Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 45, Ayat: 16-26)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ } المراد بالكتاب التوراة ، وبالحكم الفهم والفقه الذي يكون بهما الحكم بين الناس وفصل خصوماتهم ، وبالنبوّة من بعثه الله من الأنبياء فيهم { وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ } أي المستلذات التي أحلها الله لهم ، ومن ذلك المنّ والسلوى { وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمينَ } من أهل زمانهم حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من فلق البحر ونحوه ، وقد تقدّم بيان هذا في سورة الدخان { وَءاتَيْنَـٰهُم بَيّنَـٰتٍ مّنَ ٱلأمْرِ } أي شرائع واضحات في الحلال والحرام ، أو معجزات ظاهرات ، وقيل العلم بمبعث النبي ، وشواهد نبوّته ، وتعيين مهاجره { فَمَا ٱخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ } أي فما وقع الاختلاف بينهم في ذلك الأمر إلاّ بعد مجيء العلم إليهم ببيانه ، وإيضاح معناه ، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجباً لثبوته ، وقيل المراد بالعلم يوشع بن نون ، فإنه آمن به بعضهم وكفر بعضهم ، وقيل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، فاختلفوا فيها حسداً وبغياً ، وقيل { بَغِيّاً } من بعضهم على بعض بطلب الرئاسة { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من أمر الدين ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته . { ثُمَّ جَعَلْنَـٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مّنَ ٱلأمْرِ } الشريعة في اللغة المذهب ، والملة ، والمنهاج ، ويقال لمشرعة الماء وهي مورد شاربيه شريعة ، ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد ، فالمراد بالشريعة هنا ما شرعه الله لعباده من الدين ، والجمع شرائع ، أي جعلناك يا محمد على منهاج واضح من أمر الدين يوصلك إلى الحق { فَٱتَّبِعْهَا } فاعمل بأحكامها في أمتك { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } توحيد الله وشرائعه لعباده ، وهم كفار قريش ومن وافقهم { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي لا يدفعون عنك شيئًا مما أراده الله بك إن اتبعت أهواءهم { وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } أي أنصار ينصر بعضهم بعضاً . قال ابن زيد إن المنافقين أولياء اليهود { وَٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلْمُتَّقِينَ } أي ناصرهم ، والمراد بالمتقين الذين اتقوا الشرك والمعاصي ، والإشارة بقوله { هَـٰذَا } إلى القرآن ، أو إلى اتباع الشريعة ، وهو مبتدأ وخبره { بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } أي براهين ودلائل لهم فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين ، جعل ذلك بمنزلة البصائر في القلوب ، وقرىء هٰذه بصائر أي هذه الآيات لأن القرآن بمعناها ، كما قال الشاعر @ سائل بني أسد ما هذه الصوت @@ لأن الصوت بمعنى الصيحة { وَهَدَىٰ } أي رشد ، وطريق يؤدي إلى الجنة لمن عمل به { وَرَحْمَةٌ } من الله في الآخرة { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي من شأنهم الإيقان ، وعدم الشك ، والتزلزل بالشُّبه { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيّئَـٰتِ } أم هي المنقطعة المقدرة ببل ، والهمزة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني ، والهمزة لإنكار الحسبان ، والاجتراح الاكتساب ، ومنه الجوارح ، وقد تقدّم في المائدة ، والجملة مستأنفة لبيان تباين حالي المسيئين والمحسنين ، وهو معنى قوله { أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي نسوّي بينهم مع اجتراحهم السيئات ، وبين أهل الحسنات { سَوَاء مَّحْيَـٰهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } في دار الدنيا وفي الآخرة ، كلا لا يستوون ، فإن حال أهل السعادة فيهما غير حال أهل الشقاوة . وقيل المراد إنكار أن يستووا في الممات ، كما استووا في الحياة . قرأ الجمهور { سواء } بالرفع على أنه خبر مقدّم ، والمبتدأ محياهم ومماتهم والمعنى إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم ، سواء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص { سواء } بالنصب على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور في قوله { كَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } أو على أنه مفعول ثان لحسب ، واختار قراءة النصب أبو عبيد ، وقال معناه نجعلهم سواء ، وقرأ الأعمش ، وعيسى بن عمر مماتهم بالنصب على معنى سواء في محياهم ومماتهم ، فلما سقط الخافض انتصب ، أو على البدل من مفعول نجعلهم بدل اشتمال { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } أي ساء حكمهم هذا الذي حكموا به . { وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ بِٱلْحَقّ } أي بالحقّ المقتضي للعدل بين العباد ، ومحل بالحقّ النصب على الحال من الفاعل ، أو من المفعول ، أو الباء للسببية ، وقوله { وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } يجوز أن يكون على الحقّ لأن كلا منهما سبب ، فعطف السبب على السبب ، ويجوز أن يكون معطوفاً على محذوف ، والتقدير خلق الله السمٰوات والأرض ليدلّ بهما على قدرته ولتجزى ، ويجوز أن تكون اللام للصيرورة { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي النفوس المدلول عليها بكل نفس لا يظلمون بنقص ثواب ، أو زيادة عقاب ، ثم عجب سبحانه من حال الكفار ، فقال { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } قال الحسن ، وقتادة ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه ، فلا يهوى شيئًا إلاّ ركبه ، وقال عكرمة يعبد ما يهواه ، أو يستحسنه ، فإذا استحسن شيئًا ، وهواه اتخذه إلٰهاً . قال سعيد بن جبير كان أحدهم يعبد الحجر ، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر { وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } أي على علم قد علمه ، وقيل المعنى أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه ، وقال مقاتل على علم منه أنه ضالّ لأنه يعلم أن الصنم لا ينفع ولا يضرّ . قال الزجاج على سوء في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه ، ومحل { على علم } النصب على الحال من الفاعل ، أو المفعول { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ ، وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى { وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً } أي غطاء حتى لا يبصر الرشد . قرأ الجمهور { غشاوة } بالألف مع كسر الغين ، وقرأ حمزة ، والكسائي غشوة بغير ألف مع فتح الغين ، ومنه قول الشاعر @ لئن كنت ألبستني غشوة لقد كنت أصفيتك الودّ حينا @@ وقرأ ابن مسعود ، والأعمش كقراءة الجمهور مع فتح الغين وهي لغة ربيعة ، وقرأ الحسن ، وعكرمة بضمها وهي لغة عكل { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ } أي من بعد إضلال الله له { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } تذكر اعتبار حتى تعلموا حقيقة الحال ؟ ثم بيّن سبحانه بعض جهالاتهم وضلالاتهم فقال { وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } أي ما الحياة إلاّ الحياة التي نحن فيها { نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي يصيبنا الموت والحياة فيها ، وليس وراء ذلك حياة ، وقيل نموت نحن ، ويحيا فيها أولادنا ، وقيل نكون نطفاً ميتة ، ثم نصير أحياء . وقيل في الآية تقديم وتأخير ، أي نحيا ونموت ، وكذا قرأ ابن مسعود ، وعلى كل تقدير ، فمرادهم بهذه المقالة إنكار البعث وتكذيب الآخرة { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } أي إلاّ مرور الأيام والليالي ، قال مجاهد يعني السنين والأيام . وقال قتادة إلاّ العمر ، والمعنى واحد . وقال قطرب المعنى وما يهلكنا إلاَّ الموت . وقال عكرمة وما يهلكنا إلاّ الله { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } أي ما قالوا هذه المقالة إلاّ شاكين غير عالمين بالحقيقة ، ثم بيّن كون ذلك صادراً منهم لا عن علم ، فقال { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } أي ما هم إلاّ قوم غاية ما عندهم الظنّ ، فما يتكلمون إلاّ به ، ولا يستندون إلاّ إليه . { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُنَا بَيّنَاتٍ } أي إذا تليت آيات القرآن على المشركين حال كونها بينات واضحات ظاهرة المعنى ، والدلالة على البعث { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِـئَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } أنا نبعث بعد الموت ! أي ما كان لهم حجة ، ولا متمسك إلاّ هذا القول الباطل الذي ليس من الحجة في شيء ، وإنما سماه حجة تهكماً بهم . قرأ الجمهور بنصب { حجتهم } على أنه خبر كان ، واسمها { إِلاَّ أَن قَالُواْ } وقرأ زيد بن عليّ ، وعمرو بن عبيد ، وعبيد بن عمرو برفع { حجتهم } على أنها اسم كان ، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليهم ، فقال { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ } أي في الدنيا { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقضاء آجالكم { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } بالبعث والنشور { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي في جمعكم لأن من قدر على ابتداء الخلق قدر على إعادته { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } بذلك ، فلهذا حصل معهم الشكّ في البعث ، وجاءوا في دفعه بما هو أوهن من بيت العنكبوت ، ولو نظروا حقّ النظر لحصلوا على العلم اليقين ، واندفع عنهم الرّيب وأراحوا أنفسهم من ورطة الشكّ والحيرة . وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { ثُمَّ جَعَلْنَـٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مّنَ ٱلأمْرِ } يقول على هدًى من أمر دينه . وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله { سَوَاء مَّحْيَـٰهُمْ وَمَمَـٰتُهُمْ } قال المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن ، والكافر في الدنيا والآخرة كافر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } قال ذاك الكافر اتخذ دينه بغير هدًى من الله ، ولا برهان { وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } يقول أضله في سابق علمه . وأخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه قال كان الرّجل من العرب يعبد الحجر ، فإذا وجد أحسن منه أخذه وألقى الآخر ، فأنزل الله { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار ، فقال الله في كتابه { وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } قال الله يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله يقول " قال الله عزّ وجلّ يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار " .