Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 41, Ayat: 15-24)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر سبحانه عادًا ، وثمود إجمالاً ذكر ما يختص بكل طائفة من الطائفتين تفصيلاً ، فقال { فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِى ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ } أي تكبروا عن الإيمان بالله ، وتصديق رسله ، واستعلوا على من في الأرض بغير الحق ، أي بغير استحقاق ذلك الذي وقع منهم من التكبر ، والتجبر . ثم ذكر سبحانه بعض ما صدر عنهم من الأقوال الدالة على الاستكبار ، فقال { وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } ، وكانوا ذوي أجسام طوال ، وقوّة شديدة ، فاغترّوا بأجسامهم حين تهدّدهم هود بالعذاب ، ومرادهم بهذا القول أنهم قادرون على دفع ما ينزل بهم من العذاب ، فردّ الله عليهم بقوله { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } ، والاستفهام للاستنكار عليهم ، وللتوبيخ لهم ، أي أو لم يعلموا بأن الله أشد منهم قدرة ، فهو قادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء بقوله كن ، فيكون { وَكَانُواْ بِـئَايَـٰتِنَا يَجْحَدُونَ } أي بمعجزات الرسل التي خصهم الله بها ، وجعلها دليلاً على نبوّتهم ، أو بآياتنا التي أنزلناها على رسلنا ، أو بآياتنا التكوينية التي نصبناها لهم ، وجعلناها حجة عليهم ، أو بجميع ذلك . ثم ذكر سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه ، فقال { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } الصرصر الريح الشديدة الصوت من الصرّة ، وهي الصيحة . قال أبو عبيدة معنى صرصر شديدة عاصفة . وقال الفراء هي الباردة تحرق كما تحرق النار . وقال عكرمة ، وسعيد بن جبير ، وقتادة هي الباردة ، وأنشد قطرب قول الحطيئة @ المطعمون إذا هبت بصرصرة والحاملون إذا استودوا عن الناس @@ أي إذا سئلوا الدية . وقال مجاهد هي الشديدة السموم ، والأولى تفسيرها بالبرد ، لأن الصرّ في كلام العرب البرد ، ومنه قول الشاعر @ لها غرد كقرون النسا ء ركبن في يوم ريح وصر @@ قال ابن السكيت صرصر يجوز أن يكون من الصرّ ، وهو البرد ، ويجوز أن يكون من صرصر الباب ، ومن الصرة وهي الصيحة ، ومنه { فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ } الذاريات 29 . ثم بيّن سبحانه وقت نزول ذلك العذاب عليهم ، فقال { فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } أي مشئومات ذوات نحوس . قال مجاهد ، وقتادة كنّ آخر شوّال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء ، وذلك سبع ليال ، وثمانية أيام حسوماً . وقيل نحسات باردات . وقيل متتابعات . وقيل شداد . وقيل ذوات غبار . قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو نحسات بإسكان الحاء على أنه جمع نحس ، وقرأ الباقون بكسرها ، واختار أبو حاتم القراءة الأولى لقوله { فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ } القمر 19 واختار أبو عبيدة القراءة الثانية . { لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } أي لكي نذيقهم ، والخزي هو الذل ، والهوان بسبب ذلك الاستكبار { وَلَعَذَابُ ٱلأَخِرَةِ أَخْزَىٰ } أي أشدّ إهانة ، وذلاً ، ووصف العذاب بذلك ، وهو في الحقيقة وصف للمعذبين ، لأنهم الذين صاروا متصفين بالخزي { وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } أي لا يمنعون من العذاب النازل بهم ، ولا يدفعه عنهم دافع . ثم ذكر حال الطائفة الأخرى ، فقال { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ } أي بينا لهم سبيل النجاة ، ودللناهم على طريق الحقّ بإرسال الرسل إليهم ، ونصب الدلالات لهم من مخلوقات الله ، فإنها توجب على كل عاقل أن يؤمن بالله ، ويصدّق رسله . قال الفراء معنى الآية دللناهم على مذهب الخير بإرسال الرسل . قرأ الجمهور { وأما ثمود } بالرفع ، ومنع الصرف . وقرأ الأعمش ، وابن وثاب بالرفع ، والصرف ، وقرأ ابن عباس ، وابن أبي إسحاق ، وعاصم في رواية بالنصب ، والصرف وقرأ الحسن ، وابن هرمز ، وعاصم في رواية بالنصب ، والمنع ، فأما الرفع ، فعلى الابتداء والجملة بعده الخبر ، وأما النصب فعلى الاشتغال ، وأما الصرف فعلى تفسير الاسم بالأب ، أو الحي ، وأما المنع فعلى تأويله بالقبيلة { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } أي اختاروا الكفر على الإيمان ، وقال أبو العالية اختاروا العمى على البيان ، وقال السدّي اختاروا المعصية على الطاعة { فَأَخَذَتْهُمْ صَـٰعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ } قد تقدّم أن الصاعقة اسم للشيء المهلك لأيّ شيء كان ، والهون الهوان والإهانة ، فكأنه قال أصابهم مهلك العذاب ذي الهوان أو الإهانة ، ويقال عذاب هون ، أي مهين كقوله { مَا لَبِثُواْ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } سبأ 14 ، والباء في { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } للسببية ، أي بسبب الذي كانوا يكسبونه ، أو بسبب كسبهم { وَنَجَّيْنَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ } ، وهم صالح ومن معه من المؤمنين ، فإن الله نجاهم من ذلك العذاب ، ثم لما ذكر سبحانه ما عاقبهم به في الدنيا ذكر ما عاقبهم به في الآخرة ، فقال { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ } ، وفي وصفهم بكونهم أعداء الله مبالغة في ذمهم ، والعامل في الظرف محذوف دلّ عليه ما بعده تقديره يساق الناس يوم يحشر ، أو باذكر ، أي اذكر يوم يحشرهم . قرأ الجمهور { يحشر } بتحتية مضمومة ، ورفع أعداء على النيابة ، وقرأ نافع نحشر بالنون ، ونصب أعداء ، ومعنى حشرهم إلى النار سوقهم إليها ، أو إلى موقف الحساب ، لأنه يتبين عنده فريق الجنة ، وفريق النار { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا ، كذا قال قتادة ، والسدّي ، وغيرهما ، وقد سبق تحقيق معناه في سورة النمل مستوفى . { حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءوهَا } أي جاءوا النار التي حشروا إليها ، أو موقف الحساب ، و « ما » مزيدة للتوكيد { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في الدنيا من المعاصي . قال مقاتل تنطق جوارحهم بما كتمت الألسن من عملهم بالشرك ، والمراد بالجلود هي جلودهم المعروفة في قول أكثر المفسرين . وقال السدّي ، وعبيد الله بن أبي جعفر ، والفراء أراد بالجلود الفروج ، والأوّل أولى { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } وجه تخصيص الثلاثة بالشهادة دون غيرها ما ذكره الرازي أن الحواس الخمس وهي السمع ، والبصر ، والشم ، والذوق ، واللمس ، وآلة المس هي الجلد ، فالله سبحانه ذكر هنا ثلاثة أنواع من الحواس ، وهي السمع ، والبصر ، واللمس ، وأهمل ذكر نوعين ، وهما الذوق ، والشم ، فالذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه ، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام ، وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الحنك مماسة لجرم المشموم ، فكانا داخلين في جنس اللمس ، وإذا عرفت من كلامه هذا وجه تخصيص الثلاثة بالذكر عرفت منه وجه تخصيص الجلود بالسؤال ، لأنها قد اشتملت على ثلاث حواس ، فكان تأتي المعصية من جهتها أكثر وأما على قول من فسر الجلود بالفروج ، فوجه تخصيصها بالسؤال ظاهر ، لأنه ما يشهد به الفرج من الزنا أعظم قبحاً ، وأجلب للخزي والعقوبة ، وقد قدّمنا وجه إفراد السمع ، وجمع الأبصار { قَالُواْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء } أي أنطق كلّ شيء مما ينطق من مخلوقاته ، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح . وقيل المعنى ما نطقنا باختيارنا ، بل أنطقنا الله ، والأوّل أولى { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } قيل هذا من تمام كلام الجلود . وقيل مستأنف من كلام الله ، والمعنى أن من قدر على خلقكم ، وإنشائكم ابتداء قدر على إعادتكم ، ورجعكم إليه . { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـٰرُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ } هذا تقريع لهم ، وتوبيخ من جهة الله سبحانه ، أو من كلام الجلود ، أي ما كنتم تستخفون عند الأعمال القبيحة حذراً من شهادة الجوارح عليكم ، ولما كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية . وقيل معنى الاستتار الاتقاء ، أي ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة ، فتتركوا المعاصي خوفاً من هذه الشهادة و « أن » في قوله { أَن تَشْهَدَ } في محل نصب على العلة ، أي لأجل أن تشهد ، أو مخافة أن تشهد . وقيل منصوبة بنزع الخافض ، وهو الباء أو عن أو من . وقيل إن الاستتار مضمن معنى الظنّ ، أي وما كنتم تظنون أن تشهد ، وهو بعيد { وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْلَمُونَ } من المعاصي ، فاجترأتم على فعلها . قيل كان الكفار يقولون إن الله لا يعلم ما في أنفسنا ، ولكن يعلم ما نظهر دون ما نسرّ . قال قتادة الظنّ هنا بمعنى العلم وقيل أريد بالظنّ معنى مجازي يعمّ معناه الحقيقي ، وما هو فوقه من العلم ، والإشارة بقوله { ذٰلِكُمْ } إلى ما ذكر من ظنهم ، وهو مبتدأ وخبره { ظَنُّكُمُ ٱلَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ } ، وقوله { أَرْدَاكُمْ } خبر آخر للمبتدأ . وقيل إن أرداكم في محل نصب على الحال المقدّرة . وقيل إن ظنكم بدل من ذلكم ، والذي ظننتم خبره ، وأرداكم خبر آخر ، أو حال ، وقيل إن ظنكم خبر أوّل ، والموصول وصلته خبر ثان ، وأرداكم خبر ثالث ، والمعنى أن ظنكم بأن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون أهلككم ، وطرحكم في النار { فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ ٱلُخَـٰسِرِينَ } أي الكاملين في الخسران . ثم أخبر عن حالهم ، فقال { فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } أي فإن يصبروا على النار ، فالنار مثواهم ، أي محل استقرارهم ، وإقامتهم لا خروج لهم منها . وقيل المعنى فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار ، فالنار مثوى لهم { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ } يقال أعتبني فلان ، أي أرضاني بعد إسخاطه إياي ، واستعتبته طلبت منه أن يرضى ، والمعنى أنهم إن يسألوا أن يرجع بهم إلى ما يحبون لم يرجع ، لأنهم لا يستحقون ذلك . قال الخليل تقول استعبته ، فأعتبني ، أي استرضيته ، فأرضاني ، ومعنى الآية إن يطلبوا الرضى لم يقع الرضى عنهم ، بل لا بدّ لهم من النار . قرأ الجمهور { يستعتبوا } بفتح التحتية ، وكسر التاء الفوقية الثانية مبنياً للفاعل . وقرءوا { من المعتبين } بفتح الفوقية اسم مفعول ، وقرأ الحسن ، وعبيد بن عمير ، وأبو العالية يستعتبوا مبنياً للمفعول فما هم من المعتبين اسم فاعل ، أي إنهم إن أقالهم الله ، وردّهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته كما في قوله سبحانه { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَـٰدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } الأنعام 28 . وقد أخرج الطبراني عن ابن عباس في قوله { فَهُمْ يُوزَعُونَ } قال يحبس أوّلهم على آخرهم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال يدفعون . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن مسعود قال كنت مستتراً بأستار الكعبة ، فجاء ثلاثة نفر قرشي وثقفيان ، أو ثقفيّ وقرشيان ، كثير لحم بطونهم قليل فقه قلوبهم ، فتكلموا بكلام لم أسمعه ، فقال أحدهم أترون أن الله يسمع كلامنا هذا ؟ فقال الآخران إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه ، وإنا إذا لم نرفعه لم يسمعه ، فقال الآخران إن سمع منه شيئاً سمعه كله قال فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ } إلى قوله { مّنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } . وأخرج عبد الرزاق ، وأحمد ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث عن معاوية بن حيدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تحشرون ها هنا ، وأومأ بيده إلى الشام ، مشاة وركباناً ، وعلى وجوهكم ، وتعرضون على الله ، وعلى أفواهكم الفدام ، وأوّل ما يعرب عن أحدكم ، فخذه وكتفه " وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـٰرُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ } » . وأخرج أحمد ، وأبو داود الطيالسي ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وابن حبان ، وابن مردويه عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يموتنّ أحدكم إلاّ وهو يحسن الظن بالله تعالى ، فإن قوماً قد أرداهم سوء ظنهم بالله ، فقال الله { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ ٱلُخَـٰسِرِينَ } " .