يوم القيامة ، وفي هذا تنبيه على الفناء ، وأن لكل مخلوق أجلاً لا يجاوزه . وقيل معنى { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } أنه خلق ما خلق في وقت سماه لخلق ذلك الشيء { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَاء رَبّهِمْ لَكَـٰفِرُونَ } أي لكافرون بالبعث بعد الموت ، واللام هي المؤكدة ، والمراد بهؤلاء الكفار على الإطلاق ، أو كفار مكة . { أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ } الاستفهام للتقريع والتوبيخ لعدم تفكرهم في الآثار وتأملهم لمواقع الاعتبار ، والفاء في { فَيَنظُرُواْ } للعطف على { يسيروا } داخل تحت ما تضمنه الاستفهام من التقريع والتوبيخ ، والمعنى أنهم قد ساروا وشاهدوا { كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } من طوائف الكفار الذين أهلكهم الله بسبب كفرهم بالله ، وجحودهم للحق وتكذيبهم للرسل ، وجملة { كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } مبينة للكيفية التي كانوا عليها ، وأنهم أقدر من كفار مكة ومن تابعهم على الأمور الدنيوية ، ومعنى { وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ } حرثوها وقلبوها للزراعة وزاولوا أسباب ذلك ، ولم يكن أهل مكة أهل حرث { وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } أي عمروها عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء لأن أولئك كانوا أطول منهم أعماراً ، وأقوى أجساماً ، وأكثر تحصيلاً لأسباب المعاش ، فعمروا الأرض بالأبنية والزراعة والغرس { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } بالبينات ، أي المعجزات . وقيل بالأحكام الشرعية { فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } بتعذيبهم على غير ذنب { وَلَـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بالكفر والتكذيب . { ثُمَّ كَانَ عَـٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ } أي عملوا السيئات من الشرك والمعاصي { السُوأَى } هي فعلى من السوء ثأنيث الأسوأ ، وهو الأقبح ، أي كان عاقبتهم العقوبة التي هي أسوأ العقوبات . وقيل هي اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة ، ويجوز أن تكون مصدراً كالبشرى والذكرى ، وصفت به العقوبة مبالغة . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " عاقبة " بالرفع على أنها اسم كان ، وتذكير الفعل لكون تأنيثها مجازياً ، والخبر السوأى ، أي الفعلة أو الخصلة أو العقوبة السوأى أو الخبر { أَن كَذَّبُواْ } أي كان آخر أمرهم التكذيب ، وقرأ الباقون { عاقبة } بالنصب على خبر كان ، والاسم السوأى ، أو أن كذبوا ، ويكون التقدير ثم كان التكذيب عاقبة الذين أساؤوا ، والسوأى مصدر أساؤوا ، أو صفة لمحذوف . وقال الكسائي إن قوله { أَن كَذَّبُواْ } في محل نصب على العلة ، أي لأن كذبوا بآيات الله التي أنزلها على رسله ، أو بأن كذبوا ، ومن القائلين بأن السوأى جهنم ، الفراء والزجاج وابن قتيبة وأكثر المفسرين ، وسميت سوأى لكونها تسوء صاحبها . قال الزجاج المعنى ثم كان عاقبة الذين أشركوا النار بتكذيبهم آيات الله واستهزائهم ، وجملة { وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئونَ } عطف على كذبوا ، داخلة معه في حكم العلية على أحد القولين ، أو في حكم الاسمية لكان ، أو الخبرية لها على القول الآخر . وقد أخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والطبراني في الكبير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله { الم * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } قال كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، لأنهم كانوا أصحاب أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب ، فذكروه لأبي بكر ، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما إنهم سيغلبون " فذكره أبو بكر لهم ، فقالوا اجعل بيننا وبينك أجلاً فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا ، فجعل بينهم أجلاً خمس سنين فلم يظهروا ، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال " ألا جعلته " - أراه قال - دون العشر ، فظهرت الروم بعد ذلك ، فذلك قوله { الم غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } فغلبت ، ثم غلبت بعد بقول الله { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ } قال سفيان سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر . وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن البراء بن عازب نحوه ، وزاد أنه لما مضى الأجل ولم تغلب الروم فارس ، ساء النبيّ ما جعله أبو بكر من المدّة وكرهه وقال " ما دعاك إلى هذا ؟ " قال تصديقاً لله ولرسوله فقال " تعرّض لهم وأعظم الخطة واجعله إلى بضع سنين " ، فأتاهم أبو بكر فقال هل لكم في العود ، فإن العود أحمد ؟ قالوا نعم ، فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارس ، وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا رومية ، فقمر أبو بكر ، فجاء به أبو بكر يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال " هذا السحت تصدّق به " . وأخرج الترمذي وصححه ، والدارقطني في الأفراد ، والطبراني وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، والبيهقي في الشعب عن نيار ابن مكرم الأسلمي قال لما نزلت { الم * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } الآية كانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين الروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم ، لأنهم وإياهم أهل الكتاب ، وفي ذلك يقول الله { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ } وكانت قريش تحبّ ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا أهل كتاب ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة { الم * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ فِي أَدْنَى ٱلأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } فقال ناس من قريش لأبي بكر ذلك بيننا وبينكم يزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال بلى ، وذلك قبل تحريم الرهان ، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان ، وقالوا لأبي بكر لم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسم بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه ، قال فسموا بينهم ستّ سنين ، فمضت الستّ قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم ، فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ستّ سنين لأن الله قال { فِي بِضْعِ سِنِينَ } فأسلم عند ذلك ناس كثير . وأخرج الترمذي وحسنه ، وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر " لا احتطت يا أبا بكر ، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع " وأخرج البخاري عنه في تاريخه نحوه . وأخرج الفريابي ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال لما كان يوم بدر ظهر الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ، فنزلت " الم * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ " قرأها بالنصب يعني للغين على البناء للفاعل إلى قوله { يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ } . قال ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس ، وهذه الرواية مفسرة لقراءة أبي سعيد ومن معه . وأخرج الحاكم وصححه عن أبي الدرداء قال سيجيء أقوام يقرؤون " الم * غَلِبَتِ ٱلرُّومُ " يعني بفتح الغين ، وإنما هي { غلبت } يعني بضمها ، وفي الباب روايات وما ذكرناه يغني عما سواه . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } يعني معايشهم ، متى يغرسون ؟ ومتى يزرعون ؟ ومتى يحصدون ؟ وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله { كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } قال كان الرجل ممن كان قبلكم بين منكبيه ميل .