Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 71-88)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر سبحانه خصومة الملائكة إجمالاً فيما تقدّم ذكرها هنا تفصيلاً ، فقال { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ } " إذ " هذه هي بدل من { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } لاشتمال ما في حيز هذه على الخصومة . وقيل هي منصوبة بإضمار اذكر ، والأوّل أولى إذا كانت خصومة الملائكة في شأن من يستخلف في الأرض . وأما إذا كانت في غير ذلك مما تقدّم ذكره ، فالثاني أولى { إِنّى خَـٰلِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ } أي خالق فيما سيأتي من الزمن { بَشَرًا } أي جسماً من جنس البشر مأخوذ من مباشرته للأرض ، أو من كونه بادي البشرة . وقوله { مِن طِينٍ } متعلق بمحذوف هو صفة لبشر ، أو بخالق ، ومعنى { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } صوّرته على صورة البشر ، وصارت أجزاؤه مستوية { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } أي من الروح الذي أملكه ، ولا يملكه غيري . وقيل هو تمثيل ، ولا نفخ ، ولا منفوخ فيه . والمراد جعله حياً بعد أن كان جماداً لا حياة فيه . وقد مرّ الكلام في هذا في سورة النساء { فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ } هو أمر من وقع يقع ، وانتصاب { ساجدين } على الحال ، والسجود هنا هو سجود التحية لا سجود العبادة ، وقد مضى تحقيقه في سورة البقرة . { فَسَجَدَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } في الكلام حذف تدلّ عليه الفاء ، والتقدير فخلقه ، فسوّاه ، ونفخ فيه من روحه ، فسجد له الملائكة . وقوله { كُلُّهُمْ } يفيد أنهم سجدوا جميعاً ، ولم يبق منهم أحد . وقوله { أَجْمَعُونَ } يفيد أنهم اجتمعوا على السجود في وقت واحد ، فالأوّل لقصد الإحاطة ، والثاني لقصد الاجتماع . قال في الكشاف فأفادا معاً أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد ، وأنهم سجدوا جميعاً في وقت واحد غير متفرّقين في أوقات . وقيل إنه أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم { إِلاَّ إِبْلِيسَ } الاستثناء متصل على تقدير أنه كان متصفاً بصفات الملائكة داخلاً في عدادهم ، فغلبوا عليه ، أو منقطع على ما هو الظاهر من عدم دخوله فيهم ، أي لكن إبليس { ٱسْتَكْبَرَ } أي أنف من السجود جهلاً منه بأنه طاعة لله ، وكان استكباره استكبار كفر ، فلذلك { كَانَ مِنْ ٱلْكَـٰفِرِينَ } أي صار منهم بمخالفته لأمر الله ، واستكباره عن طاعته ، أو كان من الكافرين في علم الله سبحانه ، وقد تقدّم الكلام على هذا مستوفى في سورة البقرة ، والأعراف ، وبني إسرائيل ، والكهف ، وطه . ثم إن الله سبحانه سأله عن سبب تركه للسجود الذي أمره به فقال { يَـاإِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } أي ما صرفك ، وصدّك عن السجود لما توليت خلقه من غير واسطة ؟ وأضاف خلقه إلى نفسه تكريماً له ، وتشريفاً ، مع أنه سبحانه خالق كل شيء كما أضاف إلى نفسه الروح ، والبيت ، والناقة ، والمساجد . قال مجاهد اليد هنا بمعنى التأكيد ، والصلة مجازاً كقوله { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ } الرحمٰن 27 . وقيل أراد باليد القدرة ، يقال ما لي بهذا الأمر يد ، وما لي به يدان أي قدرة ، ومنه قول الشاعر @ تحملت من عفراء ما ليس لي به ولا للجبال الراسيات يدان @@ وقيل التثنية في اليد للدلالة على أنها ليس بمعنى القوّة ، والقدرة ، بل للدلالة على أنهما صفتان من صفات ذاته سبحانه ، و « ما » في قوله { لِمَا خَلَقْتُ } هي المصدرية ، أو الموصولة . وقرأ الجحدري لما بالتشديد مع فتح اللام على أنها ظرف بمعنى حين كما قال أبو عليّ الفارسي . وقرىء " بيدي " على الإفراد { أَسْتَكْبَرْتَ } قرأ الجمهور بهمزة الاستفهام ، وهو استفهام توبيخ ، وتقريع و { أَمْ } متصلة . وقرأ ابن كثير في رواية عنه ، وأهل مكة بألف وصل ، ويجوز أن يكون الاستفهام مراداً ، فيوافق القراءة الأولى كما في قول الشاعر @ تروح من الحيّ أم تبتكر @@ وقول الآخر @ بسبع رمين الجمر أم بثمانيا @@ ويحتمل أن يكون خبراً محضاً من غير إرادة للاستفهام ، فتكون « أم » منقطعة ، والمعنى استكبرت عن السجود الذي أمرت به بل أكُنتَ مِنَ ٱلْعَـٰلِينَ ، أي المستحقين للترفع عن طاعة أمر الله المتعالين عن ذلك ، وقيل المعنى استكبرت عن السجود الآن ، أم لم تزل من القوم الذين يتكبرون عن ذلك ؟ وجملة { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، ادّعى اللعين لنفسه أنه خير من آدم ، وفي ضمن كلامه هذا أن سجود الفاضل للمفضول لا يحسن . ثم علل ما ادّعاه من كونه خيراً منه بقوله { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } ، وفي زعمه أن عنصر النار أشرف من عنصر الطين ، وذهب عنه أن النار إنما هي بمنزلة الخادم لعنصر الطين إن احتيج إليها استدعيت كما يستدعى الخادم ، وإن استغنى عنها طردت ، وأيضاً فالطين يستولي على النار ، فيطفئها ، وأيضاً فهي لا توجد إلا بما أصله من عنصر الأرض ، وعلى كل حال ، فقد شرّف آدم بشرف ، وكرّم بكرامة لا يوازيها شيء من شرف العناصر ، وذلك أن الله خلقه بيديه ، ونفخ فيه من روحه ، والجواهر في أنفسها متجانسة ، وإنما تشرف بعارض من عوارضها . وجملة { قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا } مستأنفة كالتي قبلها ، أي فاخرج من الجنة ، أو من زمرة الملائكة ، ثم علل أمره بالخروج بقوله { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } أي مرجوم بالكواكب مطرود من كل خير { وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدّينِ } أي طردي لك عن الرحمة ، وإبعادي لك منها ، ويوم الدين يوم الجزاء ، فأخبر سبحانه وتعالى أن تلك اللعنة مستمرّة له دائمة عليه ما دامت الدنيا ، ثم في الآخرة يلقى من أنواع عذاب الله ، وعقوبته ، وسخطه ما هو به حقيق ، وليس المراد أن اللعنة تزول عنه في الآخرة ، بل هو ملعون أبداً ، ولكن لما كان له في الآخرة ما ينسى عنده اللعنة ، ويذهل عند الوقوع فيه منها صارت كأنها لم تكن بجنب ما يكون فيه ، وجملة { قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } مستأنفة كما تقدّم فيما قبلها أي أمهلني ، ولا تعاجلني إلى غاية هي يوم يبعثون يعني آدم ، وذريته { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ } أي الممهلين { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } الذي قدّره الله لفناء الخلائق ، وهو عند النفخة الآخرة ، وقيل هو النفخة الأولى . قيل إنما طلب إبليس الإنظار إلى يوم البعث ليتخلص من الموت ، لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث لم يمت قبل البعث ، وعند مجيء البعث لا يموت ، فحينئذٍ يتخلص من الموت . فأجيب بما يبطل مراده ، وينقض عليه مقصده ، وهو الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم ، وهو الذي يعلمه الله ، ولا يعلمه غيره . فلما سمع اللعين إنظار الله له إلى ذلك الوقت قال { فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } فأقسم بعزّة الله أنه يضلّ بني آدم بتزيين الشهوات لهم ، وإدخال الشبه عليهم حتى يصيروا غاوين جميعاً . ثم لما علم أن كيده لا ينجع إلا في أتباعه ، وأحزابه من أهل الكفر ، والمعاصي ، استثنى من لا يقدر على إضلاله ، ولا يجد السبيل إلى إغوائه ، فقال { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } أي الذين أخلصتهم لطاعتك ، وعصمتهم من الشيطان الرجيم ، وقد تقدّم تفسير هذه الآيات في سورة الحجر ، وغيرها . وقد أقسم ها هنا بعزّة الله ، وأقسم في موضع آخر بقوله { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى } الأعراف 16 ولا تنافي بين القسمين ، فإن إغواءه إياه من آثار عزّته سبحانه ، وجملة { قَالَ فَٱلْحَقُّ وَٱلْحَقَّ أَقُولُ } مستأنفة كالجمل التي قبلها . قرأ الجمهور بنصب الحق في الموضعين على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم ، فانتصب ، أو هما منصوبان على الإغراء ، أي الزموا الحق ، أو مصدران مؤكدان لمضمون قوله { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ } ، وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، والأعمش ، وعاصم ، وحمزة برفع الأوّل ، ونصب الثاني ، فرفع الأوّل على أنه مبتدأ ، وخبره مقدّر ، أي فالحق مني ، أو فالحق أنا ، أو خبره لأملأن ، أو هو خبر مبتدأ محذوف ، وأما نصب الثاني ، فبالفعل المذكور بعده أي وأنا أقول الحق ، وأجاز الفراء ، وأبو عبيد أن يكون منصوباً بمعنى حقاً لأملأنّ جهنم . واعترض عليهما بأن ما بعد اللام مقطوع عما قبلها . وروي عن سيبويه ، والفراء أيضاً أن المعنى فالحق أن إملاء جهنم . وروي عن ابن عباس ، ومجاهد أنهما قرآ برفعها ، فرفع الأوّل على ما تقدّم ، ورفع الثاني بالابتداء ، وخبره الجملة المذكورة بعده ، والعائد محذوف . وقرأ ابن السميفع ، وطلحة بن مصرف بخفضهما على تقدير حرف القسم . قال الفراء كما يقول الله عزّ وجلّ لأفعلنّ كذا ، وغلطه أبو العباس ثعلب وقال لا يجوز الخفض بحرف مضمر ، وجملة { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ } جواب القسم على قراءة الجمهور ، وجملة { وَٱلْحَقَّ أَقُولُ } معترضة بين القسم ، وجوابه ، ومعنى { مِنكَ } أي من جنسك من الشياطين { وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } أي من ذرّية آدم ، فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلال ، والغواية و { أَجْمَعِينَ } تأكيد للمعطوف ، والمعطوف عليه ، أي لأملأنها من الشياطين ، وأتباعهم أجمعين . ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يخبرهم بأنه إنما يريد بالدعوة إلى الله امتثال أمره لا عرض الدنيا الزائل ، فقال { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } والضمير في { عليه } راجع إلى تبليغ الوحي ، ولم يتقدّم له ذكر ، ولكنه مفهوم من السياق . وقيل هو عائد إلى ما تقدّم من قوله { أَءنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذّكْرُ مِن بَيْنِنَا } صۤ 8 وقيل الضمير راجع إلى القرآن ، وقيل إلى الدّعاء إلى الله على العموم ، فيشمل القرآن ، وغيره من الوحي ، ومن قول الرسول صلى الله عليه وسلم . والمعنى ما أطلب منكم من جعل تعطونيه عليه { وَمَا أَنَا مِنَ ٱلْمُتَكَلّفِينَ } حتى أقول ما لا أعلم إذ أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدعوّة إليه ، والتكلف التصنع . { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَـٰلَمِينَ } أي ما هذا القرآن ، أو الوحي ، أو ما أدعوكم إليه إلا ذكر من الله عزّ وجلّ للجنّ ، والإنس . قال الأعمش ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين { وَلَتَعْلَمُنَّ } أيها الكفار { نَبَأَهُ } أي ما أنبأ عنه ، وأخبر به من الدّعاء إلى الله ، وتوحيده ، والترغيب إلى الجنة ، والتحذير من النار { بَعْدَ حِينِ } قال قتادة ، والزجاج ، والفراء بعد الموت . وقال عكرمة ، وابن زيد يوم القيامة . وقال الكلبي من بقي علم ذلك لما ظهر أمره ، وعلا ، ومن مات علمه بعد الموت . وقال السدّي وذلك يوم بدر . وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أن الخصومة هي { إِذْ قَالَ رَبُّكَ } إلخ . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي عن ابن عمر قال خلق الله أربعاً بيده العرش ، وجنة عدن ، والقلم ، وآدم . وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة ، وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الله بن الحارث قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلق الله ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس الفردوس بيده " ، وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله { فَٱلْحَقُّ وَٱلْحَقَّ أَقُولُ } قال أنا الحق أقول الحق . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } قال قل يا محمد { مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } ما أدعوكم إليه { مِنْ أَجْرٍ } عرض دنيا . وفي البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن مسروق قال بينما رجل يحدّث في المسجد ، فقال فيما يقول { يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } الدخان 10 قال دخان يكون يوم القيامة يأخذ بأسماع المنافقين ، وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام ، قال قمنا حتى دخلنا على عبد الله ، وهو في بيته ، وكان متكئاً ، فاستوى قاعداً ، فقال يا أيها الناس من علم منكم علماً ، فليقل به ، ومن لم يعلم ، فليقل الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول العالم لما لا يعلم الله أعلم ، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { قُلْ مَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ ٱلْمُتَكَلّفِينَ } . وأخرج البخاري عن عمر قال نهينا عن التكلف . وأخرج الطبراني ، والحاكم ، والبيهقي عن سلمان قال نهانا رسول الله أن نتكلف للضيف .