Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 44, Ayat: 38-59)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي بين جنسي السماء ، والأرض { لاَعِبِينَ } أي لغير غرض صحيح . قال مقاتل لم نخلقهما عابثين لغير شيء . وقال الكلبي لاهين ، وقيل غافلين . قرأ الجمهور { وما بينهما } وقرأ عمرو بن عبيد وما بينهنّ لأن السموات ، والأرض جمع ، وانتصاب { لاعبين } على الحال { مَا خَلَقْنَـٰهُمَا } أي وما بينهما { إِلاَّ بِٱلْحَقّ } أي إلا بالأمر الحق ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال . وقال الكلبي إلا للحق ، وكذا قال الحسن ، وقيل إلاّ لإقامة الحق ، وإظهاره { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن الأمر كذلك ، وهم المشركون { إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ مِيقَـٰتُهُمْ أَجْمَعِينَ } أي إن يوم القيامة الذي يفصل فيه الحق عن الباطل ميقاتهم ، أي الوقت المجعول لتمييز المحسن من المسيء ، والمحقّ من المبطل ، { أجمعين } لا يخرج عنهم أحد من ذلك . وقد اتفق القراء على رفع ميقاتهم على أنه خبر " إن " ، واسمها { يوم الفصل } . وأجاز الكسائي ، والفراء نصبه على أنه اسمها ، و " يوم الفصل " خبرها . ثم وصف سبحانه ذلك اليوم ، فقال { يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } { يوم } بدل من { يوم الفصل } ، أو منتصب بفعل مضمر يدل عليه الفصل ، أي يفصل بينهم يوم لا يغني ، ولا يجوز أن يكون معمولاً للفصل لأنه قد وقع الفصل بينهما بأجنبي ، والمعنى أنه لا ينفع في ذلك اليوم قريب قريباً ، ولا يدفع عنه شيئاً ، ويطلق المولى على الوليّ ، وهو القريب ، والناصر { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } الضمير راجع إلى المولى باعتبار المعنى لأنه نكرة في سياق النفي ، وهي من صيغ العموم ، أي ولا هم يمنعون من عذاب الله { إِلاَّ مَن رَّحِمَ ٱللَّهُ } قال الكسائي الاستثناء منقطع ، أي لكن من رحم الله ، وكذا قال الفراء . وقيل هو متصل ، والمعنى لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين ، فإنهم يؤذن لهم في الشفاعة ، فيشفعون ، ويجوز أن يكون مرفوعاً على البدل من { مولى } الأوّل ، أو من الضمير في { ينصرون } { إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } أي الغالب الذي لا ينصر من أراد عذابه الرحيم لعباده المؤمنين . ثم لما وصف اليوم ذكر بعده ، وعيد الكفار ، فقال { إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ طَعَامُ ٱلأثِيمِ } شجرة الزّقوم هي الشجرة التي خلقها الله في جهنم ، وسماها الشجرة الملعونة ، فإذا جاع أهل النار التجئوا إليها ، فأكلوا منها ، وقد مضى الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات . والأثيم الكثير الإثم . قال في الصحاح أثم الرجل بالكسر إثماً ، ومأثماً إذا وقع في الإثم ، فهو آثم ، وأثيم ، وأثوم . فمعنى طعام الأثيم ذي الإثم { كَٱلْمُهْلِ } وهو درديّ الزيت ، وعكر القطران . وقيل هو النحاس المذاب . وقيل كلّ ما يذوب في النار { يَغْلِى فِى ٱلْبُطُونِ * كَغَلْىِ ٱلْحَمِيمِ } قرأ الجمهور { تغلي } بالفوقية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الشجرة ، والجملة خبر ثانٍ ، أو حال ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي تغلي غلياً مثل غلي الحميم ، وهو الماء الشديد الحرارة . وقرأ ابن كثير ، وحفص ، وابن محيصن ، وورش ، عن يعقوب { يغلي } بالتحتية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الطعام وهو في معنى الشجرة ، ولا يصح أن يكون الضمير عائداً إلى المهل لأنه مشبه به ، وإنما يغلي ما يشبه بالمهل ، وقوله { كَغَلْىِ ٱلْحَمِيمِ } صفة مصدر محذوف ، أي غلياً كغلي الحميم { خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاء ٱلْجَحِيمِ } أي يقال للملائكة الذين هم خزنة النار خذوه ، أي الأَثيم ، فاعتلوه ، العتل القود بالعنف ، يقال عتله يعتله ، إذا جرّه ، وذهب به إلى مكروه ، وقيل العتل أن يأخذ بتلابيب الرجل ، ومجامعه ، فيجره ، ومنه قول الشاعر يصف فرساً @ نقرعه قرعاً ولسنا نعتله @@ ومنه قول الفرزدق يهجو جريراً @ حتى تردّ إلى عطية تعتل @@ قرأ الجمهور { فَٱعْتِلُوهُ } بكسر التاء . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر بضمها ، وهما لغتان { إِلَىٰ سَوَاء ٱلْجَحِيمِ } أي إلى وسطه ، كقوله { فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } الصافات 55 { ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ } " من " هي التبعيضية ، أي صبوا فوق رأسه بعض هذا النوع ، وإضافة العذاب إلى الحميم للبيان ، أي عذاب هو الحميم ، وهو الماء الشديد الحرارة كما تقدّم { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } أي وقولوا له تهكماً ، وتقريعاً ، وتوبيخاً ذق العذاب إنك أنت العزيز الكريم . وقيل إن أبا جهل كان يزعم أنه أعزّ أهل الوادي ، وأكرمهم ، فيقولون له ذق العذاب أيها المتعزّز المتكرم في زعمك ، وفيما كنت تقوله . قرأ الجمهور { إنك } بكسر الهمزة ، وقرأ الكسائي - وروي ذلك عن عليّ - بفتحها أي لأنك . قال الفراء أي بهذا القول الذي قلته في الدنيا ، والإشارة بقوله { إِنَّ هَذَا } إلى العذاب { مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } أي تشكون فيه حين كنتم في الدنيا ، والجمع باعتبار جنس الأثيم . ثم ذكر سبحانه مستقرّ المتقين ، فقال { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ } أي الذين اتقوا الكفر والمعاصي . قرأ الجمهور { مقام } بفتح الميم ، وقرأ نافع ، وابن عامر بضمها . فعلى القراءة الأولى هو موضع القيام ، وعلى القراءة الثانية هو موضع الإقامة قاله الكسائي ، وغيره . وقال الجوهري قد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة ، وقد يكون بمعنى موضع القيام . ثم وصف المقام بأنه أمين يأمن صاحبه من جميع المخاوف { فِى جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ } بدل من { مقام أمين } ، أو بيان له ، أو خبر ثانٍ { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } خبر ثانٍ ، أو ثالث ، أو حال من الضمير المستكنّ في الجار والمجرور ، والسندس ما رقّ من الديباج ، والإستبرق ما غلظ منه ، وقد تقدّم بيانه في سورة الكهف ، وانتصاب { مُّتَقَـٰبِلِينَ } على الحال من فاعل { يلبسون } ، أي متقابلين في مجالسهم ينظر بعضهم إلى بعض ، والكاف في قوله { كَذٰلِكَ } إما نعت مصدر محذوف ، أي نفعل بالمتقين فعلاً كذلك . أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي الأمر كذلك { وَزَوَّجْنَـٰهُم بِحُورٍ عِينٍ } أي أكرمناهم بأن زوّجناهم بحور عين ، والحور جمع حوراء وهي البيضاء ، والعين جمع عيناء وهي الواسعة العينين . وقال مجاهد إنما سميت الحوراء حوراء ، لأنه يحار الطرف في حسنها ، وقيل هو من حور العين وهو شدّة بياض العين في شدّة سوادها كذا قال أبو عبيدة . وقال الأصمعي ما أدري ما الحور في العين . قال أبو عمرو الحور أن تسودّ العين كلها مثل أعين الظباء والبقر ، قال وليس في بني آدم حور ، وإنما قيل للنساء حور لأنهنّ شبهن بالظباء والبقر . قيل والمراد بقوله { زوّجناهم } قرناهم ، وليس من عقد التزويج ، لأنه لا يقال زوّجته بامرأة . وقال أبو عبيدة وجعلناهم أزواجاً لهنّ كما يزوّج البعل بالبعل أي جعلناهم اثنين اثنين ، وكذا قال الأخفش { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَـٰكِهَةٍ ءامِنِينَ } أي يأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه حال كونهم آمنين من التختم ، والأسقام ، والآلام . قال قتادة آمنين من الموت ، والوصب ، والشيطان ، وقيل من انقطاع ما هم فيه من النعيم . { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأولَىٰ } أي لا يموتون فيها أبداً إلا الموتة التي ذاقوها في الدنيا ، والاستثناء منقطع ، أي لكن الموتة التي قد ذاقوها في الدنيا ، كذا قال الزّجاج والفراء ، وغيرهما ، ومثل هذه الآية قوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } النساء 22 وقيل إن " إلا " بمعنى بعد ، كقولك ما كلمت رجلاً اليوم إلا رجلاً عندك ، أي بعد رجل عندك ، وقيل هي بمعنى سوى ، أي سوى الموتة الأولى . وقال ابن قتيبة إنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا ، لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله وقدرته إلى أسباب من الجنة يلقون الروح والريحان ، ويرون منازلهم من الجنة ، وتفتح لهم أبوابها ، فإذا ماتوا في الدنيا ، فكأنهم ماتوا في الجنة لاتصالهم بأسبابها ، ومشاهدتهم إياها ، فيكون الاستثناء على هذا متصلاً . واختار ابن جرير أن إلا بمعنى بعد ، واختار كونها بمعنى سوى ابن عطية { وَوَقَـٰهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } . قرأ الجمهور { وقاهم } بالتخفيف ، وقرأ أبو حيوة بالتشديد على المبالغة { فَضْلاً مّن رَّبّكَ } أي لأجل الفضل منه ، أو أعطاهم ذلك عطاء فضلاً منه { ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي ذلك الذي تقدّم ذكره هو الفوز الذي لا فوز بعده ، المتناهي في العظم . ثم لما بيّن سبحانه الدلائل ، وذكر الوعد ، والوعيد ، قال { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـٰهُ بِلِسَـٰنِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي إنما أنزلنا القرآن بلغتك كي يفهمه قومك ، فيتذكروا ، ويعتبروا ، ويعملوا بما فيه ، أو سهلناه بلغتك عليك ، وعلى من يقرؤه لعلهم يتذكرون { فَٱرْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } أي فانتظر ما وعدناك من النصر عليهم ، وإهلاكهم على يدك ، فإنهم منتظرون ما ينزل بك من موت ، أو غيره ، وقيل انتظر أن يحكم الله بينك وبينهم ، فإنهم منتظرون بك نوائب الدهر ، والمعنى متقارب . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } يقول لست بعزيز ، ولا كريم . وأخرج الأموي في مغازيه ، عن عكرمة قال لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل ، فقال " إن الله أمرني أن أقول لك { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ * ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } " القيامة 34 ، 35 قال فنزع يده من يده ، وقال ما تستطيع لي أنت ، ولا صاحبك من شيء ، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاء ، وأنا العزيز الكريم ، فقتله الله يوم بدر ، وأذله ، وعيره بكلمته ، وأنزل { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله { إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ طَعَامُ ٱلأثِيمِ } قال المهل . وأخرج عنه أيضاً { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } قال هو أبو جهل بن هشام .