Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 27-35)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ } قد قدّمنا تحقيق المثل ، وكيفية ضربه في غير موضع ، ومعنى { مِن كُلّ مَثَلٍ } ما يحتاجون إليه ، وليس المراد ما هو أعمّ من ذلك ، فهو هنا كما في قوله { مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْء } الأنعام 38 أي من شيء يحتاجون إليه في أمر دينهم . وقيل المعنى ما ذكرنا من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يتعظمون ، فيعتبرون ، وانتصاب { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } على الحال من هذا ، وهي حال مؤكدة ، وتسمى هذه حالاً موطئة ، لأن الحال في الحقيقة هو عربياً ، وقرآناً توطئة له ، نحو جاءني زيد رجلاً صالحاً كذا قال الأخفش ، ويجوز أن ينتصب على المدح . قال الزجاج عربياً منتصب على الحال ، وقرآنا توكيد ، ومعنى { غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه . قال الضحاك أي غير مختلف . قال النحاس أحسن ما قيل في معناه قول الضحاك . وقيل غير متضادّ . وقيل غير ذي لبس . وقيل غير ذي لحن . وقيل غير ذي شك كما قال الشاعر @ وقد أتاك يقين غير ذي عوج من الإلٰه وقول غير مكذوب @@ { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } علة أخرى بعد العلة الأولى . وهي { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي لكي يتقوا الكفر ، والكذب . ثم ذكر سبحانه مثلاً من الأمثال القرآنية للتذكير ، والإيقاظ ، فقال { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً } أي تمثيل حالة عجيبة بأخرى مثلها . ثم بيّن المثل ، فقال { رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَـٰكِسُونَ } قال الكسائي نصب { رجلاً } لأنه تفسير للمثل . وقيل هو منصوب بنزع الخافض ، أي ضرب الله مثلاً برجل . وقيل إن { رجلاً } هو المفعول الأوّل ، و { مثلاً } هو المفعول الثاني ، وأخر المفعول الأوّل ليتصل بما هو من تمامه ، وقد تقدّم تحقيق هذا في سورة « يۤس » ، وجملة { فِيهِ شُرَكَاء } في محل نصب صفة لرجل ، والتشاكس التخالف . قال الفراء أي مختلفون . وقال المبرد أي متعاسرون من شكس يشكس شكساً ، فهو شكس مثل عسر يعسر عسراً ، فهو عسر . قال الجوهري التشاكس الاختلاف . قال ويقال رجل شكس بالتسكين ، أي صعب الخلق ، وهذا مثل من أشرك بالله ، وعبد آلهة كثيرة . ثم قال { وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ } أي خالصاً له ، وهذا مثل من يعبد الله وحده . قرأ الجمهور { سلما } بفتح السين ، واللام ، وقرأ سعيد بن جبير ، وعكرمة ، وأبو العالية بكسر السين ، وسكون اللام . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، والجحدري ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، ويعقوب سالماً بالألف ، وكسر اللام اسم فاعل من سلم له ، فهو سالم ، واختار هذه القراءة أبو عبيد قال لأن السالم الخالص ضدّ المشترك ، والسلم ضدّ الحرب ، ولا موضع للحرب ها هنا ، وأجيب عنه بأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما ، فالسلم ، وإن كان ضدّ الحرب ، فله معنى آخر بمعنى سالم ، من سلم له كذا إذا خلص له . وأيضاً يلزمه في سالم ما ألزم به ، لأنه يقال شيء سالم ، أي لا عاهة به ، واختار أبو حاتم القراءة الأولى . والحاصل أن قراءة الجمهور هي على الوصف بالمصدر للمبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي ذا سلم ، ومثلها قراءة سعيد بن جبير ، ومن معه . ثم جاء سبحانه بما يدلّ على التفاوت بين الرجلين ، فقال { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } ، وهذا الاستفهام للإنكار ، والاستبعاد ، والمعنى هل يستوي هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة ، ونياتهم متباينة يستخدمه كل واحد منهم ، فيتعب ، وينصب مع كون كل واحد منهم غير راضٍ بخدمته ، وهذا الذي يخدم واحداً لا ينازعه غيره إذا أطاعه رضي عنه ، وإذا عصاه عفا عنه . فإن بين هذين من الاختلاف الظاهر الواضح ما لا يقدر عاقل أن يتفوّه باستوائهما ، لأن أحدهما في أعلى المنازل ، والآخر في أدناها ، وانتصاب مثلاً على التمييز المحول عن الفاعل لأن الأصل هل يستوي مثلهما ، وأفرد التمييز ، ولم يثنه لأن الأصل في التمييز الإفراد لكونه مبيناً للجنس ، وجملة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } تقرير لما قبلها من نفي الاستواء ، وللإيذان للموحدين بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة المستحقة لتخصيص الحمد به . ثم أضرب سبحانه عن نفي الاستواء المفهوم من الاستفهام الإنكاري إلى بيان أن أكثر الناس لا يعلمون ، فقال { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، وهم المشركون ، فإنهم لا يعلمون ذلك مع ظهوره ، ووضوحه . قال الواحدي ، والبغوي والمراد بالأكثر الكلّ ، والظاهر خلاف ما قالاه ، فإن المؤمنين بالله يعلمون ما في التوحيد من رفعة شأنه ، وعلوّ مكانه ، وإن الشرك لا يمائله بوجه من الوجوه ، ولا يساويه في وصف من الأوصاف ، ويعلمون أن الله سبحانه يستحق الحمد على هذه النعمة ، وأن الحمد مختصّ به . ثم أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الموت يدركه ، ويدركهم لا محالة ، فقال { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } قرأ الجمهور { ميت } و { ميتون } بالتشديد ، وقرأ ابن محيصن ، وابن أبي عبلة ، وعيسى بن عمر ، وابن أبي إسحاق ، واليماني مائت ومائتون ، وبها قرأ عبد الله بن الزبير . وقد استحسن هذه القراءة بعض المفسرين لكون موته ، وموتهم مستقبلاً ، ولا وجه للاستحسان ، فإن قراءة الجمهور تفيد هذا المعنى . قال الفراء والكسائي الميت بالتشديد من لم يمت ، وسيموت ، والميت بالتخفيف من قد مات ، وفارقته الرّوح . قال قتادة نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ، ونعيت إليهم أنفسهم . ووجه هذا الإخبار الإعلام للصحابة بأنه يموت ، فقد كان بعضهم يعتقد ، أنه لا يموت مع كونه توطئة ، وتمهيداً لما بعده حيث قال { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } أي تخاصمهم يا محمد ، وتحتجّ عليهم بأنك قد بلغتهم ، وأنذرتهم ، وهم يخاصمونك ، أو يخاصم المؤمن الكافر ، والظالم المظلوم . ثم بيّن سبحانه حال كل فريق من المختصمين ، فقال { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ } أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، فزعم أن له ولداً ، أو شريكاً ، أو صاحبة { وَكَذَّبَ بِٱلصّدْقِ إِذْ جَاءهُ } ، وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعاء الناس إلى التوحيد ، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع ، ونهيهم عن محرّماته ، وإخبارهم بالبعث ، والنشور ، وما أعدّ الله للمطيع ، والعاصي . ثم استفهم سبحانه استفهاماً تقريرياً ، فقال { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَـٰفِرِينَ } أي أليس لهؤلاء المفترين المكذّبين بالصدق ، والمثوى المقام ، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوى ثواء ، وثوياً ، مثل مضى مضاء ، ومضياً . وحكى أبو عبيد أنه يقال أثوى ، وأنشد قول الأعشى @ أثوى وأقصر ليله ليزودا ومضى وأخلف من قُتَيْلَةَ موعدا @@ وأنكر ذلك الأصمعي ، وقال لا نعرف أثوى . ثم ذكر سبحانه فريق المؤمنين المصدّقين ، فقال { وَٱلَّذِى جَاء بِٱلصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } الموصول في موضع رفع بالابتداء ، وهو عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن تابعه ، وخبره { أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } ، وقيل الذي جاء بالصدق رسول الله ، والذي صدّق به أبو بكر . وقال مجاهد الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي صدّق به عليّ بن أبي طالب . وقال السدّي الذي جاء بالصدق جبريل ، والذي صدّق به رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال قتادة ، ومقاتل ، وابن زيد الذي جاء بالصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، والذي صدّق به المؤمنون . وقال النخعي الذي جاء بالصدق ، وصدّق به هم المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة . وقيل إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله ، وأرشد إلى ما شرعه لعباده ، واختار هذا ابن جرير ، وهو الذي اختاره من هذه الأقوال ، ويؤيده قراءة ابن مسعود والذين جاءوا بالصدق وصدّقوا به . ولفظ { الذي } كما وقع في قراءة الجمهور وإن كان مفرداً ، فمعناه الجمع ، لأنه يراد به الجنس كما يفيده قوله { أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } أي المتصفون بالتقوى التي هي عنوان النجاة . وقرأ أبو صالح وصدق به مخففاً ، أي صدق به الناس . ثم ذكر سبحانه ما لهؤلاء الصادقين المصدّقين في الآخرة ، فقال { لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ } أي لهم كل ما يشاءونه من رفع الدرجات ، ودفع المضرّات ، وتكفير السيئات ، وفي هذا ترغيب عظيم ، وتشويق بالغ ، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى ما تقدم ذكره من جزائهم ، وهو مبتدأ ، وخبره قوله { جَزَاء ٱلْمُحْسِنِينَ } أي الذين أحسنوا في أعمالهم . وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك " ثم بيّن سبحانه ما هو الغاية مما لهم عند ربهم ، فقال { لِيُكَـفّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ } ، فإن ذلك هو أعظم ما يرجونه من دفع الضرر عنهم لأن الله سبحانه إذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم غفر لهم ما دونه بطريقة الأولى ، واللام متعلقة بيشاءون ، أو بالمحسنين ، أو بمحذوف . قرأ الجمهور { أسوأ } على أنه أفعل تفضيل . وقيل ليست للتفضيل بل بمعنى سيء الذي عملوا . وقرأ ابن كثير في رواية عنه أسواء بألف بين الهمزة ، والواو بزنة أجمال جمع سوء . { وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِى كَـانُواْ يَعْمَلُونَ } لما ذكر سبحانه ما يدلّ على دفع المضارّ عنهم ذكر ما يدلّ على جلب أعظم المنافع إليهم ، وإضافة الأحسن إلى ما بعده ليست من إضافة المفضل إلى المفضل عليه ، بل من إضافة الشيء إلى بعضه قصداً إلى التوضيح من غير اعتبار تفضيل . قال مقاتل يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ، ولا يجزيهم بالمساوىء . وقد أخرج الآجرّي ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله { غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } قال غير مخلوق . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً } الآية قال الرجل يعبد آلهة شتى ، فهذا مثل ضربه الله لأهل الأوثان { وَرَجُلاً سَلَماً } يعبد إلٰهاً واحداً ضرب لنفسه مثلاً . وأخرجا عنه أيضاً في قوله { وَرَجُلاً سَلَماً } قال ليس لأحد فيه شيء . وأخرج عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن ابن عمر قال لقد لبثنا برهة من دهرنا ، ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا ، وفي أهل الكتابين من قبلنا { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } الآية ، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف ، فعرفت أنها نزلت فينا . وأخرج نعيم بن حماد في الفتن ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه نحوه بأطول منه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن مردويه عنه أيضاً قال نزلت علينا الآية { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } ، وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة ، فقلنا هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه . وأخرج عبد الرّزاق ، وأحمد ، وابن منيع ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في البعث والنشور عن الزبير بن العوّام قال لما نزلت { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } قلت يا رسول الله أيكرّر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواصّ الذنوب ؟ قال " نعم ليكرّرن عليكم ذلك حتى يؤدى إلى كل ذي حقّ حقه . قال الزبير فوالله إن الأمر لشديد " وأخرج سعيد بن منصور ، عن أبي سعيد الخدري قال لما نزلت { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } كنا نقول ربنا واحد ، وديننا واحد ، ونبينا واحد ، فما هذه الخصومة ؟ فلما كان يوم صفين ، وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف ، قلنا نعم هو هذا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله { وَٱلَّذِى جَاء بِٱلصّدْقِ } يعني بلا إلٰه إلا الله { وَصَدَّقَ بِهِ } يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم { أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } يعني اتقوا الشرك . وأخرج ابن جرير ، والباوردي في معرفة الصحابة ، وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان ، وله صحبة عن عليّ بن أبي طالب قال الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وصدّق به أبو بكر . وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مثله .