Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 1-6)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ } ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف هو اسم إشارة ، أي هذا تنزيل . وقال أبو حيان إن المبتدأ المقدّر لفظ هو ليعود على قوله { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَـٰلَمِينَ } صۤ 87 ، كأنه قيل وهذا الذكر ما هو ؟ فقيل هو تنزيل الكتاب . وقيل ارتفاعه على أنه مبتدأ ، وخبره الجارّ والمجرور بعده ، أي تنزيل كائن من الله ، وإلى هذا ذهب الزجاج ، والفراء . قال الفراء ويجوز أن يكون مرفوعاً بمعنى هذا تنزيل ، وأجاز الفراء ، والكسائي النصب على أنه مفعول به لفعل مقدّر ، أي اتبعوا ، أو اقرءوا تنزيل الكتاب . وقال الفراء يجوز نصبه على الإغراء ، أي الزموا ، والكتاب هو القرآن ، وقوله { مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } على الوجه الأوّل صلة للتنزيل ، أو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو متعلق بمحذوف على أنه حال عمل فيه اسم الإشارة المقدّر { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ } الباء سببية متعلقة بالإنزال ، أي أنزلناه بسبب الحقّ ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف هو حال من الفاعل ، أي ملتبسين بالحق ، أو من المفعول ، أي ملتبساً بالحق ، والمراد كلّ ما فيه من إثبات التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، وأنواع التكاليف . قال مقاتل يقول لم ننزله باطلاً لغير شيء { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدّينِ } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وانتصاب مخلصاً على الحال من فاعل اعبد ، والإخلاص أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه ، والدين العبادة ، والطاعة ، ورأسها توحيد الله ، وأنه لا شريك له . قرأ الجمهور { الدين } بالنصب على أنه مفعول مخلصاً . وقرأ ابن أبي عبلة برفعه على أن مخلصاً مسند إلى الدين على طريقة المجاز . قيل وكان عليه أن يقرأ مخلصاً بفتح اللام . وفي الآية دليل على وجوب النية ، وإخلاصها عن الشوائب لأن الإخلاص من الأمور القلبية التي لا تكون إلا بأعمال القلب ، وقد جاءت السنة الصحيحة أن ملاك الأمر في الأقوال ، والأفعال النية ، كما في حديث " إنما الأعمال بالنيات " وحديث " لا قول ولا عمل إلا بنية " وجملة { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدّينُ ٱلْخَالِصُ } مستأنفة مقرّرة لما قبلها من الأمر بالإخلاص ، أي إن الدين الخالص من شوائب الشرك ، وغيره هو لله ، وما سواه من الأديان ، فليس بدين الله الخالص الذي أمر به . قال قتادة الدين الخالص شهادة أن لا إلٰه إلا الله { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } لما أمر سبحانه بعبادته على وجه الإخلاص ، وأن الدين الخالص له لا لغيره بيّن بطلان الشرك الذي هو مخالف للإخلاص ، والموصول عبارة عن المشركين ، ومحله الرفع على الابتداء ، وخبره قوله { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } وجملة { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى } في محل نصب على الحال بتقدير القول ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ العلل ، والمعنى والذين لم يخلصوا العبادة لله ، بل شابوها بعبادة غيره قائلين ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقرّبونا إلى الله تقريباً ، والضمير في نعبدهم راجع إلى الأشياء التي كانوا يعبدونها من الملائكة ، وعيسى ، والأصنام ، وهم المرادون بالأولياء ، والمراد بقولهم { إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَى } الشفاعة ، كما حكاه الواحدي عن المفسرين . قال قتادة كانوا إذا قيل لهم من ربكم ، وخالقكم ، ومن خلق السمٰوات ، والأرض ، وأنزل من السماء ماء ؟ قالوا الله ، فيقال لهم ما معنى عبادتكم للأصنام ؟ قالوا ليقرّبونا إلى الله زلفى ، ويشفعوا لنا عنده . قال الكلبي جواب هذا الكلام قوله في سورة الأحقاف { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً ءالِهَةَ } الأحقاف 28 . والزلفى اسم أقيم مقام المصدر ، كأنه قال إلا ليقرّبونا إلى الله تقريباً . وفي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد قالوا ما نعبدهم ، ومعنى { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي بين أهل الأديان يوم القيامة ، فيجازي كلا بما يستحقه . وقيل بين المخلصين للدين ، وبين الذين لم يخلصوا ، وحذف الأوّل لدلالة الحال عليه ، ومعنى { فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } في الذي اختلفوا فيه من الدين بالتوحيد ، والشرك ، فإن كلّ طائفة تدّعي أن الحقّ معها { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَـٰذِبٌ كَـفَّارٌ } أي لا يرشد لدينه ، ولا يوفق للاهتداء إلى الحقّ من هو كاذب في زعمه أن الآلهة تقربه إلى الله ، وكفر باتخاذها آلهة ، وجعلها شركاء لله ، والكفار صيغة مبالغة تدلّ على أن كفر هؤلاء قد بلغ إلى الغاية . وقرأ الحسن ، والأعرج كذاب على صيغة المبالغة ككفار ، ورويت هذه القراءة عن أنس . { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ } هذا مقرّر لما سبق من إبطال قول المشركين بأن الملائكة بنات الله لتضمنه استحالة الولد في حقه سبحانه على الإطلاق ، فلو أراد أن يتخذ ولداً لامتنع اتخاذ الولد حقيقة ، ولم يتأتّ ذلك إلا بأن يصطفي { مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء } أي يختار من جملة خلقه ما يشاء أن يصطفيه ، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له ، ولا يصح أن يكون المخلوق ولداً للخالق لعدم المجانسة بينهما ، فلم يبق إلا أن يصطفيه عبداً كما يفيده التعبير بالاصطفاء مكان الاتخاذ فمعنى الآية لو أراد أن يتخذ ولداً لوقع منه شيء ليس هو من اتخاذ الولد ، بل إنما هو من الاصطفاء لبعض مخلوقاته ، ولهذا نزّه سبحانه نفسه عن اتخاذ الولد على الإطلاق ، فقال { سُبْحَـٰنَهُ } أي تنزيهاً له عن ذلك ، وجملة { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوٰحِدُ ٱلْقَهَّارُ } مبينة لتنزّهه بحسب الصفات بعد تنزّهه بحسب الذات ، أي هو المستجمع لصفات الكمال المتوحد في ذاته ، فلا مماثل له القهّار لكل مخلوقاته ، ومن كان متصفاً بهذه الصفات استحال وجود الولد في حقه ، لأن الولد مماثل لوالده ، ولا مماثل له سبحانه ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه { لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا } الأنبياء 17 ثم لما ذكر سبحانه كونه منزّهاً عن الولد بكونه إلٰهاً واحداً قهاراً ذكر ما يدل على ذلك من صفاته ، فقال { خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقّ } أي لم يخلقهما باطلاً لغير شيء ، ومن كان هذا الخلق العظيم خلقه استحال أن يكون له شريك ، أو صاحبة ، أو ولد . ثم بيّن كيفية تصرفه في السمٰوات ، والأرض ، فقال { يُكَوّرُ ٱلَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱلَّيْلِ } التكوير في اللغة طرح الشيء بعضه على بعض . يقال كوّر المتاع إذا ألقي بعضه على بعض ، ومنه كوّر العمامة فمعنى تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه ، ومعنى تكوير النهار على الليل تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته ، وهو معنى قوله تعالى { يُغْشِي ٱلْلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا } الأعراف 54 هكذا قال قتادة ، وغيره . وقال الضحاك أي يلقي هذا على هذا ، وهذا على هذا ، وهو مقارب للقول الأوّل . وقيل معنى الآية أن ما نقص من الليل دخل في النهار ، وما نقص من النهار دخل في الليل ، وهو معنى قوله { يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ } الحج61 ، وقيل المعنى إن هذا يكرّ على هذا ، وهذا يكرّ على هذا كروراً متتابعاً . قال الراغب تكوير الشيء إدارته ، وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة ا هـ . والإشارة بهذا التكوير المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها ، وانتقاص الليل ، والنهار ، وازديادهما . قال الرازي إن النور ، والظلمة عسكران عظيمان ، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك ، وذاك هذا ثم ذكر تسخيره لسلطان النهار ، وسلطان الليل ، وهما الشمس ، والقمر ، فقال { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } أي جعلهما منقادين لأمره بالطلوع ، والغروب لمنافع العباد ، ثم بيّن كيفية هذا التسخير ، فقال { كُـلٌّ يَجْرِى لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى } أي يجري في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا ، وذلك يوم القيامة ، وقد تقدّم الكلام على الأجل المسمى لجريهما مستوفي في سورة « يۤس » { أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ } ألا حرف تنبيه ، والمعنى تنبهوا أيها العباد ، فالله هو الغالب الساتر لذنوب خلقه بالمغفرة . ثم بيّن سبحانه نوعاً آخر من قدرته ، وبديع صنعه ، فقال { خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ } ، وهي نفس آدم { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } جاء بثمّ للدّلالة على ترتب خلق حواء على خلق آدم ، وتراخيه عنه لأنها خلقت منه ، والعطف إما على مقدّر هو صفة لنفس . قال الفراء ، والزجاج التقدير خلقكم من نفس خلقها واحدة ، ثم جعل منها زوجها . ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة ، أي من نفس انفردت ، ثم جعل إلخ ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثمّ للدّلالة على أن خلق حوّاء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة ، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه ، وخلقها على الصفة المذكورة لم تجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف . ثم بيّن سبحانه نوعاً آخر من قدرته الباهرة ، فقال { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلأَنْعَـٰمِ ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوٰجٍ } ، وهو معطوف على خلقكم ، وعبر بالإنزال لما يروى أنه خلقها في الجنة ، ثم أنزلها ، فيكون الإنزال حقيقة ، ويحتمل أن يكون مجازاً ، لأنها لم تعش إلا بالنبات ، والنبات إنما يعيش بالماء ، والماء منزل من السماء ، كانت الأنعام كأنها منزلة ، لأن سبب سببها منزل كما أطلق على السبب في قوله @ إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا @@ وقيل إن أنزل بمعنى أنشأ ، وجعل ، أو بمعنى أعطى . وقيل جعل الخلق إنزالاً ، لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء ، والثمانية الأزواج هي ما في قوله { مّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ } الأنعام 143 { وَمِنَ ٱلإِبِلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ } الأنعام 144 ويعني بالاثنين في الأربعة المواضع الذكر ، والأنثى ، وقد تقدّم تفسير الآية في سورة الأنعام . ثم بيّن سبحانه نوعاً آخر من قدرته البديعة ، فقال { يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُـمْ خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ } ، والجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم ، وخلقاً مصدر مؤكد للفعل المذكور ، و { مّن بَعْدِ خَلْقٍ } صفة له ، أي خلقاً كائناً من بعد خلق . قال قتادة ، والسدّي نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظماً ، ثم لحماً . وقال ابن زيد خلقكم خلقاً في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم ، وقوله { فِى ظُلُمَـٰتٍ ثَلَـٰثٍ } متعلق بقوله { يَخْلُقُكُمْ } ، وهذه الظلمات الثلاث هي ظلمة البطن ، وظلمة الرّحم ، وظلمة المشيمة قاله مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك . وقال سعيد بن جبير ظلمة المشيمة ، وظلمة الرّحم ، وظلمة الليل . وقال أبو عبيدة ظلمة صلب الرجل ، وظلمة بطن المرأة ، وظلمة الرّحم ، والإشارة بقوله { ذَلِكُـمُ ٱللَّهُ } إليه سبحانه باعتبار أفعاله السابقة ، والاسم الشريف خبره { رَبُّكُـمْ } خبر آخر { لَهُ ٱلْمُلْكُ } الحقيقي في الدنيا ، والآخرة لا شركة لغيره فيه ، وهو خبر ثالث ، وقوله { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } خبر رابع { فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } أي فكيف تنصرفون عن عبادته ، وتنقلبون عنها إلى عبادة غيره . قرأ حمزة إمهاتكم بكسر الهمزة ، والميم . وقرأ الكسائي بكسر الهمزة ، وفتح الميم . وقرأ الباقون بضم الهمزة ، وفتح الميم . وقد أخرج ابن مردويه ، عن يزيد الرقاشي أن رجلاً قال يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر ، فهل لنا في ذلك من أجر ؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا " قال يا رسول الله إنما نعطي التماس الأجر والذكر فهل لنا أجر ؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله لا يقبل إلا ما أخلص له " ثم تلا هذه الآية { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدّينُ ٱلْخَالِصُ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { يُكَوّرُ ٱلَّيْـلَ } قال يحمل الليل . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ } قال علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاماً { فِى ظُلُمَـٰتٍ ثَلَـٰثٍ } البطن ، والرحم ، والمشيمة .