Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 29-31)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الباطل ما ليس بحق ، ووجوه ذلك كثيرة ، ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع . والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ، وهذا الاستثناء منقطع ، أي لكن تجارة عن تراض منكم جائزة بينكم ، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالاً لكم . وقوله { عَن تَرَاضٍ } صفة لتجارة ، أي كائنة عن تراض ، وإنما نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات لكونها أكثرها وأغلبها ، وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز ، ومنه قوله تعالى { هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَـٰرَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } الصف 10 . وقوله { يَرْجُونَ تِجَـٰرَةً لَّن تَبُورَ } فاطر 29 . واختلف العلماء في التراضي ، فقالت طائفة تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه اختر كما في الحديث الصحيح " البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا ، أو يقول أحدهما لصاحبه اختر " وإليه ذهب جماعة من الصحابة ، والتابعين ، وبه قال الشافعي ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث ، وابن عيينة ، وإسحاق وغيرهم . وقال مالك ، وأبو حنيفة تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة ، فيرتفع بذلك الخيار ، وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته . وقد قرىء " تجارة " بالرفع على أن كان تامة ، وتجارة بالنصب على أنها ناقصة . قوله { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } أي لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضاً إلا بسبب أثبته الشرع ، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي ، أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة . ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني . ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزاة ذات السلاسل ، فقرّر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه ، وهو في مسند أحمد ، وسنن أبي داود وغيرهما . قوله { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } أي القتل خاصة ، أو أكل أموال الناس ظلماً ، والقتل عدواناً وظلماً ، وقيل هو إشارة إلى كل ما نهى عنه في هذه السورة . وقال ابن جرير إنه عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد وهو قوله تعالى { أَلِيماً يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً } النساء 19 لأن كل ما نهى عنه من أوّل السورة قرن به وعيد إلا من قوله { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ } فإنه لا وعيد بعده إلا قوله { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً } والعدوان تجاوز الحدّ . والظلم وضع الشيء في غير موضعه . وقيل إن معنى العدوان ، والظلم واحد ، وتكريره لقصد التأكيد ، كما في قول الشاعر @ وألفى قولها كذباً ومينا @@ وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق كالقصاص ، وقتل المرتد ، وسائر الحدود الشرعية ، وكذلك قتل الخطأ . قوله { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً } جواب الشرط ، أي ندخله ناراً عظيمة { وَكَانَ ذٰلِكَ } أي إصلاؤه النار { عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } لأنه لا يعجزه بشيء . وقرىء « نصليه » بفتح النون ، روي ذلك عن الأعمش ، والنخعي ، وهو على هذه القراءة منقول من صلى ، ومنه شاة مصلية . قوله { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ } أي إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها { نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ } أي ذنوبكم التي هي صغائر ، وحمل السيئات على الصغائر هنا متعين لذكر الكبائر قبلها ، وجعل اجتنابها شرطاً لتكفير السيئات . وقد اختلف أهل الأصول في تحقيق معنى الكبائر ، ثم في عددها ، فأما في تحقيقها ، فقيل إن الذنوب كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال الزنا صغيرة بالإضافة إلى الكفر ، والقبلة المحرّمة صغيرة بالإضافة إلى الزنا ، وقد روي نحو هذا عن الإسفراييني ، والجويني ، والقشيري ، وغيرهم قالوا والمراد بالكبائر التي يكون اجتنابها سبباً لتكفير السيئات هي الشرك ، واستدلوا على ذلك بقراءة من قرأ { إِن تَجْتَنِبُواْ كبائر مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } وعلى قراءة الجمع ، فالمراد أجناس الكفر ، واستدلوا على ما قالوه بقوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } النساء 116 قالوا فهذه الآية مقيدة لقوله { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } وقال ابن عباس الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار ، أو غضب ، أو لعنة ، أو عذاب . وقال ابن مسعود الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية . وقال سعيد بن جبير كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة . وقال جماعة من أهل الأصول الكبائر كل ذنب رتب الله عليه الحدّ ، أو صرح بالوعيد فيه . وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره . وأما الاختلاف في عددها ، فقيل إنها سبع ، وقيل سبعون ، وقيل سبعمائة ، وقيل غير منحصرة ، ولكن بعضها أكبر من بعض ، وسيأتي ما ورد في ذلك إن شاء الله . قوله { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً } أي مكان دخول ، وهو الجنة { كَرِيماً } أي حسناً مرضياً ، وقد قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وابن عامر ، والكوفيون { مُّدْخَلاً } بضم الميم . وقرأ أهل المدينة بفتح الميم ، وكلاهما اسم مكان ، ويجوز أن يكون مصدراً . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، قال السيوطي بسند صحيح ، عن ابن مسعود في قوله تعالى { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ } قال إنها محكمة ما نسخت ، ولا تنسخ إلى يوم القيامة . وأخرج ابن جرير ، عن عكرمة ، والحسن في الآية قال كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية ، فنسخ ذلك الآية التي في النور { وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } النور 61 الآية . وأخرج ابن ماجه ، وابن المنذر ، عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما البيع عن تراض " وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي صالح ، وعكرمة في قوله تعالى { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } قالا نهاهم عن قتل بعضهم بعضاً . وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن عطاء بن أبي رباح نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن السدي { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } قال أهل دينكم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً } يعني متعمداً اعتداء بغير حق { وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } يقول كان عذابه على الله هيناً . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج قال قلت لعطاء أرأيت قوله تعالى { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } في كل ذلك أم في قوله { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } ؟ قال بل في قوله { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } . وأخرج عبد بن حميد ، عن أنس بن مالك قال هان ما سألكم ربكم { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس قال كل ما نهى الله عنه ، فهو كبيرة ، وقد ذكرت الطرفة يعني النظرة . وأخرج ابن جرير ، عنه قال كل شيء عصى الله فيه ، فهو كبيرة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال كل ما وعد الله عليه النار كبيرة . وأخرج ابن جرير ، والبيهقي في الشعب عنه قال الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار ، أو غضب ، أو لعنة ، أو عذاب . وأخرج ابن جرير ، عن سعيد بن جبير ما قدّمنا عنه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس أنه سئل عن الكبائر أسبع هي ؟ قال هي إلى السبعين أقرب . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أن رجلاً سأله كم الكبائر أسبع هي ؟ قال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار . وأخرج البيهقي في الشعب عنه كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة ، وليس بكبيرة ما تاب عنه العبد . وقد ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اجتنبوا السبع الموبقات ، " قالوا وما هي يا رسول الله ؟ قال " الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " قلنا بلى يا رسول الله ، قال " الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متكئاً ، فجلس ، فقال ألا وقول الزور ، وشهادة الزور ، " فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " . وأخرج البخاري ، وغيره عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الكبائر الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس « شك شعبة » واليمين الغموس " وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ، " قالوا وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال " يسبّ أبا الرجل ، فيسبّ أباه ، ويسبّ أمه ، فيسبّ أمه " والأحاديث في تعداد الكبائر ، وتعيينها كثيرة جداً ، فمن رام الوقوف على ما ورد في ذلك ، فعليه بكتاب الزواجر في الكبائر ، فإنه قد جمع ، فأوعى . واعلم أنه لا بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيئات بمجرد اجتناب الكبائر بما أخرجه النسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن أبي هريرة ، وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ، ثم قال " والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ، ويصوم رمضان ، ويؤدي الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصفق ، ثم تلا { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ } " وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن مسعود قال إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرّني أن لي بها الدنيا ، وما فيها ، ولقد علمت أن العلماء إذا مرّوا بها يعرفونها قوله تعالى { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } النساء 31 الآية ، وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } النساء 40 الآية ، وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } النساء 48 ، 116 الآية ، وقوله { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ } النساء 64 الآية ، وقوله { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } النساء 110 الآية .