Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 12-25)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر سبحانه أحوال الكفار المعاصرين لرسول الله ذكر أمثالهم ممن تقدّمهم ، وعمل عملهم من الكفر والتكذيب ، فقال { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ } قال المفسرون كانت له أوتاد يعذب بها الناس ، وذلك أنه كان إذا غضب على أحد ، وتد يديه ، ورجليه ، ورأسه على الأرض . وقيل المراد بالأوتاد الجموع ، والجنود الكثيرة ، يعني أنهم كانوا يقوّون أمره ، ويشدّون سلطانه كما تقوى الأوتاد ما ضربت عليه ، فالكلام خارج مخرج الاستعارة على هذا . قال ابن قتيبة العرب تقول هم في عزّ ثابت الأوتاد ، وملك ثابت الأوتاد ، يريدون ملكاً دائماً شديداً ، وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ، ويقوم بالأوتاد . وقيل المراد بالأوتاد هنا البناء المحكم ، أي وفرعون ذو الأبنية المحكمة . قال الضحاك والبنيان يسمى أوتاداً ، والأوتاد جمع وتد أفصحها فتح الواو ، وكسر التاء ، ويقال وتد بفتحهما ، وودّ بإدغام التاء في الدال ، وودت . قال الأصمعي ويقال وتد واتد مثل شغل شاغل ، وأنشد @ لاقت علي الماء جذيلاً واتدا ولم يكن يخلفها المواعدا @@ { وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَـٰبُ الأَيْكَةِ } الأيكة الغيضة ، وقد تقدّم تفسيرها ، واختلاف القرّاء في قراءتها في سورة الشعراء ، ومعنى { أُوْلَـئِكَ ٱلأَحْزَاب } أنهم الموصوفون بالقوّة ، والكثرة كقولهم فلان هو الرجل ، وقريش وإن كانوا حزباً كما قال الله سبحانه فيما تقدّم { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن ٱلأَحَزَابِ } صۤ 11 ولكن هؤلاء الذين قصهم الله علينا من الأمم السالفة هم أكثر منهم عدداً ، وأقوى أبداناً ، وأوسع أموالاً ، وأعماراً ، وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة ، ويجوز أن تكون خبراً ، والمبتدأ قوله { وَعَادٌ } كذا قال أبو البقاء ، وهو ضعيف ، بل الظاهر أن { عاد } ، وما بعده معطوفات على { قوم نوح } ، والأولى أن تكون هذه الجملة خبراً لمبتدأ محذوف ، أو بدلاً من الأمم المذكورة { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرٌّسُلَ } إن هي النافية ، والمعنى ما كلّ حزب من هذه الأحزاب إلا كذب الرسل ، لأن تكذيب الحزب لرسوله المرسل إليه تكذيب لجميع الرسل ، أو هو من مقابلة الجمع بالجمع ، والمراد تكذيب كلّ حزب لرسوله ، والاستثناء مفرغ من أعمّ الأحوال ، أي ما كلّ أحد من الأحزاب في جميع أحواله إلا وقع منه تكذيب الرسل { فَحَقَّ عِقَابِ } أي فحقّ عليهم عقابي بتكذيبهم ، ومعنى حقّ ثبت ، ووجب ، وإن تأخر ، فكأنه واقع بهم ، وكلّ ما هو آتٍ قريب . قرأ يعقوب بإثبات الياء في { عقاب } ، وحذفها الباقون مطابقة لرؤوس الآي . { وَمَا يَنظُرُ هَـؤُلآء إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً } أي ما ينتظرون إلا صيحة ، وهي النفخة الكائنة عند قيام الساعة . وقيل هي النفخة الثانية ، وعلى الأوّل المراد من عاصر نبينا صلى الله عليه وسلم من الكفار ، وعلى الثاني المراد كفار الأمم المذكورة ، أي ليس بينهم ، وبين حلول ما أعدّ الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية . وقيل المراد بالصيحة عذاب يفجؤهم في الدنيا كما قال الشاعر @ صاح الزمان بآل برمك صيحة خرّوا لشدّتها على الأذقان @@ وجملة { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } في محل نصب صفة لصيحة . قال الزجاج فواق ، وفواق بفتح الفاء ، وضمها أي ما لها من رجوع ، والفواق ما بين حلبتي الناقة ، وهو مشتقّ من الرجوع أيضاً ، لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين ، وأفاق من مرضه ، أي رجع إلى الصحة ، ولهذا قال مجاهد ، ومقاتل إن الفواق الرجوع . وقال قتادة ما لها من مثنوية . وقال السدّي ما لها من إفاقة ، وقيل ما لها من مردّ . قال الجوهري ما لها من نظرة ، وراحة وإفاقة ، ومعنى الآية أن تلك الصيحة هي ميعاد عذابهم ، فإذا جاءت لم ترجع ، ولا تردّ عنهم ، ولا تصرف منهم ، ولا تتوقف مقدار فواق ناقة ، وهي ما بين حلبتي الحالب لها ، ومنه قول الأعشى @ حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت جاءت لترضع شقّ النفس لو رضعا @@ والفيقة اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين ، وجمعها فيق ، وأفواق . قرأ حمزّة ، والكسائي " ما لها من فواق " بضم الفاء ، وقرأ الباقون بفتحها . قال الفراء ، وأبو عبيدة الفواق بفتح الفاء الراحة ، أي لا يفيقون فيها كما يفيق المريض ، والمغشيّ عليه ، وبالضم الانتظار { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ } لما سمعوا ما توعدهم الله به من العذاب قالوا هذه المقالة استهزاء ، وسخرية ، والقط في اللغة النصيب ، من القط ، وهو القطع ، وبهذا قال قتادة ، وسعيد بن جبير ، قال الفراء القط في كلام العرب الحظ والنصيب ، ومنه قيل للصك قط . قال أبو عبيدة ، والكسائي القط الكتاب بالجوائز ، والجمع القطوط ، ومنه قول الأعشى @ ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق @@ ومعنى يأفق يصلح ، ومعنى الآية سؤالهم لربهم أن يعجل لهم نصيبهم وحظهم من العذاب ، وهو مثل قوله { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ } الحج 47 . وقال السدّي سألوا ربهم أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ، ليعلموا حقيقة ما يوعدون به ، وقال إسماعيل بن أبي خالد المعنى عجل لنا أرزاقنا ، وبه قال سعيد بن جبير ، والسدّي . وقال أبو العالية ، والكلبي ، ومقاتل لما نزل { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } الحاقة 19 { وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِشِمَالِهِ } الحاقة 25 قالت قريش زعمت يا محمد أنا نؤتى كتابنا بشمالنا ، فعجل لنا قطنا قبل يوم الحساب . ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يصبر على ما يسمعه من أقوالهم فقال { ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } من أقوالهم الباطلة التي هذا القول المحكي عنهم من جملتها . وهذه الآية منسوخة بآية السيف . { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ ذَا ٱلأَيْدِ } لما فرغ من ذكر قرون الضلالة ، وأمم الكفر ، والتكذيب ، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يسمعه زاد في تسليته ، وتأسيته بذكر قصة داود ، وما بعدها . ومعنى { ٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ } اذكر قصته ، فإنك تجد فيها ما تتسلى به ، والأيد القوّة ، ومنه رجل أيد ، أي قويّ ، وتأيد الشيء تقوّى ، والمراد ما كان فيه عليه السلام من القوّة على العبادة . قال الزجاج وكانت قوّة داود على العبادة أتمّ قوّة ، ومن قوّته ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ، وكان يصلي نصف الليل ، وكان لا يفرّ إذا لاقى العدّو ، وجملة { إِنَّهُ أَوَّابٌ } تعليل لكونه ذا الأيد ، والأوابّ الرجاع عن كل ما يكرهه الله سبحانه إلى ما يحبه ، ولا يستطيع ذلك إلا من كان قوياً في دينه . وقيل معناه كلما ذكر ذنبه استغفر منه ، وناب عنه ، وهذا داخل تحت المعنى الأوّل ، يقال آب يؤوب إذا رجع { إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِٱلْعَشِىّ وَٱلإشْرَاقِ } أيّ يقدّسن الله سبحانه ، وينزهنه عما لا يليق به . وجملة { يُسَبّحْنَ } في محل نصب على الحال ، وفي هذا بيان ما أعطاه الله من البرهان ، والمعجزة ، وهو تسبيح الجبال معه . قال مقاتل كان داود إذا ذكر الله ذكرت الجبال معه ، وكان يفقه تسبيح الجبال . وقال محمد بن إسحاق أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دويّ حسن ، فهذا معنى تسبيح الجبال ، والأوّل أولى . وقيل معنى { يُسَبّحْنَ } يصلين ، و { مَعَهُ } متعلق بسخرنا . ومعنى { بِٱلْعَشِىّ وَٱلإشْرَاقِ } قال الكلبي غدوة وعشية ، يقال أشرقت الشمس إذا أضاءت ، وذلك وقت الضحى . وأما شروقها ، فطلوعها . قال الزجاج شرقت الشمس إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت . { وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً } معطوف على الجبال ، وانتصاب { محشورة } على الحال من الطير ، أي وسخرنا الطير حال كونها محشورة ، أي مجموعة إليه تسبح الله معه . قيل كانت تجمعها إليه الملائكة . وقيل كانت تجمعها الريح { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } أي كل واحد من داود ، والجبال ، والطير رجاع إلى طاعة الله ، وأمره ، والضمير في له راجع إلى الله عزّ وجلّ . وقيل الضمير لداود ، أي لأجل تسبيح داود مسبح ، فوضع أوّاب موضع مسبح ، والأوّل أولى . وقد قدّمنا أن الأوّاب الكثير الرجوع إلى الله سبحانه { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } قوّيناه وثبتناه بالنصر في المواطن على أعدائه وإلقاء الرعب منه في قلوبهم . وقيل بكثرة الجنود { وَءاتَيْنَـٰهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ } المراد بالحكمة النبوّة ، والمعرفة بكل ما يحكم به . وقال مقاتل الفهم ، والعلم . وقال مجاهد العدل . وقال أبو العالية العلم بكتاب الله . وقال شريح السنة . والمراد بفصل الخطاب الفصل في القضاء ، وبه قال الحسن ، والكلبي ، ومقاتل . وحكى الواحدي عن الأكثر أن فصل الخطاب الشهود ، والإيمان لأنها إنما تنقطع الخصومة بهذا . وقيل هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل . { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } لما مدحه الله سبحانه بما تقدم ذكره أردف ذلك بذكر هذه القصة الواقعة له لما فيها من الأخبار العجيبة . قال مقاتل بعث الله إلى داود ملكين ، جبريل ، وميكائيل لينبهه على التوبة ، فأتياه ، وهو في محرابه . قال النحاس ولا خلاف بين أهل التفسير أن المراد بالخصم ها هنا الملكان ، والخصم مصدر يقع على الواحد ، والاثنين ، والجماعة . ومعنى { تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } أتوه من أعلى سوره ، ونزلوا إليه ، والسور الحائط المرتفع ، وجاء بلفظ الجمع في تسوروا مع كونهم اثنين ، نظراً إلى ما يحتمله لفظ الخصم من الجمع . ومنه قول الشاعر @ وخصم غضاب قد نفضت لحاهم كنفض البراذين العراب المخاليا @@ والمحراب الغرفة ، لأنهم تسوروا عليه ، وهو فيها ، كذا قال يحيـى بن سلام . وقال أبو عبيدة إنه صدر المجلس ، ومنه محراب المسجد . وقيل إنهما كانا إنسيين ، ولم يكونا ملكين ، والعامل في « إذ » في قوله { إِذْ دَخَلُواْ } النبأ ، أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تسورهم ؟ وبهذا قال ابن عطية ، ومكي ، وأبو البقاء . وقيل العامل فيه أتاك . وقيل معمول للخصم . وقيل معمول لمحذوف ، أي وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم . وقيل هو معمول لتسوروا . وقيل هو بدل مما قبله . وقال الفراء إن أحد الظرفين المذكورين بمعنى لما { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } ، وذلك لأنهما أتياه ليلاً في غير وقت دخول الخصوم ، ودخلوا عليه بغير إذنه ، ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس . قال ابن الأعرابي وكان محراب داود من الامتناع بالارتفاع بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة ، وجملة { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قالوا لداود لما فزع منهم ؟ وارتفاع { خَصْمَانِ } ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي نحن خصمان ، وجاء فيما سبق بلفظ الجمع ، وهنا بلفظ التثنية ، لما ذكرنا من أن لفظ الخصم يحتمل المفرد ، والمثنى ، والمجموع ، فالكل جائز . قال الخليل هو كما تقول نحن فعلنا كذا إذا كنتما اثنين . وقال الكسائي جمع لما كان خبراً ، فلما انقضى الخبر ، وجاءت المخاطبة أخبر الاثنان عن أنفسهما ، فقالا خصمان ، وقوله { بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ } هو على سبيل الفرض ، والتقدير ، وعلى سبيل التعريض لأن من المعلوم أن الملكين لا يبغيان . ثم طلبا منه أن يحكم بينهما بالحق ، ونهياه عن الجور ، فقالا { فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقّ وَلاَ تُشْطِطْ } أي لا تجر في حكمك ، يقال شط الرجل ، وأشط شططاً ، وإشطاطاً إذا جار في حكمه . قال أبو عبيد شططت عليه ، وأشططت أي جرت . وقال الأخفش معناه لا تسرف ، وقيل لا تفرط ، وقيل لا تمل . والمعنى متقارب ، والأصل فيه البعد ، من شطت الدار إذا بعدت . قال أبو عمرو الشطط مجاوزة القدر في كل شيء { وَٱهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاء ٱلصّرٰطِ } سواء الصراط وسطه . والمعنى أرشدنا إلى الحق ، واحملنا عليه . ثم لما أخبراه عن الخصومة إجمالاً شرعاً في تفصيلهما ، وشرحها ، فقالا { إِنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } المراد بالأخوة هنا أخوة الدين ، أو الصحبة ، والنعجة هي الأنثى من الضأن ، وقد يقال لبقر الوحش نعجة { وَلِى نَعْجَةٌ وٰحِدَةٌ } قال الواحدي النعجة البقرة الوحشية ، والعرب تكني عن المرأة بها ، وتشبه النساء بالنعاج من البقر . قرأ الجمهور { تِسْعٌ وَتِسْعُونَ } بكسر التاء الفوقية . وقرأ الحسن ، وزيد بن علي بفتحها . قال النحاس وهي لغة شاذة ، وإنما عنى بـ { هذا } داود لأنه كان له تسع وتسعون امرأة ، وعنى بقوله { ولي نعجة واحدة } أوريا زوج المرأة التي أراد أن يتزوجها داود كما سيأتي بيان ذلك { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } أي ضمها إليّ ، وانزل لي عنها حتى أكفلها ، وأصير بعلاً لها . قال ابن كيسان اجعلها كفلي ، ونصيبي { وَعَزَّنِى فِى ٱلْخِطَابِ } أي غلبني ، يقال عزه يعزه عزاً إذا غلبه . وفي المثل « من عزَّ بزَّ » أي من غلب سلب ، والاسم العزة وهي القوة . قال عطاء المعنى إن تكلم كان أفصح مني . وقرأ ابن مسعود ، وعبيد بن عمير وعازني في الخطاب أي غالبني من المعازة ، وهي المغالبة { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ } أي بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه التسع والتسعين إن كان الأمر على ما تقول ، واللام هي الموطئة للقسم ، وهي وما بعدها جواب للقسم المقدر . وجاء بالقسم في كلامه مبالغة في إنكار ما سمعه من طلب صاحب التسع والتسعين النعجة أن يضم إليه النعجة الواحدة التي مع صاحبه ، ولم يكن معه غيرها . ويمكن أنه إنما قال بهذا بعد أن سمع الاعتراف من الآخر . قال النحاس ويقال إن خطيئة داود هي قوله { لَقَدْ ظَلَمَكَ } لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلْخُلَطَاء } وهم الشركاء ، واحدهم خليط وهو المخالط في المال { لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } أي يتعدى بعضهم على بعض ، ويظلمه غير مراع لحقه { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } ، فإنهم يتحامون ذلك ، ولا يظلمون خليطاً ، ولا غيره { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } أي وقليل هم ، و " ما " زائدة للتوكيد ، والتعجيب . وقيل هي موصولة ، و { هم } مبتدأ ، و { قليل } خبره { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ } ، قال أبو عمرو ، والفراء ظن يعني أيقن . ومعنى { فَتَنَّـٰهُ } ابتليناه ، والمعنى أنه عند أن تخاصما إليه ، وقال ما قال علم عند ذلك أنه المراد ، وأن مقصودهما التعريض به وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته . قال الواحدي قال المفسرون فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه ، فضحك ، فعند ذلك علم داود بما أراده . قرأ الجمهور { فتناه } بالتخفيف للتاء ، وتشديد النون . وقرأ عمر بن الخطاب ، والحسن ، وأبو رجاء بالتشديد للتاء ، والنون ، وهي مبالغة في الفتنة . وقرأ الضحاك " افتناه " ، وقرأ قتادة ، وعبيد بن عمير ، وابن السميفع " فتناه " بتخفيفهما ، وإسناد الفعل إلى الملكين ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو { فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } لذنبه { وَخَرَّ رَاكِعاً } أي ساجداً . وعبر بالركوع عن السجود ، قال ابن العربي لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هنا السجود ، فإن السجود هو الميل ، والركوع هو الانحناء ، وأحدهما يدخل في الآخر ، ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئة . ثم جاء في هذا على تسمية أحدهما بالآخر . وقيل المعنى للسجود راكعاً ، أي مصلياً . وقيل بل كان ركوعهم سجوداً . وقيل بل كان سجودهم ركوعاً { وَأَنَابَ } أي رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه . وقد اختلف المفسرون في ذنب داود الذي استغفر له ، وتاب عنه على أقوال الأول أنه نظر إلى امرأة الرجل التي أراد أن تكون زوجة له ، كذا قال سعيد بن جبير ، وغيره . قال الزجاج ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها ، وصارت الأولى له ، والثانية عليه . القول الثاني أنه أرسل زوجها في جملة الغزاة . الثالث أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها . الرابع أن أوريا كان خطب تلك المرأة ، فلما غاب خطبها داود ، فزوّجت منه لجلالته ، فاغتم لذلك أوريا ، فعتب الله عليه حيث لم يتركها لخاطبها . الخامس أنه لم يجزع على قتل أوريا كما كان يجزع على من هلك من الجند ، ثم تزوج امرأته ، فعاتبه الله على ذلك ، لأن ذنوب الأنبياء ، وإن صغرت ، فهي عظيمة . السادس أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر كما قدمنا . وأقول الظاهر من الخصومة التي وقعت بين الملكين تعريضاً لداود عليه السلام أنه طلب من زوج المرأة الواحدة أن ينزل له عنها ، ويضمها إلى نسائه ، و لاينافي هذا العصمة الكائنة للأنبياء ، فقد نبهه الله على ذلك ، وعرض له بإرسال ملائكته إليه ، ليتخاصموا في مثل قصته حتى يستغفر لذنبه ، ويتوب منه ، فاستغفر وتاب . وقد قال سبحانه { وَعَصَىٰ ءادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } طه 121 وهو أبو البشر ، وأوّل الأنبياء ، ووقع لغيره من الأنبياء ما قصه الله علينا في كتابه . ثم أخبر سبحانه أنه قبل استغفاره ، وتوبته قال { فَغَفَرْنَا لَهُ ذٰلِكَ } أي ذلك الذنب الذي استغفر منه . قال عطاء الخراساني ، وغيره إن داود بقي ساجداً أربعين يوماً حتى نبت الرعي حول وجهه ، وغمر رأسه . قال ابن الأنباري الوقف على قوله { فَغَفَرْنَا لَهُ ذٰلِكَ } تامّ ، ثم يبتدىء الكلام بقوله { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ } الزلفى القربة ، والكرامة بعد المغفرة لذنبه . قال مجاهد الزلفى الدنوّ من الله عزّ وجلّ يوم القيامة ، والمراد بحسن المآب حسن المرجع ، وهو الجنة . وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } قال من رجعة . { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا } قال سألوا الله أن يعجل لهم . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الزبير ابن عدي عنه { عَجّل لَّنَا قِطَّنَا } قال نصيبنا من الجنة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله { ذَا ٱلأيْدِ } قال القوّة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال الأوّاب المسبح . وأخرج الديلمي عن مجاهد قال سألت ابن عمر عن الأوّاب ، فقال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، فقال " هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء ، فيستغفر الله " . وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس قال الأوّاب الموقن . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن عطاء الخراساني عنه قال لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت هذه الآية { إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِٱلْعَشِىّ وَٱلإشْرَاقِ } . وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عنه أيضاً قال لقد أتى عليّ زمان ، وما أدري وجه هذه الآية { يُسَبّحْنَ بِٱلْعَشِىّ وَٱلإشْرَاقِ } حتى رأيت الناس يصلون الضحى . وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عنه قال كنت أمرّ بهذه الآية { يُسَبّحْنَ بِٱلْعَشِىّ وَٱلإشْرَاقِ } فما أدري ما هي ؟ حتى حدَّثتني أمّ هانىء بنت أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح ، فدعا بوضوء ، فتوضأ ، ثم صلى الضحى ، ثم قال " يا أمّ هانىء هذه صلاة الإشراق " وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه من وجه آخر عنه نحوه . والأحاديث في صلاة الضحى كثيرة جدًّا قد ذكرناها في شرحنا للمنتقى . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال استعدى رجل من بني إسرائيل عند داود على رجل من عظمائهم ، فقال إن هذا غصبني بقراً لي ، فسأل داود الرجل عن ذلك ، فجحده ، فسأل الآخر البينة ، فلم يكن له بينة ، فقال لهما داود قوماً حتى أنظر في أمركما ، فقاما من عنده ، فأتى داود في منامه فقيل له اقتل الرجل الذي استعدى ، فقال إن هذه رؤيا ، ولست أعجل حتى أتثبت ، فأتى الليلة الثانية في منامه ، فأمر أن يقتل الرجل ، فلم يفعل ، ثم أتى الليلة الثالثة ، فقيل له اقتل الرجل ، أو تأتيك العقوبة من الله ، فأرسل داود إلى الرجل ، فقال إن الله أمرني أن أقتلك ، قال تقتلني بغير بينة ، ولا تثبت ؟ قال نعم ، والله لأنفذنّ أمر الله فيك ، فقال الرجل لا تعجل عليّ حتى أخبرك ، إني والله ما أخذت بهذا الذنب ، ولكني كنت اغتلت والد هذا ، فقتلته ، فبذلك أخذت ، فأمر به داود ، فقتل ، فاشتدّت هيبته في بني إسرائيل ، وشدّد به ملكه ، فهو قول الله { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ } قال أعطي الفهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، والديلمي عن أبي موسى الأشعري قال أوّل من قال أما بعد داود عليه السلام وهو { فَصْلٌ ٱلْخِطَابِ } . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن الشعبي أنه سمع زياد بن أبيه يقول فصل الخطاب الذي أوتي داود أما بعد . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن داود حدّث نفسه إذا ابتلي أنه يعتصم ، فقيل له إنك ستبتلى ، وستعلم اليوم الذي تبتلي فيه ، فخذ حذرك ، فقيل له هذا اليوم الذي تبتلي فيه ، فأخذ الزبور ، ودخل المحراب ، وأغلق باب المحراب ، وأخذ الزبور في حجره ، وأقعد منصفاً يعني خادماً على الباب ، وقال لا تأذن لأحد عليّ اليوم ، فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون للطير فيه من كل لون ، فجعل يدور بين يديه ، فدنا منه ، فأمكن أن يأخذه ، فتناوله بيده ليأخذه ، فاستوفز من خلفه ، فأطبق الزبور ، وقام إليه ، ليأخذه ، فطار ، فوقع على كوّة المحراب ، فدنا منه ليأخذه ، فأفضى ، فوقع على خصّ ، فأشرف عليه لينظر أين وقع ؟ فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض ، فلما رأت ظله حركت رأسها ، فغطت جسدها أجمع بشعرها ، وكان زوجها غازياً في سبيل الله ، فكتب داود إلى رأس الغزاة انظر أوريا ، فاجعله في حملة التابوت ، وكان حملة التابوت إما أن يفتح عليهم ، وإما أن يقتلوا ، فقدّمه في حملة التابوت ، فقتل ، فلما انقضت عدّتها خطبها داود ، فاشترطت عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة من بعده ، وأشهدت عليه خمسين من بني إسرائيل ، وكتب عليه بذلك كتاباً ، فما شعر بفتنته أنه افتتن حتى ولدت سليمان ، وشب ، فتسوّر عليه الملكان المحراب ، وكان شأنهما ما قصّ الله في كتابه ، وخرّ داود ساجداً ، فغفر الله له ، وتاب عليه . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب قال ما أصاب داود بعد ما أصابه بعد القدر إلا من عجب عجب بنفسه ، وذلك أنه قال يا ربّ ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك يصلي لك ، أو يسبح ، أو يكبر ، وذكر أشياء ، فكره الله ذلك ، فقال يا داود إن ذلك لم يكن إلا بي ، فلولا عوني ما قويت عليه ، وعزّتي وجلالي لأكلنك إلى نفسك يوماً ، قال يا ربّ فأخبرني به ، فأخبر به ، فأصابته الفتنة ذلك اليوم . وأخرج أصل القصة الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أنس مرفوعاً بإسناد ضعيف . وأخرجها ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس مطوّلة . وأخرجها جماعة عن جماعة من التابعين . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله { إِنَّ هَذَا أَخِى } قال على ديني . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وأحمد في الزهد ، وابن جرير ، والطبراني عنه قال ما زاد داود على أن قال { أَكْفِلْنِيهَا } . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { أَكْفِلْنِيهَا } قال ما زاد داود على أن قال تحوّل لي عنها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } يقول قليل الذي هم فيه ، وفي قوله { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ } قال اختبرناه . وأخرج أحمد ، والبخاري ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عنه أيضاً أنه قال في السجود في { صۤ } ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها . وأخرج النسائي ، وابن مردويه بسند جيد عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في { صۤ } ، وقال " سجدها داود ، ونسجدها شكراً " وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في { صۤ } . وأخرج ابن مردويه عن أنس مثله مرفوعاً . وأخرج الدارمي ، وأبو داود ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو على المنبر { صۤ } ، فلما بلغ السجدة نزل ، فسجد ، وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأها ، فلما بلغ السجدة تهيأ الناس للسجود ، فقال إنما هي توبة ، ولكني رأيتكم تهيأتم للسجود ، فنزل ، فسجد . وأخرج ابن مردويه ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر يوم القيامة ، فعظم شأنه ، وشدّته قال " ويقول الرحمٰن عزّ وجلّ لداود عليه السلام مرّ بين يديّ ، فيقول داود يا ربّ أخاف أن تدحضني خطيئتي ، فيقول خذ بقدمي ، فيأخذ بقدمه عزّ وجلّ ، فيمرّ " ، قال " فتلك الزلفى التي قال الله { فَغَفَرْنَا لَهُ ذٰلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ } " .