Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 160-165)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الباء في قوله { فَبِظُلْمٍ } للسببية ، والتنكير والتنوين للتعظيم ، أي فبسبب ظلم عظيم حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم ، لا بسبب شيء آخر ، كما زعموا أنها كانت محرّمة على من قبلهم . وقال الزجاج هذا بدل من قوله { فَبِمَا نَقْضِهِم } النساء 155 ، المائدة 13 . والطيبات المذكورة هي ما نصه الله سبحانه { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } الأنعام 146 الآية { وَبِصَدّهِمْ } أنفسهم وغيرهم { عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } وهو اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتحريفهم ، وقتلهم الأنبياء ، وما صدر منهم من الذنوب المعروفة . وقوله { كَثِيراً } مفعول للفعل المذكور ، أي بصدّهم ناساً كثيراً ، أو صفة مصدر محذوف ، أي صدّاً كثيراً { وَأَخْذِهِمُ ٱلرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } أي معاملتهم فيما بينهم بالربا ، وأكلهم له ، وهو محرّم عليهم { وَأَكْلِهِمْ أَمْوٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَـٰطِلِ } كالرشوة والسحت الذي كانوا يأخذونه . قوله { لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ } استدراك من قوله { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أو { مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا إن هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل ، وأنت تحلها ، فنزل { لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ } والراسخ هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه ، والرسوخ الثبوت . وقد تقدّم الكلام عليه في آل عمران . والمراد عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ونحوهما . والراسخون مبتدأ ، ويؤمنون خبره ، والمؤمنون معطوف على الراسخون . والمراد بالمؤمنين إما من آمن من أهل الكتاب ، أو من المهاجرين والأنصار ، أو من الجميع . قوله { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَ } قرأ الحسن ، ومالك بن دينار ، وجماعة " والمقيمون الصلاة " على العطف على ما قبله ، وكذا هو في مصحف ابن مسعود ، واختلف في وجه نصبه على قراءة الجمهور على أقوال الأوّل قول سيبويه أنه نصب على المدح ، أي وأعني المقيمين . قال سيبويه هذا باب ما ينتصب على التعظيم ، ومن ذلك { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَ } وأنشد @ وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم إلا نميراً أطاعت أمر غاويها الطاعنين ولما يطعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليها @@ وأنشد @ لا يبعدنّ قومي الذين هم سمّ العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر @@ قال النحاس وهذا أصح ما قيل في المقيمين . وقال الكسائي ، والخليل هو معطوف على قوله { بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } قال الأخفش وهذا بعيد لأن المعنى يكون هكذا ويؤمنون بالمقيمين . ووجهه محمد بن يزيد المبرد بأن المقيمين هنا هم الملائكة ، فيكون المعنى يؤمنون بما أنزل إليك ، وبما أنزل من قبلك ، وبالملائكة ، واختار هذا . وحكى أن النصب على المدح بعيد لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر ، وخبر الرّاسخون هو قوله { أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } وقيل إن المقيمين معطوف على الضمير في قوله { مِنْهُمْ } وفيه أنه عطف على مضمر بدون إعادة الخافض . وحكى عن عائشة أنها سئلت ، عن المقيمين في هذه الآية ، وعن قوله تعالى { إِنْ هَـٰذٰنِ لَسَاحِرٰنِ } طه 63 وعن قوله { وَٱلصَّـٰبِئُونَ } المائدة 69 في المائدة ؟ فقالت يا ابن أخي الكتاب أخطئوا . أخرجه عنها أبو عبيد في فضائله ، وسعيد ابن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر . وقال أبان بن عثمان كان الكاتب يملي عليه ، فيكتب فكتب { لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } ثم قال ما أكتب ؟ فقيل له أكتب { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَ } فمن ثم وقع هذا . أخرجه عنه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر . قال القشيري وهذا باطل لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة ، فلا يظن بهم ذلك . ويجاب عن القشيري بأنه قد روى عن عثمان بن عفان أنه لما فرغ من المصحف وأتى به إليه قال أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنها . أخرجه عنه ابن أبي داود من طرق . وقد رجح قول سيبويه كثير من أئمة النحو والتفسير ، ورجح قول الخليل ، والكسائي ابن جرير الطبري ، والقفال ، وعلى قول سيبويه تكون الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر على قول من قال إن خبر { الرّاسخون } هو قوله { أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ } أو بين المعطوف والمعطوف عليه إن جعلنا الرّاسخون هو يؤمنون ، وجعلنا قوله { وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ } عطفاً على المؤمنون لا على قول سيبويه أن المؤتون الزكاة مرفوع على الابتداء ، أو على تقدير مبتدأ محذوف ، أي هم المؤتون الزكاة . قوله { وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } هم مؤمنو أهل الكتاب ، وصفوا أوّلاً بالرسوخ في العلم ، ثم بالإيمان بكتب الله ، وأنهم يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويؤمنون بالله ، واليوم الآخر . وقيل المراد بهم المؤمنون من المهاجرين والأنصار ، كما سلف ، وأنهم جامعون بين هذه الأوصاف ، والإشارة بقوله { أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } إلى { الرّاسخون } ، وما عطف عليه . قوله { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ } هذا متصل بقوله { يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ } والمعنى أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدّمه من الأنبياء ، فما بالكم تطلبون منه ما لم يطلبه أحد من المعاصرين للرسل ، والوحي إعلام في خفاء ، يقال وحى إليه بالكلام وحياً ، وأوحى يوحى إيحاء ، وخصّ نوحاً لكونه أوّل نبيّ شرعت على لسانه الشرائع ، وقيل غير ذلك ، والكاف في قوله { كَمَا } نعت مصدر محذوف ، أي إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح ، أو حال ، أي أوحينا إليك هذا الإيحاء حال كونه مشبهاً بإيحائنا إلى نوح . قوله { وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } معطوف على { أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ } { وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَــٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ } وهم أولاد يعقوب كما تقدّم { وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَـٰرُونَ وَسُلَيْمَـٰنَ } خص هؤلاء بالذكر بعد دخولهم في لفظ النبيين تشريفاً لهم كقوله { وَمَلـئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } البقرة 98 ، وقدّم عيسى على أيوب ، ومن بعده مع كونهم في زمان قبل زمانه ، ردّاً على اليهود الذي كفروا به ، وأيضاً فالواو ليست إلا لمطلق الجمع . قوله { وَءاتَيْنَا * دَاوُود زَبُوراً } معطوف على أوحينا . والزبور كتاب داود . قال القرطبي وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ، ولا حلال ولا حرام ، وإنما هي حكم ومواعظ . انتهى . قلت هو مائة وخمسون مزموراً . والمزمور فصل يشتمل على كلام لداود يستغيث بالله من خصومه ، ويدعو الله عليهم ويستنصره ، وتارة يأتي بمواعظ ، وكان يقول ذلك في الغالب في الكنيسة ، ويستعمل مع تكلمه بذلك شيئاً من الآلات التي لها نغمات حسنة ، كما هو مصرّح بذلك في كثير من تلك المزمورات . والزبر الكتابة . والزبور بمعنى المزبور ، أي المكتوب . كالرسول ، والحلوب ، والركوب . وقرأ حمزة " زَبُوراً " بضم الزاي ، جمع زبر كفلس وفلوس . والزبر بمعنى المزبور ، والأصل في الكلمة التوثيق يقال بئر مزبورة ، أي مطوية بالحجارة ، والكتاب سمي زبوراً لقوّة الوثيقة به . قوله { وَرُسُلاً } منصوب بفعل مضمر يدل عليه { أَوْحَيْنَا } أي وأرسلنا رسلاً { قَدْ قَصَصْنَـٰهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } وقيل هو منصوب بفعل دلّ عليه { قَصَصْنَـٰهُمْ } أي وقصصنا رسلاً ، ومثله ما أنشده سيبويه @ أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا @@ أي وأخشى الذئب . وقرأ أبيّ " رُسُلُ " بالرفع على تقدير ، ومنهم رسل . ومعنى { مِن قَبْلُ } أنه قصة عليه من قبل هذه السورة ، أو من قبل هذا اليوم . قيل إنه لما قصّ الله في كتابه بعض أسماء أنبيائه ، ولم يذكر أسماء بعض قالت اليهود ذكر محمد الأنبياء ، ولم يذكر موسى ، فنزل { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } وقراءة الجمهور برفع الاسم الشريف على أن الله هو الذي كلم موسى . وقرأ النخعي ، ويحيـى ابن وثاب بنصب الاسم الشريف على أن موسى هو الذي كلم الله سبحانه و { تَكْلِيماً } مصدر مؤكد . وفائدة التأكيد دفع توهم كون التكليم مجازاً ، كما قال الفراء إن العرب تسمى ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأيّ طريق . وقيل ما لم يؤكد بالمصدر ، فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام . قال النحاس وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً . قوله { رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } بدل من رسلاً الأوّل ، أو منصوب بفعل مقدّر ، أي وأرسلنا ، أو على الحال بأن يكون رسلاً موطئاً لما بعده ، أو على المدح ، أي مبشرين لأهل الطاعات ، ومنذرين لأهل المعاصي . قوله { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } أي معذرة يعتذرون بها ، كما في قوله تعالى { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَـٰهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَـٰتِكَ } طه 134 وسميت المعذرة حجة مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة تنبيهاً على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضلاً منه ورحمة . ومعنى قوله { بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } بعد إرسال الرسل { وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً } لا يغالبه مغالب { حَكِيماً } في أفعاله التي من جملتها إرسال الرسل . وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد { وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً } قال أنفسهم وغيرهم عن الحق . وأخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله { لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ } قال نزلت في عبد الله بن سلام ، وأسيد بن شعبة ، وثعلبة بن شعبة حين فارقوا اليهود وأسلموا . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل عنه أن بعض اليهود قال يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى ، فأنزل الله { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } الآية . وأخرج عبد بن حميد ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم ، وابن عساكر ، عن أبي ذرّ قال قلت يا رسول الله كم الأنبياء ؟ قال " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً " قلت كم الرسل منهم ؟ قال ثلثمائة وثلاثة عشر جمّ غفير . وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ، عن أبي أمامة مرفوعاً إلا أنه قال " والرسل ثلثمائة وخمسة عشر " وأخرج أبو يعلى ، والحاكم بسند ضعيف ، عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبيّ ، ثم كان عيسى ، ثم كنت أنا بعده " وأخرج الحاكم ، عن أنس بسند ضعيف نحوه . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحبّ إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " .