Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 41, Ayat: 1-14)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { حـم } قد تقدم الكلام على إعرابه ، ومعناه في السورة التي قبل هذه السورة ، فلا نعيده ، وكذلك تقدّم الكلام على معنى { تَنزِيلَ } ، وإعرابه . قال الزجاج ، والأخفش تنزيل مرفوع بالابتداء ، وخبره { كِتَـٰبٌ فُصّلَتْ } وقال الفراء يجوز أن يكون على إضمار هذا ، ويجوز أن يقال كتاب بدل من قوله تنزيل ، و { مّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } متعلق بتنزيل ، ومعنى { فُصّلَتْ ءايَـٰتُهُ } بينت ، أو جعلت أساليب مختلفة ، قال قتادة فصلت ببيان حلاله من حرامه ، وطاعته من معصيته . وقال الحسن بالوعد ، والوعيد . وقال سفيان بالثواب ، والعقاب ، ولا مانع من الحمل على الكل . والجملة في محلّ نصب صفة لكتاب . وقرىء فصلت بالتخفيف ، أي فرقت بين الحق ، والباطل . وانتصاب { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } على الحال ، أي فصلت آياته حال كونه قرآناً عربياً . وقال الأخفش نصب على المدح . وقيل على المصدرية ، أي يقرؤه قرآناً . وقيل مفعول ثانٍ لفصلت . وقيل على إضمار فعل يدل عليه فصلت ، أي فصلناه قرآناً عربياً { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي يعلمون معانيه ، ويفهمونها وهم أهل اللسان العربي . قال الضحاك أي يعلمون أن القرآن منزل من عند الله . وقال مجاهد أي يعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل ، واللام متعلقة بمحذوف صفة أخرى لقرآن ، أي كائناً لقوم ، أو متعلق بفصلت ، والأول أولى ، وكذلك { بَشِيراً وَنَذِيراً } صفتان أخريان لـ { قرآناً } ، أو حالان من كتاب ، والمعنى بشيراً لأولياء الله ، ونذيراً لأعدائه . وقرىء بشير ونذير بالرفع على أنهما صفة لكتاب ، أو خبر مبتدأ محذوف { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ } المراد بالأكثر هنا الكفار ، أي فأعرض الكفار عما اشتمل عليه من النذارة { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } سماعاً ينتفعون به لإعراضهم عنه . { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ } أي في أغطية مثل الكنانة التي فيها السهام ، فهي لا تفقه ما تقول ، ولا يصل إليها قولك ، والأكنة جمع كنان ، وهو الغطاء ، قال مجاهد الكنان للقلب كالجنة للنبل ، وقد تقدّم بيان هذا في البقرة { وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ } أي صمم ، وأصل الوقر الثقل . وقرأ طلحة بن مصرف وقر بكسر الواو . وقرىء بفتح الواو والقاف ، و « من » في { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } لابتداء الغاية ، والمعنى أن الحجاب ابتدأ منا ، وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة بين جهتنا ، وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها ، وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق ، ومج أسماعهم له ، وامتناع المواصلة بينهم ، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَـٰمِلُونَ } أي اعمل على دينك إننا عاملون على ديننا . وقال الكلبي اعمل في هلاكنا ، فإنا عاملون في هلاكك . وقال مقاتل اعمل لإلهك الذي أرسلك ، فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها . وقيل اعمل لآخرتك ، فإنا عاملون لدنيانا . ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عن قولهم هذا ، فقال { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } أي إنما أنا كواحد منكم لولا الوحي ، ولم أكن من جنس مغاير لكم حتى تكون قلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه ، وفي آذانكم وقر ، ومن بيني ، وبينكم حجاب ، ولم أدعكم إلى ما يخالف العقل ، وإنما أدعوكم إلى التوحيد . قرأ الجمهور { يوحى } مبنيا للمفعول . وقرأ الأعمش ، والنخعي مبنياً للفاعل ، أي يوحي الله إليّ . قيل ومعنى الآية إني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قسراً ، فإني بشر مثلكم ، ولا امتياز لي عنكم إلاّ أني أوحى إليّ التوحيد ، والأمر به ، فعليّ البلاغ وحده ، فإن قبلتم رشدتم ، وإن أبيتم هلكتم . وقيل المعنى إني لست بملك ، وإنما أنا بشر مثلكم ، وقد أوحي إليّ دونكم ، فصرت بالوحي نبياً ، ووجب عليكم اتباعي . وقال الحسن في معنى الآية إن الله سبحانه علم رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يتواضع { فَٱسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ } عدّاه بإلى لتضمنه معنى توجهوا ، والمعنى وجهوا استقامتكم إليه بالطاعة ، ولا تميلوا عن سبيله { وَٱسْتَغْفِرُوهُ } لما فرط منكم من الذنوب . ثم هدّد المشركين ، وتوعدهم ، فقال { وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ } . ثم وصفهم بقوله { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ } أي يمنعونها ، ولا يخرجونها إلى الفقراء . وقال الحسن ، وقتادة لا يقرّون بوجوبها . وقال الضحاك ، ومقاتل لا يتصدقون ، ولا ينفقون في الطاعة . وقيل معنى الآية ، لا يشهدون أن لا إلٰه إلاّ الله لأنها زكاة الأنفس ، وتطهيرها . وقال الفراء كان المشركون ينفقون النفقات ، ويسقون الحجيج ، ويطعمونهم ، فحرّموا ذلك على من آمن بمحمد ، فنزلت فيهم هذه الآية { وَهُمْ بِٱلأَخِرَةِ هُمْ كَـٰفِرُونَ } معطوف على لا يؤتون داخل معه في حيز الصلة ، أي منكرون للآخرة جاحدون لها ، والمجيء بضمير الفصل لقصد الحصر { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي غير مقطوع عنهم ، يقال مننت الحبل إذا قطعته ، ومنه قول الأصبغ الأودي @ إني لعمرك ما بابي بذي غلق على الصديق ولا خيري بممنون @@ وقيل الممنون المنقوص ، قاله قطرب ، وأنشد قول زهير @ فضل الجواد على الخيل البطاء فلا يعطى بذلك ممنوناً ولا نزقاً @@ قال الجوهري المنّ القطع ، ويقال النقص ، ومنه قوله تعالى { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } ، وقال لبيد @ غبس كواسب لا يمنّ طعامها @@ وقال مجاهد غير ممنون غير محسوب . وقيل معنى الآية لا يمن عليهم به لأنه إنما يمنّ بالتفضل ، فأما الأجر ، فحقّ أداؤه . وقال السدّي نزلت في المرضى ، والزمنى ، والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة كتب لهم من الأجر كأصحّ ما كانوا يعملون فيه . ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم ، ويقرعهم ، فقال { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِى خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ } أي لتكفرون بمن شأنه هذا الشأن العظيم ، وقدرته هذه القدرة الباهرة . قيل اليومان هما يوم الأحد ، ويوم الاثنين . وقيل المراد مقدار يومين ، لأن اليوم الحقيقي إنما يتحقق بعد وجود الأرض ، والسماء . قرأ الجمهور { أئنكم } بهمزتين الثانية بين بين ، وقرأ ابن كثير بهمزة ، وبعدها ياء خفيفة { وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } أي أضداداً ، وشركاء ، والجملة معطوفة على تكفرون داخلة تحت الاستفهام ، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى الموصول المتصف بما ذكر ، وهو مبتدأ وخبره { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } ، ومن جملة العالمين ما تجعلونها أنداداً لله ، فكيف تجعلون بعض مخلوقاته شركاء له في عبادته ، وقوله { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } معطوف على خلق ، أي كيف تكفرون بالذي خلق الأرض ، وجعل فيها رواسي ، أي جبالاً ثوابت من فوقها . وقيل جملة ، وجعل فيها رواسي مستأنفة غير معطوفة على خلق لوقوع الفصل بينهما بالأجنبي . والأوّل أولى لأن الجملة الفاصلة هي مقررة لمضمون ما قبلها ، فكانت بمنزلة التأكيد ، ومعنى { مّن فَوْقِهَا } أنها مرتفعة عليها لأنها من أجزاء الأرض ، وإنما خالفتها باعتبار الارتفاع ، فكانت من هذه الحيثية كالمغايرة لها { وَبَـٰرَكَ فِيهَا } أي جعلها مباركة كثيرة الخير بما خلق فيها من المنافع للعباد . قال السدي أنبت فيها شجرها { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا } قال قتادة ، ومجاهد خلق فيها أنهارها ، وأشجارها ، ودوابها ، وقال الحسن ، وعكرمة ، والضحاك قدّر فيها أرزاق أهلها ، وما يصلح لمعايشهم من التجارات ، والأشجار ، والمنافع ، جعل في كلّ بلد ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة ، والأسفار من بلد إلى بلد ، ومعنى { فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } أي في تتمة أربعة أيام باليومين المتقدّمين . قاله الزجاج ، وغيره . قال ابن الأنباري ومثاله قول القائل خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً ، أي في تتمة خمسة عشر يوماً ، فيكون المعنى أن حصول جميع ما تقدّم من خلق الأرض ، وما بعدها في أربعة أيام . وانتصاب { سَوَآء } على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف هو صفة للأيام ، أي استوت سواء بمعنى استواء ، ويجوز أن يكون منتصباً على الحال من الأرض ، أو من الضمائر الراجعة إليها . قرأ الجمهور بنصب { سواء } ، وقرأ زيد بن علي ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، ويعقوب ، وعمرو بن عبيد بخفضه على أنه صفة لأيام . وقرأ أبو جعفر برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف . قال الحسن المعنى في أربعة أيام مستوية تامة ، وقوله { لّلسَّائِلِينَ } متعلق بسواء ، أي مستويات للسائلين ، أو بمحذوف كأنه قيل هذا الحصر للسائلين في كم خلقت الأرض ، وما فيها ؟ أو متعلق بقدّر ، أي قدّر فيها أقواتها لأجل الطالبين المحتاجين إليها . قال الفراء في الكلام تقديم ، وتأخير ، والمعنى وقدّر فيها أقواتها سواء للمحتاجين في أربعة أيام ، واختار هذا ابن جرير . ثم لما ذكر سبحانه خلق الأرض ، وما فيها ذكر كيفية خلقه للسماوات ، فقال { ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء } أي عمد ، وقصد نحوها قصداً سوياً . قال الرازي هو من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجهاً لا يلتفت معه إلى عمل آخر ، وهو من الاستواء الذي هو ضدّ الاعوجاج ، ونظيره قولهم استقام إليه ، ومنه قوله تعالى { فَٱسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ } والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماوات بعد خلق الأرض ، وما فيها . قال الحسن معنى الآية صعد أمره إلى السماء { وَهِىَ دُخَانٌ } الدخان ما ارتفع من لهب النار ، ويستعار لما يرى من بخار الأرض . قال المفسرون هذا الدخان هو بخار الماء ، وخصّ سبحانه الاستواء إلى السماء مع كون الخطاب المترتب على ذلك متوجهاً إليها ، وإلى الأرض كما يفيده قوله { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } استغناء بما تقدّم من ذكر تقديرها ، وتقدير ما فيها ، ومعنى ائتيا افعلا ما آمركما به ، وجيئا به ، كما يقال ائت ما هو الأحسن أي افعله . قال الواحدي قال المفسرون إن الله سبحانه قال أما أنت يا سماء ، فاطلعي شمسك ، وقمرك ، ونجومك ، وأما أنت يا أرض ، فشققي أنهارك ، وأخرجي ثمارك ، ونباتك . قرأ الجمهور { ائتيا } أمراً من الإتيان . وقرأ ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد آتيا قالتا آتينا بالمدّ فيهما ، وهو إما من المؤاتاة ، وهي الموافقة ، أي لتوافق كلّ منكما الأخرى ، أو من الإيتاء ، وهو الإعطاء ، فوزنه على الأوّل فاعلاً كقاتلاً ، وعلى الثاني افعلا كأكرما { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } مصدران في موضع الحال ، أي طائعتين ، أو مكرهتين ، وقرأ الأعمش كرهاً بالضمّ . قال الزجاج أطيعا طاعة أو تكرهان كرهاً . قيل ومعنى هذا الأمر لهما التسخير ، أي كونا ، فكانتا ، كما قال تعالى { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } النحل 40 ، فالكلام من باب التمثيل لتأثير قدرته ، واستحالة امتناعها { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } أي أتينا أمرك منقادين ، وجمعهما جمع من يعقل لخطابهما بما يخاطب به العقلاء . قال القرطبي قال أكثر أهل العلم إن الله سبحانه خلق فيهما الكلام ، فتكلمتا كما أراد سبحانه . وقيل هو تمثيل لظهور الطاعة منهما ، وتأثير القدرة الربانية فيهما { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ } أي خلقهنّ ، وأحكمهنّ ، وفرغ منهنّ ، كما في قول الشاعر @ وعليهما مسرودتان قضاهما داود إذ صبغ السوابغ تبع @@ والضمير في " قضاهنّ " إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سبع سماوات ، أو مبهم مفسر بسبع سماوات ، وانتصاب { سبع سماوات } على التفسير ، أو على البدل من الضمير . وقيل إن انتصابه على أنه المفعول الثاني لقضاهنّ لأنه مضمن معنى صبرهنّ . وقيل على الحال ، أي قضاهنّ حال كونهنّ معدودات بسبع ، ويكون قضى بمعنى صنع ، وقيل على التمييز ، ومعنى { فِى يَوْمَيْنِ } كما سبق في قوله { خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ } ، فالجملة ستة أيام ، كما في قوله سبحانه { خُلِقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } هود7 ، وقد تقدّم بيانه في سورة الأعراف . قال مجاهد ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدّون . قال عبد الله بن سلام خلق الأرض في يوم الأحد ، ويوم الاثنين ، وقدّر فيها أقواتها يوم الثلاثاء ، ويوم الأربعاء ، وخلق السمٰوات في يوم الخميس ، ويوم الجمعة ، وقوله { وَأَوْحَىٰ فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا } عطف على قضاهنّ . قال قتادة ، والسدّي أي خلق فيها شمسها ، وقمرها ، ونجومها ، وأفلاكها ، وما فيها من الملائكة ، والبحار ، والبرد ، والثلوج . وقيل المعنى أوحى فيها ما أراده وما أمر به ، والإيحاء قد يكون بمعنى الأمر كما في قوله { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ } الزلزلة 5 ، وقوله { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيّينَ } المائدة 111 أي أمرتهم . وقد استشكل الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا } النازعات 30 ، فإن ما في هذه الآية من قوله { ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء } مشعر بأن خلقها متأخر عن خلق الأرض ، وظاهره يخالف قوله { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا } ، فقيل إن « ثم » في { ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء } ليست للتراخي الزماني بل للتراخي الرتبي ، فيندفع الإشكال من أصله . وعلى تقدير أنها للتراخي الزماني ، فالجمع ممكن بأن الأرض خلقها متقدّم على خلق السماء ، ودحوها بمعنى بسطها ، وهو أمر زائد على مجرّد خلقها ، فهي متقدّمة خلقاً متأخرة دحواً ، وهذا ظاهر ، ولعله يأتي عند تفسيرنا لقوله { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا } زيادة إيضاح للمقام إن شاء الله { وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا بِمَصَـٰبِيحَ } أي بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح ، وانتصاب { حَـٰفِظًا } على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف ، أي وحفظناها حفظاً ، أو على أنه مفعول لأجله على تقدير وخلقنا المصابيح زينة ، وحفظاً ، والأوّل أولى . قال أبو حبان في الوجه الثاني هو تكلف ، وعدول عن السهل البين ، والمراد بالحفظ حفظها من الشياطين الذين يسترقون السمع ، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى ما تقدّم ذكره { تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } أي البليغ القدرة الكثير العلم . { فَإِنْ أَعْرَضُواْ } عن التدبر والتفكر في هذه المخلوقات { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ } أي فقل لهم يا محمد أنذرتكم خوّفتكم { صَـٰعِقَةً مّثْلَ صَـٰعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } أي عذاباً مثل عذابهم ، والمراد بالصاعقة العذاب المهلك من كلّ شيء . قال المبرد الصاعقة المرّة المهلكة لأيّ شيء كان . قرأ الجمهور { صاعقة } في الموضعين بالألف ، وقرأ ابن الزبير ، والنخعي ، والسلمي ، وابن محيصن صعقة في الموضعين ، وقد تقدّم بيان معنى الصاعقة ، والصعقة في البقرة ، وقوله { إِذْ جَاءتْهُمُ ٱلرُّسُلُ } ظرف لأنذرتكم ، أو لصاعقة ، لأنها بمعنى العذاب ، أي أنذرتكم العذاب الواقع وقت مجيء الرسل ، أو حال من صاعقة عاد . وهذا أولى من الوجهين الأولين ، لأن الإنذار لم يقع وقت مجيء الرسل ، فلا يصحّ أن يكون ظرفاً له ، وكذلك الصاعقة لا يصحّ أن يكون الوقت ظرفاً لها ، وقوله { مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } متعلق بجاءتهم ، أي جاءتهم من جميع جوانبهم . وقيل المعنى جاءتهم الرسل المتقدّمون ، والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم منزلة مجيئهم أنفسهم ، فكأن الرسل قد جاءوهم ، وخاطبوهم بقولهم { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ ٱللَّهَ } أي بأن لا تعبدوا على أنها المصدرية ، ويجوز أن تكون التفسيرية ، أو المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف . ثم ذكر سبحانه ما أجابوا به على الرسل ، فقال { قَالُواْ لَوْ شَاء رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلَـٰئِكَةً } أي لأرسلهم إلينا ، ولم يرسل إلينا بشراً من جنسنا ، ثم صرّحوا بالكفر ، ولم يتلعثموا ، فقالوا { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ } أي كافرون بما تزعمونه من أن الله أرسلكم إلينا ، لأنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا ، فكيف اختصكم برسالته دوننا ، وقد تقدّم دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاءوا بها في غير موضع . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله { وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ } قال لا يشهدون أن لا إلٰه إلاّ الله ، وفي قوله { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } قال غير منقوص . وأخرج ابن جرير ، والنحاس في ناسخه ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألته عن خلق السماوات والأرض ، فقال " خلق الله الأرض في يوم الأحد ، والاثنين ، وخلق الجبال ، وما فيهنّ من منافع يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشجر ، والحجر ، والماء ، والمدائن ، والعمران ، والخراب ، فهذه أربعة أيام ، فقال تعالى { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِى خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَـٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ } ، وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم ، والشمس ، والقمر ، والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه ، فخلق من أوّل ساعة من هذه الثلاث الآجال حين يموت من مات ، وفي الثانية ألقى فيها من كلّ شيء مما ينتفع به ، وفي الثالثة خلق آدم ، وأسكنه الجنة ، وأمر إبليس بالسجود له ، وأخرجه منها في آخر ساعة " قالت اليهود ثم ماذا يا محمد ؟ قال " ثم استوى على العرش " قالوا قد أصبت لو أتممت ، قالوا ثم استراح ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً ، فنزل { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } قۤ 38 ، 39 . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوٰتَهَا } قال شق الأنهار ، وغرس الأشجار ، ووضع الجبال ، وأجرى البحار ، وجعل في هذه ما ليس في هذه ، وفي هذه ما ليس في هذه . وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً قال إن الله تعالى خلق يوماً ، فسماه الأحد ، ثم خلق ثانياً ، فسماه الاثنين ، ثم خلق ثالثاً ، فسماه الثلاثاء ، ثم خلق رابعاً ، فسماه الأربعاء ، ثم خلق خامساً ، فسماه الخميس ، وذكر نحو ما تقدّم . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله فرغ من خلقه في ستة أيام ، وذكر نحو ما تقدّم " وأخرج ابن جرير ، عن أبي بكر نحو ما تقدّم عن ابن عباس . وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } قال قال للسماء أخرجي شمسك ، وقمرك ، ونجومك ، وللأرض شققي أنهارك ، وأخرجي ثمارك { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ، وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله { ٱئْتِيَا } قال أعطيا ، وفي قوله { قَالَتَا أَتَيْنَا } قال أعطينا .