Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 45, Ayat: 1-15)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { حـم } قد تقدّم الكلام في هذه الفاتحة ، وفي إعرابها ، في فاتحة سورة " غافر " ، وما بعدها ، فإن جعل اسماً للسورة ، فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ ، وإن جعل حروفاً مسرودة على نمط التعديد ، فلا محلّ له ، وقوله { تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ } على الوجه الأوّل خبر ثان ، وعلى الوجه الثاني خبر المبتدأ ، وعلى الوجه الثالث خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ وخبره { مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } ثم أخبر سبحانه بما يدل على قدرته الباهرة ، فقال { إِنَّ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضِ لآيَـٰتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ } أي فيها نفسها ، فإنها من فنون الآيات ، أو في خلقها . قال الزجاج ويدلّ على أن المعنى في خلق السمٰوات والأرض قوله { وَفِى خَلْقِكُمْ } أي في خلقكم أنفسكم على أطوار مختلفة . قال مقاتل من تراب ، ثم من نطفة إلى أن يصير إنساناً ، { وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءايَـٰتٌ } أي وفي خلق ما يبثّ من دابة ، وارتفاع آيات على أنها مبتدأ مؤخر ، وخبره الظرف قبله ، وبالرفع قرأ الجمهور ، وقرأ حمزة ، والكسائي آيات بالنصب عطفاً على اسم إن ، والخبر قوله { وَفِى خَلْقِكُمْ } كأنه قيل وإن في خلقكم وما يبثّ من دابة آيات ، أو على أنها تأكيد لآيات الأولى . وقرأ الجمهور أيضاً { آيات لقوم يعقلون } بالرّفع ، وقرأ حمزة ، والكسائي بنصبها مع اتفاقهم على الجرّ في اختلاف ، أما جرّ " اختلاف " ، فهو على تقدير حرف الجرّ أي في { َلَهُ ٱخْتِلَـٰف ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } آيات ، فمن رفع آيات ، فعلى أنها مبتدأ ، وخبرها في اختلاف ، وأما النصب فهو من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين . قال الفراء الرفع على الاستئناف بعد إنّ ، تقول العرب إنّ لي عليك مالاً ، وعلى أخيك مال ، ينصبون الثاني ويرفعونه ، وللنحاة في هذا الموضع كلام طويل . والبحث في مسألة العطف على معمولي عاملين مختلفين ، وحجج المجوّزين له ، وجوابات المانعين له مقرّر في علم النحو مبسوط في مطوّلاته . ومعنى { مَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ } ما يفرقه وينشره { وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } تعاقبهما ، أو تفاوتهما في الطول والقصر ، وقوله { وَمَا أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاء مَّن رِزْقٍ } معطوف على اختلاف ، والرزق المطر لأنه سبب لكل ما يرزق الله العباد به ، وإحياء الأرض إخراج نباتها ، و { مَوْتِهَا } خلّوها عن النبات ومعنى { وَتَصْرِيفِ ٱلرّيَاحِ } أنها تهب تارة من جهة وتارة من أخرى ، وتارة تكون حارّة وتارة تكون باردة ، وتارة نافعة ، وتارة ضارّة { تِلْكَ آيَـٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } أي هذه الآيات المذكورة هي حجج الله وبراهينه ، ومحل { نتلوها عليك } النصب على الحال ، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر اسم الإشارة ، وآيات الله بيان له ، أو بدل منه ، وقوله { بِٱلْحَقّ } حال من فاعل نتلو ، أو من مفعوله أي محقين ، أو ملتبسة بالحقّ ، ويجوز أن تكون الباء للسببية ، فتتعلق بنفس الفعل { فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } أي بعد حديث الله وبعد آياته ، وقيل إن المقصود فبأي حديث بعد آيات الله ، وذكر الاسم الشريف ليس إلاّ لقصد تعظيم الآيات ، فيكون من باب أعجبني زيد ، وكرمه . وقيل المراد بعد حديث الله ، وهو القرآن كما في قوله { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } الزمر 23 ، وهو المراد بالآيات ، والعطف لمجرّد التغاير العنواني . قرأ الجمهور تؤمنون بالفوقية ، وقرأ حمزة ، والكسائي بالتحتية . والمعنى يؤمنون بأيّ حديث ، وإنما قدّم عليه لأن الاستفهام له صدر الكلام . { وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } أي لكل كذاب كثير الإثم مرتكب لما يوجبه ، والويل واد في جهنم . ثم وصف هذا الأفاك بصفة أخرى ، فقال { يَسْمَعُ ءايَـٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ } وقيل إن يسمع في محل نصب على الحال ، وقيل استئناف ، والأول أولى ، وقوله { تُتْلَىٰ عَلَيْهِ } في محل نصب على الحال { ثُمَّ يُصِرُّ } على كفره ، ويقيم على ما كان عليه حال كونه { مُسْتَكْبِراً } أي يتمادى على كفره متعظماً في نفسه عن الانقياد للحقّ ، والإصرار مأخوذ من إصرار الحمار على العانة وهو أن ينحني عليها صارًّا أذنيه . قال مقاتل إذا سمع من آيات القرآن شيئًا اتخذها هزواً ، وجملة { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة وأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف { فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } هذا من باب التهكم أي فبشّره على إصراره واستكباره ، وعدم استماعه إلى الآيات بعذاب شديد الألم { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءايَـٰتِنَا شَيْئاً } قرأ الجمهور { علم } بفتح العين ، وكسر اللام مخففة على البناء للفاعل . وقرأ قتادة ، ومطر الورّاق على البناء للمفعول . والمعنى أنه إذا وصل إليه علم شيء من آيات الله { ٱتَّخَذَهَا } أي الآيات { هُزُواً } وقيل الضمير في اتخذها عائد إلى { شيئًا } لأنه عبارة عن الآيات ، والأوّل أولى . والإشارة بقوله { أُوْلَـٰئِكَ } إلى كلّ أفاك متصف بتلك الصفات { لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } بسبب ما فعلوا من الإصرار ، والاستكبار عن سماع آيات الله ، واتخاذها هزواً ، والعذاب المهين هو المشتمل على الإذلال ، والفضيحة { مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ } أي من وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا ، والتكبر عن الحقّ جهنّم فإنها من قدّامهم لأنهم متوجهون إليها ، وعبر بالوراء عن القدّام ، كقوله { مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ } الرعد 16 وقول الشاعر @ أليس ورائي إن تراخت منيتي @@ وقيل جعلها باعتبار إعراضهم عنها ، كأنها خلفهم { وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً } أي لا يدفع عنهم ما كسبوا من أموالهم ، وأولادهم شيئًا من عذاب الله ، ولا ينفعهم بوجه من وجوه النفع { وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَاء } معطوف على ما كسبوا أي ولا يغني عنهم ما اتخذوا من دون الله أولياء من الأصنام ، و « ما » في الموضعين إما مصدرية ، أو موصولة ، وزيادة لا في الجملة الثانية للتأكيد { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } في جهنم التي هي من ورائهم { هَـٰذَا هُدًى } جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر ، يعني هذا القرآن هدى للمهتدين به { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِ رَبّهِمْ } القرآنية { لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ } الرجز أشدّ العذاب . قرأ الجمهور أليم بالجرّ صفة للرّجز . وقرأ ابن كثير ، وحفص ، وابن محيصن بالرفع صفة لعذاب { ٱللَّهُ ٱلَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ } أي جعله على صفة تتمكنون بها من الركوب عليه { لِتَجْرِىَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ } أي بإذنه وإقداره لكم { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } بالتجارة تارة ، والغوص للدرّ ، والمعالجة للصيد وغير ذلك { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي لكي تشكروا النعم التي تحصل لكم بسبب هذا التسخير للبحر { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ } أي سخّر لعباده جميع ما خلقه في سماواته ، وأرضه مما تتعلق به مصالحهم ، وتقوم به معايشهم ، ومما سخّره لهم من مخلوقات السمٰوات الشمس والقمر ، والنجوم النيرات ، والمطر والسحاب والرّياح ، وانتصاب { جميعاً } على الحال من { ما في السمٰوات وما في الأرض } ، أو تأكيد له ، وقوله { منه } يجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة لـ { جميعاً } أي كائنة منه ، ويجوز أن يتعلق بسخر ، ويجوز أن يكون حالاً من ما في السمٰوات ، أو خبراً لمبتدأ محذوف ، والمعنى أن كل ذلك رحمة منه لعباده { إِنَّ فِى ذَلِكَ } المذكور من التسخير { لآيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وخصّ المتفكرين لأنه لا ينتفع بها إلاّ من تفكر فيها ، فإنه ينتقل من التفكر إلى الاستدلال بها على التوحيد . { قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ } أي قل لهم اغفروا يغفروا { لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ } وقيل هو على حذف اللام ، والتقدير قل لهم ليغفروا . والمعنى قل لهم يتجاوزوا عن الذين لا يرجون وقائع الله بأعدائه ، أي لا يتوقعونها ، ومعنى الرجاء هنا الخوف ، وقيل هو على معناه الحقيقي . والمعنى لا يرجون ثوابه في الأوقات التي وقّتها الله لثواب المؤمنين ، والأوّل أولى ، والأيام يعبر بها عن الوقائع كما تقدّم في تفسير قوله { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ } إبراهيم 5 قال مقاتل لا يخشون مثل عذاب الله للأمم الخالية ، وذلك أنهم لا يؤمنون به ، فلا يخافون عقابه . وقيل المعنى لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه ، وقيل لا يخافون البعث . قيل والآية منسوخة بآية السيف { لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي لنجزي بالنون أي لنجزى نحن . وقرأ باقي السبعة بالتحتية مبنياً للفاعل . أي ليجزي الله . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وعاصم بالتحتية مبنياً للمفعول مع نصب قوماً ، فقيل النائب عن الفاعل مصدر الفعل ، أي ليجزى الجزاء قوماً ، وقيل إن النائب الجارّ والمجرور ، كما في قول الشاعر @ ولو ولدت فقيرة جرو كلب لسبّ بذلك الجرو الكلابا @@ وقد أجاز ذلك الأخفش ، والكوفيون ، ومنعه البصريون ، والجملة لتعليل الأمر بالمغفرة ، والمراد بالقوم المؤمنون ، أمروا بالمغفرة ليجزيهم الله يوم القيامة بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار ، والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه . وقيل المعنى ليجزي الكفار بما عملوا من السيئات كأنّه قال لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن ، والأوّل أولى . ثم ذكر المؤمنين وأعمالهم ، والمشركين وأعمالهم ، فقال { مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } والمعنى أن عمل كل طائفة من إحسان ، أو إساءة لعامله لا يتجاوزه إلى غيره ، وفيه ترغيب وتهديد { ثُمَّ إِلَىٰ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ } فيجازي كلاً بعمله إن كان خيراً فخير ، وإن كان شرًّا فشرّ . وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة من طريق عكرمة ، عن ابن عباس في قوله { جَمِيعاً مّنْهُ } قال منه النور والشمس والقمر . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال كل شيء هو من الله . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن طاووس قال جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله ممّ خلق الخلق ؟ قال من الماء ، والنور والظلمة ، والهواء والتراب ، قال فمم خلق هؤلاء ؟ قال لا أدري . ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير ، فسأله ، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو ، فأتى ابن عباس ، فسأله ممّ خلق الخلق ؟ فقال من الماء ، والنور والظلمة ، والريح والتراب ، قال فممّ خلق هؤلاء ؟ فقرأ ابن عباس { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ } فقال الرجل ما كان ليأتي بهذا إلاّ رجل من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ } الآية قال كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه ، وكانوا يستهزئون به ويكذبونه ، فأمره الله أن يقاتل المشركين كافة ، فكان هذا من المنسوخ .