Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 48, Ayat: 1-7)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } اختلف في تعيين هذا الفتح ، فقال الأكثر هو صلح الحديبية ، والصلح قد يسمى فتحاً . قال الفراء والفتح قد يكون صلحاً ، ومعنى الفتح في اللغة فتح المنغلق ، والصلح الذي كان مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً متعذراً حتى فتحه الله . قال الزهري لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين ، فسمعوا كلامهم ، فتمكن الإسلام في قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإسلام . قال الشعبي لقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ما لم يصب في غزوة ، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وبويع بيعة الرّضوان ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس . وقال قوم إنه فتح مكة . وقال آخرون إنه فتح خيبر . والأوّل أرجح ، ويؤيده ما ذكرناه قبل هذا من أن السورة أنزلت في شأن الحديبية . وقيل هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح ، وقيل هو ما فتح له من النبوّة ، والدعوة إلى الإسلام ، وقيل فتح الروم ، وقيل المراد بالفتح في هذه الآية الحكم والقضاء . كما في قوله { ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقّ } الأعراف 89 فكأنه قال إنا قضينا لك قضاءً مبيناً ، أي ظاهراً واضحاً مكشوفاً . { لّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } اللام متعلقة بـ { فتحنا } ، وهي لام العلة . قال ابن الأنباري سألت أبا العباس يعني المبرد ، عن اللام في قوله { لّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ } فقال هي لام كي معناها إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح ، فلما انضمّ إلى المغفرة شيء حادث واقع حسن معنى كي ، وغلط من قال ليس الفتح سبب المغفرة . وقال صاحب الكشاف إن اللام لم تكن علة للمغفرة ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة وهي المغفرة ، وإتمام النعمة ، وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز . كأنه قيل يسرنا لك فتح مكة ، ونصرناك على عدوّك لنجمع لك بين عزّ الدارين ، وأعراض العاجل والآجل . وهذا كلام غير جيد ، فإن اللام داخلة على المغفرة فهي علة للفتح ، فكيف يصح أن تكون معللة . وقال الرازي في توجيه التعليل إن المراد بقوله { لّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ } التعريف بالمغفرة ، تقديره إنا فتحنا لك لتعرف أنك مغفور لك معصوم . وقال ابن عطية المراد أن الله فتح لك لكي يجعل الفتح علامة لغفرانه لك ، فكأنها لام الصيرورة . وقال أبو حاتم هي لام القسم وهو خطأ ، فإن لام القسم لا تكسر ، ولا ينصب بها . واختلف في معنى قوله { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } فقيل ما تقدّم من ذنبك قبل الرسالة ، وما تأخر بعدها . قاله مجاهد ، وسفيان الثوري ، وابن جرير ، والواحدي ، وغيرهم . وقال عطاء ما تقدّم من ذنبك ، يعني ذنب أبويك آدم وحوّاء ، وما تأخر من ذنوب أمتك . وما أبعد هذا عن معنى القرآن . وقيل ما تقدّم من ذنب أبيك إبراهيم ، وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده ، وهذا كالذي قبله . وقيل ما تقدّم من ذنب يوم بدر ، وما تأخر من ذنب يوم حنين ، وهذا كالقولين الأولين في البعد . وقيل لو كان ذنب قديم ، أو حديث لغفرناه لك ، وقيل غير ذلك مما لا وجه له ، والأوّل أولى . ويكون المراد بالذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى ، وسمي ذنباً في حقه لجلالة قدره ، وإن لم يكن ذنباً في حق غيره . { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بإظهار دينك على الدين كله ، وقيل بالجنة ، وقيل بالنبوّة والحكمة ، وقيل بفتح مكة ، والطائف ، وخيبر ، والأولى أن يكون المعنى ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة ، والهداية إلى صراط مستقيم ، وهو الإسلام . ومعنى { يهديك } يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } أي غالباً منيعاً لا يتبعه ذلّ { هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي السكون والطمأنينة بما يسره لهم من الفتح لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم { لِيَزْدَادُواْ إِيمَـٰناً مَّعَ إِيمَـٰنِهِمْ } أي ليزدادوا بسبب تلك السكينة إيماناً منضماً إلى إيمانهم الحاصل لهم من قبل . قال الكلبي كلما نزلت آية من السماء ، فصدّقوا بها ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم ، وقال الربيع بن أنس خشية مع خشيتهم . وقال الضحاك يقيناً مع يقينهم { وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضِ } يعني الملائكة ، والإنس ، والجن ، والشياطين يدبر أمرهم كيف يشاء ، ويسلط بعضهم على بعض ، ويحوط بعضهم ببعض { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً } كثير العلم بليغه { حَكِيماً } في أفعاله وأقواله { لّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـٰرُ } هذه اللام متعلقة بمحذوف يدلّ عليه ما قبله تقديره يبتلي بتلك الجنود من يشاء ، فيقبل الخير من أهله ، والشرّ ممن قضى له به ليدخل ويعذب . وقيل متعلقة بقوله { إِنَّا فَتَحْنَا } كأنه قال إنا فتحنا لك ما فتحنا ليدخل ويعذب ، وقيل متعلقة بـ { ينصرك } أي نصرك الله بالمؤمنين ليدخل ويعذب ، وقيل متعلقة بـ { يزدادوا } أي يزدادوا ، ليدخل ويعذب ، والأوّل أولى { وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ } أي يسترها ، ولا يظهرها ولا يعذبهم بها ، وقدّم الإدخال على التكفير مع أن الأمر بالعكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى ، والمقصد الأسنى { وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً } أي وكان ذلك الوعد بإدخالهم الجنة ، وتكفير سيئاتهم عند الله ، وفي حكمه فوزاً عظيماً ، أي ظفراً بكل مطلوب ، ونجاة من كل غمّ ، وجلباً لكل نفع ودفعاً لكل ضرّ ، وقوله { عَندَ ٱللَّهِ } متعلق بمحذوف على أنه حال من { فوزاً } لأنه صفة في الأصل ، فلما قدم صار حالاً ، أي كائناً عند الله ، والجملة معترضة بين جزاء المؤمنين ، وجزاء المنافقين والمشركين ثم لما فرغ مما وعد به صالحي عباده ذكر ما يستحقه غيرهم ، فقال { وَيُعَذّبَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَـٰتِ } وهو معطوف على يدخل ، أي يعذبهم في الدنيا بما يصل إليهم من الهموم والغموم بسبب ما يشاهدونه من ظهور كلمة الإسلام ، وقهر المخالفين له ، وبما يصابون به من القهر والقتل والأسر ، وفي الآخرة بعذاب جهنم . وفي تقديم المنافقين على المشركين دلالة على أنهم أشدّ منهم عذاباً ، وأحقّ منهم بما وعدهم الله به ، ثم وصف الفريقين ، فقال { ٱلظَّانّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْء } وهو ظنهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يغلب ، وأن كلمة الكفر تعلو كلمة الإسلام . ومما ظنوه ما حكاه الله عنهم بقوله { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً } ، { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ ٱلسَّوْء } أي ما يظنونه ، ويتربصونه بالمؤمنين دائر عليهم حائق بهم ، والمعنى أن العذاب ، والهلاك الذي يتوقعونه للمؤمنين واقعان عليهم نازلان بهم . قال الخليل ، وسيبويه السوء هنا الفساد . قرأ الجمهور { السوء } بفتح السين . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بضمها { وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } . لما بيّن سبحانه أن دائرة السوء عليهم في الدنيا بيّن ما يستحقونه مع ذلك من الغضب واللعنة ، وعذاب جهنم { وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضِ } من الملائكة ، والإنس ، والجنّ ، والشياطين { وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } كرّر هذه الآية لقصد التأكيد ، وقيل المراد بالجنود هنا جنود العذاب ، كما يفيده التعبير بالعزة هنا ، مكان العلم هنالك . وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن مجمع بن حارثة الأنصاري قال شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا عنها حتى بلغنا كراع الغميم إذ الناس يوجفون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض ما للناس ؟ فقالوا أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } ، فقال رجل إي رسول الله ، أو فتح هو ؟ قال " إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح " ، فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلاّ من شهد الحديبية ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهماً ، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس ، فأعطى الفارس سهمين ، وأعطى الراجل سهماً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري في تاريخه ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، وكان إذا أتاه اشتدّ عليه ، فسرّي عنه ، وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنه أنزل عليه { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } . وأخرج البخاريّ وغيره عن أنس في قوله { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } قال الحديبية . وأخرج البخاريّ ، وغيره عن البراء قال تعدّون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحاً ، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية . وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } قال " فتح مكة " وأخرج البخاريّ ، ومسلم ، وغيرهما عن المغيرة بن شعبة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى تتورم قدماه ، فقيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ، قال " أفلا أكون عبداً شكوراً " ، وفي الباب أحاديث . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله { هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قال السكينة هي الرحمة ، وفي قوله { لِيَزْدَادُواْ إِيمَـٰناً مَّعَ إِيمَـٰنِهِمْ } قال إن الله بعث نبيه بشهادة أن لا إلٰه إلاّ الله ، فلما صدّق بها المؤمنون زادهم الصلاة ، فلما صدّقوا بها زادهم الصيام ، فلما صدّقوا به زادهم الزكاة ، فلما صدّقوا بها زادهم الحجّ ، فلما صدّقوا به زادهم الجهاد ، ثم أكمل لهم دينهم ، فقال { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً } المائدة 3 . فأوثق إيمان أهل السماء ، وأهل الأرض ، وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إلٰه إلاّ الله . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود { لِيَزْدَادُواْ إِيمَـٰناً مَّعَ إِيمَـٰنِهِمْ } قال تصديقاً مع تصديقهم . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أنس قال لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم { لّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مرجعه من الحديبية . قال " لقد أنزلت علي آية هي أحبّ إليّ مما على الأرض " ، ثم قرأها عليهم ، فقالوا هنيئًا مريئًا يا رسول الله ، قد بيّن الله لك ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه { لّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـٰرُ } حتى بلغ { فَوْزاً عَظِيماً } .