Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 11-27)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي يخلقهم أوّلاً ، ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } إلى موقف الحساب ، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيىء بإساءته ، وأفرد الضمير في { يعيده } باعتبار لفظ الخلق ، وجمعه في { ترجعون } باعتبار معناه . قرأ أبو بكر وأبو عمرو " يرجعون " بالتحتية . وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب والالتفات المؤذن بالمبالغة . { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُبْلِسُ ٱلْمُجْرِمُونَ } قرأ الجمهور { يبلس } على البناء للفاعل . وقرأ السلمي على البناء للمفعول ، يقال أبلس الرجل إذا سكت وانقطعت حجته . قال الفراء والزجاج المبلس الساكت المنقطع في حجته الذي أيس أن يهتدي إليها ، ومنه قول العجاج @ يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا قال نعـم أعرفه وأبلسا @@ وقال الكلبي أي يئس المشركون من كل خير حين عاينوا العذاب ، وقد قدّمنا تفسير الإبلاس عند قوله { فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } الأنعام 44 . { وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء } أي لم يكن للمشركين يوم تقوم الساعة من شركائهم الذين عبدوهم من دون الله شفعاء يجيرونهم من عذاب الله { وَكَانُواْ } في ذلك الوقت { بِشُرَكَائِهِمْ } أي بآلهتهم الذين جعلوهم شركاء لله { كَـٰفِرِينَ } أي جاحدين لكونهم آلهة لأنهم علموا إذ ذاك أنهم لا ينفعون ولا يضرون وقيل إن معنى الآية كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتهم ، والأوّل أولى . { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } أي يتفرّق جميع الخلق المدلول عليهم بقوله { ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ } والمراد بالتفرّق أن كل طائفة تنفرد ، فالمؤمنون يصيرون إلى الجنة ، والكافرون إلى النار ، وليس المراد تفرّق كلّ فرد منهم عن الآخر ، ومثله قوله تعالى { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } الشورى 7 وذلك بعد تمام الحساب ، فلا يجتمعون أبداً . ثم بيّن سبحانه كيفية تفرّقهم ، فقال { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } قال النحاس سمعت الزجاج يقول معنى « أما » دع ما كنا فيه ، وخذ في غيره ، وكذا قال سيبويه إن معناها مهما يكن من شيء فخذ في غير ما كنا فيه . والروضة كل أرض ذات نبات . قال المفسرون والمراد بها هنا الجنة ، ومعنى { يحبرون } يسرون ، والحبور والحبرة السرور ، أي فهم في رياض الجنة ينعمون . قال أبو عبيد الروضة ما كان في سفل ، فإذا كان مرتفعاً فهو ترعة . وقال غيره أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في مكان مرتفع ، ومنه قول الأعشى @ ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل @@ وقيل معنى { يحبرون } يكرمون . قال النحاس حكى الكسائي حبرته ، أي أكرمته ، ونعمته ، والأولى تفسير يحبرون بالسرور كما هو المعنى العربيّ ، ونفس دخول الجنة يستلزم الإكرام والنعيم ، وفي السرور زيادة على ذلك . وقيل التحبير التحسين ، فمعنى { يحبرون } يحسن إليهم ، وقيل هو السماع الذي يسمعونه في الجنة . وقيل غير ذلك ، والوجه ما ذكرناه . { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالله { وَكَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } وكذبوا بـ { لِقَاء ٱلآخِرَةَ } أي البعث والجنة والنار ، والإشارة بقوله { فَأُوْلَـٰئِك } إلى المتصفين بهذه الصفات ، وهو مبتدأ وخبره { فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } أي مقيمون فيه . وقيل مجموعون . وقيل نازلون . وقيل معذبون ، والمعاني متقاربة ، والمراد دوام عذابهم . ثم لما بيّن عاقبة طائفة المؤمنين وطائفة الكافرين أرشد المؤمنين إلى ما فيه الأجر الوافر ، والخير العام فقال { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي فإذا علمتم ذلك فسبحوا الله ، أي نزهوه عما لا يليق به في وقت الصباح والمساء وفي العشي ، وفي وقت الظهيرة . وقيل المراد بالتسبيح هنا الصلوات الخمس . فقوله { حين تمسون } صلاة المغرب والعشاء ، وقوله { وحين تصبحون } صلاة الفجر ، وقوله { وعشيا } صلاة العصر ، وقوله { وحين تظهرون } صلاة الظهر ، وكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وغيرهما . قال الواحدي قال المفسرون إن معنى { فسبحان الله } فصلوا لله . قال النحاس أهل التفسير على أن هذه الآية في الصلوات قال وسمعت محمد بن يزيد يقول حقيقته عندي فسبحوا الله في الصلوات لأن التسبيح يكون في الصلاة . وجملة { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } معترضة مسوقة للإرشاد إلى الحمد ، والإيذان بمشروعية الجمع بينه وبين التسبيح كما في قوله سبحانه { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } الحجر 98 وقوله { وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ } البقرة 30 وقيل معنى { وله الحمد } أي الاختصاص له بالصلاة التي يقرأ فيها الحمد ، والأول أولى . وقرأ عكرمة « حينا تمسون وحينا تصبحون » ، والمعنى حينا تمسون فيه ، وحينا تصبحون فيه . والعشيّ من صلاة المغرب إلى العتمة . قاله الجوهري ، وقال قوم هو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر ، ومنه قول الشاعر @ غدونا غدوة سحرا بليل عشيا بعد ما انتصف النهار @@ وقوله { عشيا } معطوف على حين { وفي السماوات } متعلق بنفس الحمد ، أي الحمد له يكون في السماوات والأرض { يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ } كالإنسان من النطفة والطير من البيضة { وَيُخْرِجُ ٱلْمَيّتَ مِنَ ٱلْحَيّ } كالنطفة والبيضة من الحيوان . وقد سبق بيان هذا في سورة آل عمران . وقيل ووجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها أن الإنسان عند الصباح يخرج من شبه الموت وهو النوم إلى شبه الوجود وهو اليقظة ، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم { وَيُحْيِي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي يحييها بالنبات بعد موتها باليباس ، وهو شبيه بإخراج الحيّ من الميت { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } أي ومثل ذلك الإخراج تخرجون من قبوركم . قرأ الجمهور { تخرجون } على البناء للمفعول . وقرأ حمزة والكسائي على البناء للفاعل ، فأسند الخروج إليهم كقوله { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ } المعارج 43 { وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } أي من آياته الباهرة الدالة على البعث أن خلقكم ، أي خلق أباكم آدم من تراب ، وخلقكم في ضمن خلقه لأن الفرع مستمد من الأصل ومأخوذ منه ، وقد مضى تفسير هذا في الأنعام ، و " أن " في موضع رفع بالابتداء ، و { من آياته } خبره { ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } " إذا " هي الفجائية ، أي ثم فاجأتم بعد ذلك وقت كونكم بشراً تنتشرون في الأرض . وإذا الفجائية ، وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء ، لكنها وقعت هنا بعد ثم بالنسبة إلى ما يليق بهذه الحالة الخاصة ، وهي أطوار الإنسان كما حكاه الله في مواضع من كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً مكسوّاً لحماً فاجأ البشرية ، والانتشار ، ومعنى { تنتشرون } تنصرفون فيما هو قوام معايشكم . { وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوٰجاً } أي ومن علاماته ودلالاته الدالة على البعث أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً ، أي من جنسكم في البشرية والإنسانية . وقيل المراد حوّاء ، فإنه خلقها من ضلع آدم { لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا } أي تألفوها وتميلوا إليها ، فإن الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر ولا يميل قلبه إليه { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } أي وداداً وتراحماً بسبب عصمة النكاح يعطف به بعضكم على بعض من غير أن يكون بينكم قبل ذلك معرفة ، فضلاً عن مودّة ورحمة . وقال مجاهد المودّة الجماع ، والرحمة الولد ، وبه قال الحسن . وقال السديّ المودّة المحبة ، والرحمة الشفقة . وقيل المودّة حبّ الرجل امرأته ، والرحمة رحمته إياها من أن يصيبها بسوء . وقوله { أن خلق لكم } في موضع رفع على الابتداء ، و { من آياته } خبره { إِنَّ فِي ذَلِكَ } المذكور سابقاً . { لآيَاتٍ } عظيمة الشأن بديعة البيان واضحة الدلالة على قدرته سبحانه على البعث والنشور { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، لأنهم الذين يقتدرون على الاستدلال لكون التفكر مادّة له يتحصل عنه ، وأما الغافلون عن التفكر فما هم إلاّ كالأنعام . { وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } فإن من خلق هذه الأجرام العظيمة ، التي هي أجرام السماوات والأرض ، وجعلها باقية ما دامت هذه الدار ، وخلق فيها من عجائب الصنع وغرائب التكوين ، ما هو عبرة للمعتبرين ، قادر على أن يخلقكم بعد موتكم وينشركم من قبوركم { وَٱخْتِلَـٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ } أي لغاتكم من عرب وعجم ، وترك ، وروم ، وغير ذلك من اللغات { وَأَلْوٰنِكُمْ } من البياض ، والسواد ، والحمرة ، والصفرة ، والزرقة ، والخضرة مع كونكم أولاد رجل واحد وأم واحدة ، ويجمعكم نوع واحد وهو الإنسانية ، وفصل واحد وهو الناطقية ، حتى صرتم متميزين في ذات بينكم لا يلتبس هذا بهذا ، بل في كل فرد من أفرادكم ما يميزه عن غيره من الأفراد ، وفي هذا من بديع القدرة ما لا يعقله إلاّ العالمون ، ولا يفهمه إلاّ المتفكرون { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّلْعَـٰلَمِينَ } الذين هم من جنس هذا العالم من غير فرق بين برّ وفاجر ، قرأ الجمهور بفتح لام العالمين ، وقرأ حفص وحده بكسرها . قال الفراء وله وجه جيد لأنه قد قال { لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } { لآيَـٰتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَـٰبِ } آل عمران 190 { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ٱلْعَـٰلِمُونَ } العنكبوت 43 . { وَمِنْ ءايَـٰتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَاؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ } قيل في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار . وقيل المعنى صحيح من دون تقديم وتأخير ، أي ومن آياته العظيمة أنكم تنامون بالليل ، وتنامون بالنهار في بعض الأحوال للاستراحة كوقت القيلولة ، وابتغاؤكم من فضله فيهما ، فإن كل واحد منهما يقع فيه ذلك ، وإن كان ابتغاء الفضل في النهار أكثر . والأوّل هو المناسب لسائر الآيات الواردة في هذا المعنى ، والآخر هو المناسب للنظم القرآني ها هنا . ووجه ذكر النوم والابتغاء ها هنا ، وجعلهما من جملة الأدلة على البعث أن النوم شبيه بالموت ، والتصرّف في الحاجات والسعي في المكاسب شبيه بالحياة بعد الموت { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي يسمعون الآيات والمواعظ سماع متفكّر متدبر ، فيستدلون بذلك على البعث { وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً } المعنى أن يريكم ، فحذف " أن " لدلالة الكلام عليه كما قال طرفة @ ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي ؟ @@ والتقدير أن أحضر ، فلما حذف الحرف في الآية والبيت بطل عمله ، ومنه المثل المشهور « تسمع بالمعيدي خير من أن تراه » وقيل هو على التقديم ، والتأخير ، أي ويريكم البرق من آياته ، فيكون من عطف جملة فعلية على جملة اسمية ، ويجوز أن يكون { يريكم } صفة لموصوف محذوف ، أي ومن آياته آية يريكم بها ، وفيها البرق ، وقيل التقدير ، ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً من آياته . قال الزجاج فيكون من عطف جملة على جملة . قال قتادة خوفاً للمسافر ، وطمعاً للمقيم . وقال الضحاك خوفاً من الصواعق ، وطمعاً في الغيث . وقال يحيـى بن سلام خوفاً من البرد أن يهلك الزرع ، وطمعاً في المطر أن يحيـي الزرع . وقال ابن بحر خوفاً أن يكون البرق برقاً خلباً لا يمطر ، وطمعاً أن يكون ممطراً ، وأنشد @ لا يكن برقك برقاً خلبا إن خير البرق ما الغيث معه @@ وانتصاب { خوفاً } و { طمعاً } على العلة { وَيُنَزّلُ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَيُحْىِ بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي يحييها بالنبات بعد موتها باليباس { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فإن من له نصيب من العقل يعلم أن ذلك آية يستدلّ بها على القدرة الباهرة . { وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضُ بِأَمْرِهِ } أي قيامهما واستمساكهما بإرادته سبحانه وقدرته بلا عمد يعمدها ، ولا مستقرّ يستقران عليه . قال الفراء يقول أن تدوما قائمتين بأمره { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ ٱلأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } أي ثم بعد موتكم ومصيركم في القبور ، إذا دعاكم دعوة واحدة فاجأتم الخروج منها بسرعة ، من غير تلبث ولا توقف ، كما يجيب المدعو المطيع دعوة الداعي المطاع . و { من الأرض } متعلق بـ " دعا " ، أي دعاكم من الأرض التي أنتم فيها ، كما يقال دعوته من أسفل الوادي فطلع إليّ ، أو متعلق بمحذوف هو صفة لدعوة ، أو متعلق بمحذوف يدلّ عليه تخرجون ، أي خرجتم من الأرض ، ولا يجوز أن يتعلق بـ { تخرجون } لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها ، وهذه الدعوة هي نفخة إسرافيل الآخرة في الصور على ما تقدّم بيانه ، وقد أجمع القراء على فتح التاء في { تخرجون } هنا ، وغلط من قال إنه قرىء هنا بضمها على البناء للمفعول ، وإنما قرىء بضمها في الأعراف . { وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } من جميع المخلوقات ملكاً وتصرّفاً وخلقاً ، ليس لغيره في ذلك شيء { كُلٌّ لَّهُ قَـٰنِتُونَ } أي مطيعون طاعة انقياد . وقيل مقرّون بالعبودية . وقيل مصلون . وقيل قائمون يوم القيامة كقوله { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } المطففين 6 أي للحساب . وقيل بالشهادة أنهم عباده . وقيل مخلصون { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } بعد الموت فيحييه الحياة الدائمة { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أي هين عليه لا يستصعبه ، أو أهون عليه بالنسبة إلى قدرتكم ، وعلى ما يقوله بعضكم لبعض ، وإلاّ فلا شيء في قدرته بعضه أهون من بعض ، بل كل الأشياء مستوية يوجدها بقوله كن فتكون . قال أبو عبيد من جعل أهون عبارة عن تفضيل شيء على شيء ، فقوله مردود بقوله { وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } النساء 30 ، وبقوله { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } البقرة 255 والعرب تحمل أفعل على فاعل كثيراً ، كما في قول الفرزدق @ إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتاً دعائمه أعزّ وأطول @@ أي عزيزة طويلة ، وأنشد أحمد بن يحيـى ثعلب على ذلك @ تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد @@ أي لست بواحد ، ومثله قول الآخر @ لعمرك إن الزبرقان لباذل لمعروفه عند السنين وأفضل @@ أي وفاضل ، وقرأ عبد الله بن مسعود " وهو عليه هين " . وقال مجاهد وعكرمة والضحاك إن الإعادة أهون عليه ، أي على الله من البداية ، أي أيسر ، وإن كان جميعه هيناً . وقيل المراد أن الإعادة فيما بين الخلق أهون من البداية ، وقيل الضمير في { عليه } للخلق ، أي وهو أهون على الخلق لأنه يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون ، ويقال لهم كونوا فيكونون ، فلذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى آخر النشأة { وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } قال الخليل المثل الصفة ، أي وله الوصف الأعلى { فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وٱلأَرْضِ } كما قال { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } الرعد 35 أي صفتها . وقال مجاهد المثل الأعلى قول لا إلٰه إلاّ الله ، وبه قال قتادة . وقال الزجاج { وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي قوله { وهو أهون عليه } قد ضربه لكم مثلاً فيما يصعب ويسهل . وقيل المثل الأعلى هو أنه ليس كمثله شيء ، وقيل هو أن ما أراده كان بقول كن ، و { في السماوات والأرض } متعلق بمضمون الجملة المتقدّمة ، والمعنى أنه سبحانه عرف بالمثل الأعلى ، ووصف به في السماوات والأرض ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الأعلى ، أو المثل ، أو من الضمير في الأعلى { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } في ملكه ، القادر الذي لا يغالب { ٱلْحَكِيمُ } في أقواله وأفعاله . وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { يُبْلِسُ } قال يبتئس . وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم { يُبْلِسُ } قال يكتئب ، وعنه الإبلاس الفضيحة . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله { يُحْبَرُونَ } قال يكرمون . وأخرج الديلمي عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم القيامة قال الله أين الذين كانوا ينزّهون أسماعهم ، وأبصارهم عن مزامير الشيطان ؟ ميزوهم ، فيميزون في كثب المسك والعنبر ثم يقول للملائكة أسمعوهم من تسبيحي وتحميدي وتهليلي ، قال فيسبحون بأصوات لم يسمع السامعون بمثلها قط " وأخرج الدينوري في المجالسة عن مجاهد قال ينادي مناد يوم القيامة … فذكر نحوه ، ولم يسمّ من رواه له عن رسول الله . وأخرج ابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي ، والأصبهاني في الترغيب عن محمد بن المنكدر نحوه . وأخرج ابن أبي الدنيا والضياء المقدسي كلاهما في صفة الجنة ، قال السيوطي بسند صحيح ، عن ابن عباس قال " في الجنة شجرة على ساق قدر ما يسير الراكب المجدّ في ظلها مائة عام ، فيخرج أهل الجنة أهل الغرف ، وغيرهم فيتحدّثون في ظلها ، فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا ، فيرسل الله ريحاً من الجنة فتحرّك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا " وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه . وأخرج الفريابي وابن مردويه عن ابن عباس قال " كل تسبيح في القرآن فهو صلاة " وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصححه عن أبي رزين قال جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس ، فقال هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال نعم ، فقرأ { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ } صلاة المغرب { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } صلاة الصبح { وَعَشِيّاً } صلاة العصر { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } صلاة الظهر ، وقرأ { مِن بَعْدِ صَلَوٰةِ ٱلْعِشَاء } النور 58 . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه قال جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ } قال المغرب والعشاء { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } الفجر { وَعَشِيّاً } العصر { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } الظهر . وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في عمل يوم وليلة ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفّى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون . وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون " وفي إسناده ابن لهيعة . وأخرج أبو داود والطبراني وابن السني وابن مردويه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قال حين يصبح { سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَيُحْييِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } أدرك ما فاته في يومه ، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته " وإسناده ضعيف . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { كُلٌّ لَّهُ قَـٰنِتُونَ } يقول مطيعون يعني الحياة والنشور والموت وهم له عاصون فيما سوى ذلك من العبادة . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } قال أيسر . وأخرج ابن الأنباري عنه أيضاً في قوله { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } قال الإعادة أهون على المخلوق ، لأنه يقول له يوم القيامة كن فيكون ، وابتدأ الخلقة من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } يقول ليس كمثله شيء .