Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 43-43)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { يا أيها الذين آمنوا } جعل الخطاب خاصاً بالمؤمنين لأنهم كانوا يقربون الصلاة حال السكر ، وأما الكفار ، فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى . قوله { لاَ تَقْرَبُواْ } قال أهل اللغة إذا قيل لا تقرب بفتح الراء معناه لا تتلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه . والمراد هنا النهي عن التلبس بالصلاة ، وغشيانها . وبه قال جماعة من المفسرين ، وإليه ذهب أبو حنيفة . وقال آخرون المراد مواضع الصلاة ، وبه قال الشافعي . وعلى هذا فلا بدّ من تقدير مضاف ، ويقوّي هذا قوله { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } وقالت طائفة المراد الصلاة ومواضعها معاً لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ، ولا يصلون إلا مجتمعين ، فكانا متلازمين . قوله { وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ } الجملة في محل نصب على الحال ، وسكارى جمع سكران ، مثل كسالى جمع كسلان . وقرأ النخعي « سكرى » بفتح السين ، وهو تكسير سكران . وقرأ الأعمش « سُكْرى » كحبلى صفة مفردة . وقد ذهب العلماء كافة إلى أن المراد بالسكر هنا سكر الخمر ، إلا الضحاك ، فإنه قال المراد سكر النوم . وسيأتي بيان سبب نزول الآية ، وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال . قوله { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر ، أي حتى يزول عنكم أثر السكر ، وتعلموا ما تقولونه ، فإن السكران لا يعلم ما يقوله ، وقد تمسك بهذا من قال إن طلاق السكران لا يقع لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد . وبه قال عثمان بن عفان ، وابن عباس ، وطاوس ، وعطاء ، والقاسم ، وربيعة ، وهو قول الليث بن سعد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، والمزني . واختاره الطحاوي ، وقال أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس . وأجازت طائفة وقوع طلاقه ، وهو محكيّ عن عمر ابن الخطاب ، ومعاوية ، وجماعة من التابعين ، وهو قول أبي حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي . واختلف قول الشافعي في ذلك . وقال مالك يلزمه الطلاق ، والقود في الجراح ، والقتل ، ولا يلزمه النكاح ، والبيع . قوله { وَلاَ جُنُباً } عطف على محل الجملة الحالية ، وهي قوله { وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ } والجنب لا يؤنث ، ولا يثنى ، ولا يجمع لأنه ملحق بالمصدر كالبعد والقرب . قال الفراء يقال جنب الرجل ، وأجنب من الجنابة . وقيل يجمع الجنب في لغة على أجناب ، مثل عنق ، وأعناق ، وطنب ، وأطناب . وقوله { إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } استثناء مفرّغ ، أي لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل . والمراد به هنا السفر ، ويكون محل هذا الاستثناء المفرّغ النصب على الحال من ضمير لا تقربوا بعد تقييده بالحال الثانية ، وهي قوله { وَلاَ جُنُباً } لا بالحال الأولى ، وهي قوله { وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ } فيصير المعنى لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال السفر ، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم ، وهذا قول عليّ ، وابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، والحكم ، وغيرهم ، قالوا لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال إلا المسافر ، فإنه يتيمم لأن الماء قد يعدم في السفر لا في الحضر ، فإن الغالب أنه لا يعدم . وقال ابن مسعود ، وعكرمة ، والنخعي ، وعمرو بن دينار ، ومالك ، والشافعي عابر السبيل هو المجتاز في المسجد ، وهو مرويّ عن ابن عباس ، فيكون معنى الآية على هذا لا تقربوا مواضع الصلاة ، وهي المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب ، وفي القول الأوّل قوّة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي ، وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر ، وإن معناه أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم ، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء ، كما يكون في المسافر ، وفي القول الثاني قوّة من جهة عدم التكلف في معنى قوله { إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها . وبالجملة فالحال الأولى ، أعني قوله { وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ } تقوّي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف ، وكذلك ما سيأتي من سبب نزول الآية يقوّي ذلك . وقوله { إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } يقوّي تقدير المضاف ، أي لا تقربوا مواضع الصلاة . ويمكن أن يقال إن بعض قيود النهي أعني { لا تقربوا } وهو قوله { وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ } يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي ، وبعض قيود النهي وهو قوله { إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } يدل على أن المراد مواضع الصلاة ، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدالّ عليه ، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد ، وهما لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان ، وأنتم سكارى ، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب ، وغاية ما يقال في هذا أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وهو جائز بتأويل مشهور . وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين والأولى قول من قال { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } إلا مجتازي طريق فيه ، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء ، وهو جنب في قوله { وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن ٱلْغَائِطِ أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صعيداً طيباً } فكان معلوماً بذلك ، أي أن قوله { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله { وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } معنى مفهوم . وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها ، وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها أيضاً جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل . قال والعابر السبيل المجتاز مرّاً وقطعاً ، يقال منه عبرت هذا الطريق ، فأنا أعبره عبراً وعبوراً ، ومنه قيل عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه ، ومنه قيل للناقة القوية هي عبر أسفار لقوّتها على قطع الأسفار . قال ابن كثير وهذا الذي نصره يعني ابن جرير هو قول الجمهور ، وهو الظاهر من الآية . انتهى . قوله { حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } غاية للنهي عن قربان الصلاة ، أو مواضعها حال الجنابة . والمعنى لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل . قوله { وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ } المرض عبارة عن خروج البدن عن حدّ الاعتدال ، والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ ، وهو على ضربين كثير ويسير . والمراد هنا أن يخاف على نفسه التلف ، أو الضرر باستعمال الماء ، أو كان ضعيفاً في بدنه وهو لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء . وروي عن الحسن أنه يتطهر ، وإن مات ، وهذا باطل يدفعه قوله تعالى { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ } الحج 78 . وقوله { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } النساء 29 وقوله { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } البقرة 185 قوله { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر ، والخلاف مبسوط في كتب الفقه . وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر ، وقال قوم لا بد من ذلك . وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر . واختلفوا في الحاضر ، فذهب مالك ، وأصحابه ، وأبو حنيفة ، ومحمد إلى أنه يجوز في الحضر ، والسفر . وقال الشافعي لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف . قوله { أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن ٱلْغَائِطِ } هو المكان المنخفض ، والمجيء منه كناية عن الحدث ، والجمع الغيطان ، والأغواط ، وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء الحاجة تستراً عن أعين الناس ، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطاً توسعاً ، ويدخل في الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء . قوله { أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء } قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر { لامستم } وقرأ حمزة ، والكسائي « لمستم » قيل المراد بها بها في القراءتين الجماع . وقيل المراد به مطلق المباشرة ، وقيل إنه يجمع الأمرين جميعاً . وقال محمد بن يزيد المبرد الأولى في اللغة أن يكون { لامستم } بمعنى قبلتم ، ونحوه ، و « لمستم » بمعنى غشيتم . واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال ، فقالت فرقة الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع ، قالوا والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل ، أو يدع الصلاة حتى يجد الماء . وقد روي هذا عن عمرو بن الخطاب ، وابن مسعود . قال ابن عبد البر لم يقل بقولهما في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي ، وحملة الآثار . انتهى . وأيضاً الأحاديث الصحيحة تدفعه ، وتبطله ، كحديث عمار ، وعمران بن حصين ، وأبي ذرّ في تيمم الجنب . وقالت طائفة هو الجماع كما في قوله { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } الأحزاب 49 ، وقوله { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } البقرة 237 وهو مرويّ عن عليّ ، وأبيّ بن كعب ، وابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، والحسن ، وعبيد ابن عمير ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وقتادة ، ومقاتل بن حبان ، وأبي حنيفة . وقال مالك الملامس بالجماع يتيمم ، والملامس باليد يتيمم إذا التذّ ، فإن لمسها بغير شهوة ، فلا وضوء ، وبه قال أحمد ، وإسحاق . وقال الشافعي إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد ، أو غيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا . وحكاه القرطبي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، والزهري ، وربيعة . وقال الأوزاعي إذا كان اللمس باليد نقض الطهر ، وإن كان بغير اليد لم ينقضه لقوله تعالى { فلمسوه بأيديهم } الأنعام 7 وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه ، وليس الأمر كذلك . فقد اختلفت الصحابة ، ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية ، وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع ، فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة ، والكسائي بلفظ « أو لمستم » وهي محتملة بلا شك ، ولا شبهة ، ومع الاحتمال ، فلا تقوم الحجة بالمحتمل . وهذا الحكم تعمّ به البلوى ، ويثبت به التكليف العامّ ، فلا يحل إثباته بمحتمل قط ، وقد وقع النزاع في مفهومه . وإذا عرفت هذا ، فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من اجتنب ولم يجد الماء ، فكان الجنب داخلاً في الآية بهذا الدليل ، وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك . وأما وجوب الوضوء ، أو التيمم على من لمس المرأة بيده ، أو بشيء من بدنه ، فلا يصح القول به استدلالاً بهذه الآية لما عرفت من الاحتمال . وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وسلم أتاه رجل ، فقال يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها ؟ وليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها فأنزل الله { وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ ذٰلِكَ ذكرى للذاكرين } هود 114 . أخرجه أحمد ، والترمذي ، والنسائي من حديث معاذ ، قالوا فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ، ولم يجامعها ، ولا يخفاك أنه لا دلالة بهذا الحديث على محل النزاع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله سبحانه في هذه الآية ، إذ لا صلاة إلا بوضوء . وأيضاً فالحديث منقطع لأنه من رواية ابن أبي ليلى عن معاذ ، ولم يلقه ، وإذا عرفت هذا ، فالأصل البراءة عن هذا الحكم ، فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة . وأيضاً قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ، ثم يقبل ، ثم يصلي ، ولا يتوضأ . وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة ، رواه أحمد ، وابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وما قيل من أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة ، عن عائشة ، ولم يسمع من عروة فقد رواه أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، ورواه ابن جرير من حديث ليث ، عن عطاء ، عن عائشة ، ورواه أحمد أيضاً ، وأبو داود ، والنسائي من حديث أبي روق الهمداني ، عن إبراهيم التيميّ ، عن عائشة ، ورواه أيضاً ابن جرير من حديث أم سلمة ، ورواه أيضاً من حديث زينب السهمية . ولفظ حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها ، وهو صائم ، ولا يفطر ، ولا يحدث وضوءاً . ولفظ حديث زينب السهمية أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقبل ، ثم يصلي ، ولا يتوضأ » . ورواه أحمد ، عن زينب السهمية ، عن عائشة . قوله { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء } هذا القيد إن كان راجعاً إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط ، وهو المرض ، والسفر ، والمجيء من الغائط ، وملامسة النساء كان فيه دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يسوّغان التيمم ، بل لا بد مع وجود أحد السببين من عدم الماء ، فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء ، ولا يجوز للمسافر أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء ، ولكنه يشكل على هذا أن الصحيح ، كالمريض إذا لم يجد الماء تيمم ، وكذلك المقيم ، كالمسافر إذا لم يجد الماء تيمم ، فلا بد من فائدة في التنصيص على المرض والسفر فقيل وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنة للعجز عن الوصول إلى الماء ، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب ، وإن كان راجعاً إلى الصورتين الأخيرتين أعني قوله { أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن ٱلْغَائِطِ أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء } كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال ، وهو أن من صدق عليه اسم المريض ، أو المسافر جاز له التيمم ، وإن كان واجداً للماء قادراً على استعماله ، وقد قيل إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبراً في الأوّلين لندرة وقوعه فيهما . وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط ، وتوجيه بارد . وقال مالك ، ومن تابعه ذكر الله المرض ، والسفر في شرط التيمم اعتباراً بالأغلب في من لم يجد الماء بخلاف الحاضر ، فإن الغالب ، وجوده ، فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه . انتهى . والظاهر أن المرض بمجرّده مسوّغ للتيمم ، وإن كان الماء موجوداً إذا كان يتضرّر باستعماله في الحال ، أو في المآل ، ولا تعتبر خشية التلف ، فالله سبحانه يقول { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ } البقرة 185 ويقول { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ } الحج 87 ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول " الدين يسر " ويقول " يسروا ولا تعسروا " وقال " قتلوه قتلهم الله " ويقول " أمرت بالشريعة السمحة " فإذا قلنا إن قيد عدم وجود الماء راجع إلى الجميع كان وجه التنصيص على المرض هو أنه يجوز له التيمم ، والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضرّه ، فيكون اعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضرّه ، فإن في مجرّد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنة لعجزه عن الطلب ، لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف . وأما وجه التنصيص على المسافر ، فلا شك أن الضرب في الأرض مظنة لإعواز الماء في بعض البقاع دون بعض . قوله { فَتَيَمَّمُواْ } التيمم لغة القصد ، يقال تيممت الشيء قصدته ، وتيممت الصعيد تعمدته ، وتيممته بسهمي ، ورمحي قصدته دون من سواه ، وأنشد الخليل @ يممته الرمح شزرا ثم قلت له هذي البسالة لا لعب الزحاليق @@ وقال امرؤ القيس @ تيممتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال @@ وقال @ تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي @@ قال ابن السكيت قوله { فَتَيَمَّمُواْ } أي اقصدوا ، ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب . وقال ابن الأنباري في قولهم قد تيمم الرجل معناه قد مسح التراب على وجهه ، وهذا خلط منهما للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي . فإن العرب لا تعرف التيمم بمعنى مسح الوجه واليدين ، وإنما هو معنى شرعي فقط ، وظاهر الأمر الوجوب ، وهو مجمع على ذلك . والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وتفاصيل التيمم ، وصفاته مبينة في السنة المطهرة ، ومقالات أهل العلم مدوّنة في كتب الفقه ، قوله { صَعِيداً } الصعيد وجه الأرض سواء كان عليه تراب ، أو لم يكن ، قاله الخليل ، وابن الأعرابي ، والزجاج . قال الزجاج لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة ، قال الله تعالى { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } الكهف 8 أي أرضاً غليظة لا تنبت شيئاً ، وقال تعالى { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } الكهف 40 وقال ذو الرمة @ كأنه بالضحى يرمي الصعيد به دبابة في عظام الرأس خرطوم @@ وإنما سمي صعيداً لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض ، وجمع الصعيد صعدات . وقد اختلف أهل العلم فيما يجزىء التيمم به ، فقال مالك ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والطبري إنه يجزىء بوجه الأرض كله تراباً كان ، أو رملاً ، أو حجارة ، وحملوا قوله { طَيّباً } على الطاهر الذي ليس بنجس ، وقال الشافعي ، وأحمد ، وأصحابهما إنه لا يجزىء التيمم إلا بالتراب فقط ، واستدلوا بقوله تعالى { صَعِيدًا زَلَقًا } الكهف 40 أي تراباً أملس طيباً ، وكذلك استدلوا بقوله { طَيّباً } قالوا والطيب التراب الذي ينبت . وقد تنوزع في معنى الطيب ، فقيل الطاهر كما تقدم وقيل المنبت كما هنا وقيل الحلال . والمحتمل لا تقوم به حجة ، ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز ، لكان الحق ما قاله الأوّلون ، لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله " فضلنا الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً ، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء " وفي لفظ " وجعل ترابها لنا طهوراً " فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية ، أو مخصص لعمومه ، أو مقيد لإطلاقه ، ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل تيمم بالصعيد ، أي أخذ من غباره . انتهى . والحجر الصلد لا غبار له . قوله { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } هذا المسح مطلق ، يتناول المسح بضربة أو ضربتين ، ويتناول المسح إلى المرفقين أو إلى الرسغين ، وقد بينته السنة بياناً شافياً ، وقد جمعنا بين ما ورد في المسح بضربة ، وبضربتين ، وما ورد في المسح إلى الرسغ وإلى المرفقين في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره . قوله { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } أي عفا عنكم ، وغفر لكم تقصيركم ، ورحمكم بالترخيص لكم ، والتوسعة عليكم . وقد أخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والضياء في المختارة ، عن عليّ بن أبي طالب قال صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً ، فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة ، فقدموني ، فقرأت { قُلْ يا أَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أن الذي صلى بهم عبد الرحمن . وأخرج ابن المنذر ، عن عكرمة في الآية قال نزلت في أبي بكر ، وعمر ، وعليّ ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد ، صنع لهم عليّ طعاماً ، وشراباً ، فأكلوا ، وشربوا ، ثم صلى بهم المغرب ، فقرأ { قل يا أيها الكافرون } حتى ختمها ، فقال ليس لي دين ، لكم دين ، فنزلت . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والنسائي ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في هذه الآية قال نسختها { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } المائدة 90 الآية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك في الآية قال لم يعن بها الخمر إنما عني بها سكر النوم . وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس { وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ } قال النعاس . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقيّ عن عليّ . قوله { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } قال نزلت في المسافر تصيبه الجنابة ، فيتيمم ويصلي . وفي لفظ قال لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافراً تصيبه الجنابة ، فلا يجد الماء ، فيتيمم ، ويصلي حتى يجد الماء . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن ابن عباس في الآية يقول لا تقربوا الصلاة ، وأنتم جنب إذا وجدتم الماء ، فإن لم تجدوا الماء ، فقد أحللت أن تمسحوا بالأرض . وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد قال لا يمرّ الجنب ، ولا الحائض في المسجد ، إنما أنزلت { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } للمسافر يتيمم ، ثم يصلي . وأخرج الدارقطني ، والطبراني ، وأبو نعيم في المعرفة ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، والضياء في المختارة عن الأسلع بن شريك قال كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة ، فكرهت أن أرحل ناقة وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد ، فأموت ، أو أمرض ، فأمرت رجلاً من الأنصار فرحلها ، ثم رضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت ، ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم و أصحابه ، فقال " يا أسلع ، ما لي أرى راحلتك تغيرت ؟ " قلت يا رسول الله لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال " ولم ؟ " قلت إني أصابتني جنابة ، فخشيت القرّ على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ، ورضفت أحجاراً ، فأسخنت بها ماء ، فاغتسلت به ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا } إلى قوله { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } . وأخرج ابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والطبراني ، والبيهقي من وجه آخر عن أسلع قال « كنت أخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأرحل له ، فقال لي ذات ليلة " يا أسلع قم ، فارحل لي ، " قلت يا رسول الله أصابتني جنابة ، فسكت عني ساعة حتى جاء جبريل بآية الصعيد ، فقال " قم يا أسلع فتيمم " الحديث . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ } قال المساجد . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقيّ من طريق عطاء الخراساني عنه { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } قال لا تدخلوا المسجد ، وأنتم جنب إلا عابري سبيل ، قال تمرّ به مرّاً ، ولا تجلس . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود ، نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، والبيهقي في سننه عنه أنه كان يرخص للجنب أن يمرّ في المسجد ، ولا يجلس فيه ، ثم قرأ قوله { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ } . وأخرج البيهقي ، عن أنس نحوه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن جابر قال كان أحدنا يمرّ في المسجد ، وهو جنب مجتازاً . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله { وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ } قال نزلت في رجل من الأنصار كان مريضاً ، فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية . وأخرج ابن شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عن ابن عباس في قوله { وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ } قال هو الرجل المجدور أو به الجراح ، أو القرح يجنب ، فيخاف إن اغتسل أن يموت ، فيتيمم . وأخرج ابن جرير ، عن إبراهيم النخعي قال نال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جراح ففشت فيهم ، ثم ابتلوا بالجنابة ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت { وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ } الآية . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي من طرق عن ابن مسعود في قوله { أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء } قال اللمس ما دون الجماع ، والقبلة منه ، وفيه الوضوء . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، عن ابن عمر أنه كان يتوضأ من قبلة المرأة ، ويقول هي اللماس . وأخرج الدارقطني ، والبيهقي ، والحاكم عن عمر قال إن القبلة من اللمس ، فتوضأ منها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن علي قال اللمس هو الجماع ، ولكن الله كنى عنه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن سعيد بن جبير قال كنا في حجرة ابن عباس ، ومعنا عطاء بن أبي رباح ، ونفر من الموالي ، وعبيد بن عمير ، ونفر من العرب ، فتذاكرنا للماسّ ، فقلت أنا وعطاء والموالي اللمس باليد ، وقال عبيد بن عمير ، والعرب هو الجماع ، فدخلت على ابن عباس ، فأخبرته فقال غلبت الموالي وأصابت العرب ، ثم قال إن اللمس ، والمسّ والمباشرة إلى الجماع ما هو ، ولكن الله يكنى ما شاء بما شاء . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد ابن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال إن أطيب الصعيد أرض الحرث .