Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 1-8)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الفطر الشقّ عن الشيء ، يقال فطرته فانفطر ، ومنه فطر ناب البعير إذا طلع ، فهو بعير فاطر ، وتفطر الشيء تشقق ، والفطر الابتداء والاختراع ، وهو المراد هنا ، والمعنى { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } مبدع { ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } ، ومخترعهما ، والمقصود من هذا أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم ، فهو قادر على الإعادة . قرأ الجمهور { فاطر } على صيغة اسم الفاعل ، وقرأ الزهري ، والضحاك فطر على صيغة الفعل الماضي ، فعلى القراءة الأولى هو نعت لله لأن إضافته محضة لكونه بمعنى الماضي ، وإن كانت غير محضة كان بدلاً ، ومثله { جَاعِلِ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً } يجوز فيه الوجهان ، وانتصاب رسلاً بفعل مضمر على الوجه الأوّل ، لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل ، وجوّز الكسائي عمله . وأما على الوجه الثاني ، فهو منصوب بجاعل ، والرسل من الملائكة هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل . وقرأ الحسن جاعل بالرفع ، وقرأ خليل بن نشيط ، ويحيـى بن يعمر جعل على صيغة الماضي . وقرأ الحسن ، وحميد رسلاً بسكون السين ، وهي لغة تميم { أُوْلِى أَجْنِحَةٍ } صفة لـ { رسلاً } ، والأجنحة جمع جناح { مَثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَاعَ } صفة لأجنحة ، وقد تقدّم الكلام في مثنى ، وثلاث ، ورباع في النساء . قال قتادة بعضهم له جنحان ، وبعضهم ثلاثة ، وبعضهم أربعة ينزلون بها من السماء إلى االأض ، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء . قال يحيـى بن سلام يرسلهم الله إلى الأنبياء . وقال السدّي إلى العباد بنعمه ، أو نقمه ، وجملة { يَزِيدُ فِى ٱلْخَلْقِ مَا يَشَاء } مستأنفة مقرّرة لما قبلها من تفاوت أحوال الملائكة ، والمعنى أنه يزيد في خلق الملائكة ما يشاء ، وهو قول أكثر المفسرين ، واختاره الفراء ، والزجاج . وقيل إن هذه الزيادة في الخلق غير خاصة بالملائكة ، فقال الزهري ، وابن جريج إنها حسن الصوت . وقال قتادة الملاحة في العينين ، والحسن في الأنف ، والحلاوة في الفم . وقيل الوجه الحسن . وقيل الخط الحسن . وقيل الشعر الجعد . وقيل العقل والتمييز . وقيل العلوم ، والصنائع ، ولا وجه لقصر ذلك على نوع خاص بل يتناول كل زيادة . وجملة { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } تعليل لما قبلها من أنه يزيد في الخلق ما يشاء . { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } أي ما يأتيهم الله به من مطر ورزق لا يقدر أحد أن يمسكه { وَمَا يُمْسِكْ } من ذلك لا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه . وقيل المعنى إن الرسل بعثوا رحمة للناس ، فلا يقدر على إرسالهم غير الله . وقيل هو الدعاء . وقيل التوبة . وقيل التوفيق ، والهداية . ولا وجه لهذا التخصيص بل المعنى كل ما يفتحه الله للناس من خزائن رحمته ، فيشمل كل نعمة ينعم الله بها على خلقه ، وهكذا الإمساك يتناول كل شيء يمنعه الله من نعمه ، فهو سبحانه المعطي المانع القابض الباسط لا معطي سواه ، ولا منعم غيره . ثم أمر الله سبحانه عباده أن يتذكروا نعمه الفائضة عليهم التي لا تعدّ ولا تحصى { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } إبراهيم 34 ، ومعنى هذا الأمر لهم بالذكر هو إرشادهم إلى الشكر لاستدامتها ، وطلب المزيد منها { هَلْ مِنْ خَـٰلِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ } " من " زائدة ، وخالق مبتدأ ، وغير الله صفة له . قال الزجاج ورفع غير على معنى هل خالق غير الله لأن « من » زيادة مؤكدة ، ومن خفض غير جعلها صفة على اللفظ . قرأ الجمهور برفع " غير " ، وقرأ حمزة ، والكسائي بخفضها ، وقرأ الفضل بن إبراهيم بنصبها على الاستثناء ، وجملة { يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَاء وٱلأَرْضِ } خبر المبتدأ . أو جملة مستأنفة ، أو صفة أخرى لخالق ، وخبره محذوف ، والرزق من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات ، وغير ذلك ، وجملة { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } مستأنفة لتقرير النفي المستفاد من الاستفهام { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } من الأفك بالفتح ، وهو الصرف ، يقال ما أفكك عن كذا ، أي ما صرفك ، أي فكيف تصرفون . وقيل هو مأخوذ من الإفك بالكسر ، وهو الكذب لأنه مصروف عن الصدق . قال الزجاج ، أي من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله ، والبعث ، وأنتم مقرّون بأن الله خلقكم ورزقكم . ثم عزّى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال { وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } ليتأسى بمن قبله من الأنبياء ، ويتسلى عن تكذيب كفار العرب له { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } لا إلى غيره ، فيجازي كلاً بما يستحقه . قرأ الحسن ، والأعرج ، ويعقوب ، وابن عامر ، وأبو حيوة ، وابن محيصن ، وحميد ، والأعمش ، ويحيـى بن وثاب ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ترجع بفتح الفوقية على البناء للفاعل ، وقرأ الباقون بضمها على البناء للمفعول . { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أي وعده بالبعث ، والنشور ، والحساب ، والعقاب ، والجنة ، والنار ، كما أشير إليه بقوله { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } . { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا } بزخرفها ، ونعيمها . قال سعيد بن جبير غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ، ولذاتها عن عمل الآخرة حتى يقول { يَقُولُ يٰلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } الفجر 24 { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } قرأ الجمهور بفتح الغين ، أي المبالغ في الغرور ، وهو الشيطان . قال ابن السكيت ، وأبو حاتم الغرور الشيطان ، ويجوز أن يكون مصدراً ، واستبعده الزجاج ، لأن غرر به متعدي ، ومصدر المتعدي إنما هو على فعل نحو ضربته ضرباً ، إلاّ في أشياء يسيرة معروفة لا يقاس عليها ، ومعنى الآية لا يغرنكم الشيطان بالله ، فيقول لكم إن الله يتجاوز عنكم ، ويغفر لكم لفضلكم ، أو لسعة رحمته لكم . وقرأ أبو حيوة ، وأبو سماك ، ومحمد بن السميفع بضم الغين ، وهو الباطل . قال ابن السكيت والغرور بالضم ما يغرّ من متاع الدنيا . وقال الزجاج يجوز أن يكون الغرور جمع غار ، مثل قاعد ، وقعود . قيل ويجوز أن يكون مصدر غرّه كاللزوم ، والنهوك ، وفيه ما تقدّم عن الزجاج من الاستبعاد . ثم حذر سبحانه عباده من الشيطان ، فقال { إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } أي فعادوه بطاعة الله ، ولا تطيعوه في معاصي الله . ثم بيّن لعباده كيفية عداوة الشيطان لهم ، فقال { إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ } أي إنما يدعو أشياعه ، وأتباعه ، والمطيعين له إلى معاصي الله سبحانه لأجل أن يكونوا من أهل النار ، ومحل الموصول في قوله { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } الرفع على الابتداء ، و { لهم عذاب شديد } خبره ، أو الرفع على البدل من فاعل { يكونوا } ، أو النصب على البدل من { حزبه } ، أو النعت له ، أو إضمار فعل يدل على الذمّ ، والجرّ على البدل من أصحاب ، أو النعت له . والرفع على الابتداء أقوى هذه الوجوه ، لأنه سبحانه بعد ذكر عداوة الشيطان ودعائه لحزبه ، ذكر حال الفريقين من المطيعين له ، والعاصين عليه ، فالفريق الأوّل قال { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } ، والفريق الآخر قال فيه { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } أي يغفر الله لهم بسبب الإيمان والعمل الصالح ، ويعطيهم أجراً كبيراً ، وهو الجنة . { أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً } هذه الجملة مستأنفة لتقرير ما سبق من ذكر التفاوت بين الفريقين ، و « من » في موضع رفع بالابتداء ، وخبره محذوف . قال الكسائي والتقدير ذهبت نفسك عليهم حسرات . قال ويدلّ عليه قوله { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰتٍ } قال وهذا كلام عربيّ ظريف لا يعرفه إلاّ القليل . وقال الزجاج تقديره كمن هداه ، وقدّره غيرهما كمن لم يزين له ، وهذا أولى لموافقته لفظاً ، ومعنى ، وقد وهم صاحب الكشاف ، فحكى عن الزجاج ما قاله الكسائي . قال النحاس والذي قاله الكسائي أحسن ما قيل في الآية لما ذكره من الدلالة على المحذوف ، والمعنى أن الله عزّ وجلّ نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن شدّة الاغتمام بهم ، والحزن عليهم كما قال { فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ } الكهف 6 وجملة { فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء } مقرّرة لما قبلها ، أي يضلّ من يشاء أن يضله ، ويهدي من يشاء أن يهديه { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰتٍ } قرأ الجمهور بفتح الفوقية ، والهاء مسنداً إلى النفس ، فتكون من باب لا أرينّك ها هنا . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وابن محيصن ، والأشهب بضم التاء ، وكسر الهاء ، ونصب { نفسك } ، وانتصاب { حسرات } على أنه علة ، أي للحسرات ، ويجوز أن ينتصب على الحال كأنها صارت كلها حسرات لفرط التحسر كما روي عن سيبويه . وقال المبرد إنها تمييز . والحسرة شدّة الحزن على ما فات من الأمر { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } لا يخفى عليه من أفعالهم وأقوالهم خافية ، والجملة تعليل لما قبلها مع ما تضمنته من الوعيد الشديد . وقد أخرج أبو عبيد في فضائله ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس قال كنت لا أدري ما { فاطر السماوات والأرض } حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما أنا فطرتها ، يقول ابتدأتها . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال { فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ } بديع السمٰوات . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله { يَزِيدُ فِى ٱلْخَلْقِ مَا يَشَاء } قال الصوت الحسن . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } الآية قال ما يفتح الله للناس من باب توبة { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } هم يتوبون إن شاءوا وإن أبوا ، وما أمسك من باب توبة { فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } ، وهم لا يتوبون . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم في الآية قال يقول ليس لك من الأمر شيء . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله { لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } قال كل شيء في القرآن لهم مغفرة ، وأجر كبير ، ورزق كريم ، فهو الجنة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة ، والحسن في قوله { أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ } قال الشيطان زين لهم ، هي والله الضلالات { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰتٍ } أي لا تحزن عليهم .