Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 166-171)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ } الاسم الشريف مبتدأ ، والفعل خبره ، ومع تشديد النون هو منصوب على أنه اسم لكنّ ، والاستدراك من محذوف مقدّر كأنهم قالوا ما نشهد لك يا محمد بهذا ، أي الوحي والنبوّة ، فنزل { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ } . وقوله { وَٱلْمَلَـئِكَةُ يَشْهَدُونَ } جملة معطوفة على الجملة الأولى ، أو جملة حالية ، وكذلك قوله { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } جملة حالية ، أي متلبساً بعلمه الذي لا يعلمه غيره ، من كونك أهلاً لما اصطفاك الله له من النبوّة ، وأنزله عليك من القرآن { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } أي كفى الله شاهداً ، والباء زائدة ، وشهادة الله سبحانه هي ما يصنعه من المعجزات الدالة على صحة النبوة ، فإن وجود هذه المعجزات شهادة للنبيّ صلى الله عليه وسلم بصدق ما أخبر به من هذا ، وغيره . { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بكل ما يجب الإيمان به ، أو بهذا الأمر الخاص ، وهو ما في هذا المقام { وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } وهو دين الإسلام بإنكارهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبقولهم ما نجد صفته في كتابنا ، وإنما النبوّة في ولد هٰرون وداود ، وبقولهم إن شرع موسى لا ينسخ { قَدْ ضَلُّواْ ضَلَـٰلاَ بَعِيداً } عن الحقّ بما فعلوا ، لأنهم مع كفرهم منعوا غيرهم عن الحق { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بجحدهم { وَظَلَمُواْ } غيرهم بصدهم عن السبيل ، أو ظلموا محمداً بكتمانهم نبوّته ، أو ظلموا أنفسهم بكفرهم ، ويجوز الحمل على جميع هذه المعاني { لَّمْ يَكُنْ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } إذا استمروا على كفرهم ، وماتوا كافرين { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ } لكونهم اقترفوا ما يوجب لهم ذلك بسوء اختيارهم ، وفرط شقائهم ، وجحدوا الواضح ، وعاندوا البين { خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } أي يدخلهم جهنم خالدين فيها ، وهي حال مقدّرة . وقوله { أَبَدًا } منصوب على الظرفية ، وهو لدفع احتمال . أن الخلود هنا يراد به المكث الطويل { وَكَانَ ذٰلِكَ } أي تخليدهم في جهنم ، أو ترك المغفرة لهم ، والهداية مع الخلود في جهنم { عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } لأنه سبحانه لا يصعب عليه شيء { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } يس 82 { فآمنوا خيراً لكم } اختلف أئمة النحو في انتصاب { خيراً } على ماذا ؟ فقال سيبويه ، والخليل بفعل مقدر ، أي واقصدوا ، أو أتو خيراً لكم ، وقال الفراء هو نعت لمصدر محذوف ، أي فآمنوا إيماناً خيراً لكم ، وذهب أبو عبيدة ، والكسائي إلى أنه خبر لكان مقدّرة ، أي فآمنوا يكن الإيمان خيراً لكم ، وأقوى هذه الأقوال الثالث ، ثم الأوّل ، ثم الثاني على ضعف فيه { وَإِن تَكْفُرُواْ } أي وإن تستمروا على كفركم { فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْض } من مخلوقاته ، وأنتم من جملتهم ، ومن كان خالقاً لكم ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم ، ففي هذه الجملة ، وعيد لهم مع إيضاح وجه البرهان ، وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان . لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } الزخرف 87 قوله { يأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ } الغلو هو التجاوز في الحدّ ، ومنه غلا السعر يغلو غلاء ، وغلا الرجل في الأمر غلواً ، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها . والمراد بالآية النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى ، فمن الإفراط غلوّ النصارى في عيسى حتى جعلوه ربا ، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة ، وما أحسن قول الشاعر @ ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمورذميم @@ { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله ، ولا تقولوا الباطل كقول اليهود عزير ابن الله ، وقول النصارى المسيح ابن الله { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ } المسيح مبتدأ ، وعيسى بدل منه ، وابن مريم صفة لعيسى ، ورسول الله الخبر ، ويجوز أن يكون عيسى ابن مريم عطف بيان ، والجملة تعليل للنهي ، وقد تقدّم الكلام على المسيح في آل عمران . قوله { وَكَلِمَتُهُ } عطف على رسول الله ، و { أَلْقَـٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } حال ، أي كوّنه بقوله كن ، فكان بشرا من غير أب ، وقيل { كلمته } بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبريل بقوله { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَـئِكَةُ يٰمَرْيَمُ مَرْيَمَ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ } آل عمران 45 وقيل الكلمة هاهنا بمعنى الآية ، ومنه { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَـٰتِ رَبَّهَا } التحريم 12 ، وقوله { مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِ } لقمان 27 . قوله { وَرُوحٌ مّنْهُ } أي أرسل جبريل فنفخ في درع مريم فحملت بإذن الله ، وهذه الإضافة للتفضيل ، وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى . وقيل قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحاً ويضاف إلى الله ، فيقال هذا روح من الله ، أي من خلقه ، كما يقال في النعمة إنها من الله وقيل { رُوحُ مِنْهُ } أي من خلقه كما قال تعالى { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ } الجاثية 13 أي من خلقه ، وقيل { رُوحُ مِنْهُ } أي رحمة منه ، وقيل { رُوحُ مِنْهُ } أي برهان منه ، وكان عيسى برهاناً وحجة على قومه . وقوله { مِنْهُ } متعلق بمحذوف وقع صفة لروح ، أي كائنة منه وجعلت الروح منه سبحانه ، وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ { فآمنوا بالله ورسله } أي بأنه سبحانه إله واحد { لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد } الإخلاص 2 - 4 ، وبأن رسله صادقون مبلغون عن الله ما أمرهم بتبليغه ، ولا تكذبوهم ، ولا تغلوا فيهم ، فتجعلوا بعضهم آلهة . قوله { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلَـٰثَةٌ } ارتفاع ثلاثة على أنه خبر مبتدأ محذوف قال الزجاج أي لا تقولوا آلهتنا ثلاثة ، وقال الفراء ، وأبو عبيد أي لا تقولوا هم ثلاثة كقوله { سَيَقُولُونَ ثَلَـٰثَةٌ } الكهف 22 وقال أبو علي الفارسي لا تقولوا هو ثالث ثلاثة ، فحذف المبتدأ والمضاف ، والنصارى مع تفريق مذاهبهم متفقون على التثليث ، ويعنون بالثلاثة الثلاثة الأقانيم ، فيجعلونه سبحانه جوهراً واحداً ، وله ثلاثة أقانيم ، ويعنون بالأقانيم أقنوم الوجود ، وأقنوم الحياة ، وأقنوم العلم ، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس ، فيعنون بالأب الوجود ، وبالروح الحياة ، وبالابن المسيح . وقيل المراد بالآلهة الثلاثة الله سبحانه وتعالى ، ومريم ، والمسيح . وقد اختبط النصارى في هذا اختباطاً طويلاً . ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطل عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان ، وتارة يوصف بأنه ابن الله ، وتارة يوصف بأنه ابن الربّ ، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين . والحق ما أخبرنا الله به في القرآن ، وما خالفه في التوراة ، أو الإنجيل ، أو الزبور ، فهو من تحريف المحرّفين ، وتلاعب المتلاعبين . ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام . وحاصل ما فيها جميعاً أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه إليه ، وذكر ما جرى له من المعجزات ، والمراجعات لليهود ونحوهم ، فاختلفت ألفاظهم ، واتفقت معانيها ، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ ، والضبط ، وذكر ما قاله عيسى ، وما قيل له ، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء ، ولا أنزل على عيسى من عنده كتاباً ، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة ، ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها ، وهكذا الزبور ، فإنه من أوّله إلى آخره من كلام داود عليه السلام . وكلام الله أصدق ، وكتابه أحق ، وقد أخبرنا أن الانجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، وأن الزبور كتابه آتاه داود وأنزله عليه . قوله { ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ } أي انتهوا عن التثليث ، وانتصاب { خيراً } هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله { فآمنوا خيراً لكم } . { إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } لا شريك له ولا صاحبة ولا ولداً { سُبْحَـٰنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي أسبحه تسبيحاً عن أن يكون له ولد { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ } وما جعلتموه له شريكاً ، أو ولداً هو من جملة ذلك ، والمملوك المخلوق لا يكون شريكاً ، ولا ولداً { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } فكل الخلق أمورهم إليه ، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً . وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم " إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله " ، قالوا ما نعلم ذلك . فأنزل الله { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ } الآية . وأخرج عبد بن حميد ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل ، عن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر ما يقول صاحبك في ابن مريم ؟ قال يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته ، أخرجه من البتول العذراء لم يقربها بشر ، فتناول عودا من الأرض فرفعه فقال يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه . وأخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود بأطول من هذا . وأخرج البخاري عن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله " .