Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 27-31)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وجه اتصال هذا بما قبله التنبيه من الله على أن ظلم اليهود ونقضهم المواثيق والعهود هو كظلم ابن آدم لأخيه ، فالداء قديم ، والشرّ أصيل . وقد اختلف أهل العلم في ابني آدم المذكورين ، هل هما لصلبه أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى الأوّل . وذهب الحسن والضحاك إلى الثاني ، وقالا إنهما كانا من بني إسرائيل ، فضرب بهما المثل في إبانة حسد اليهود ، وكانت بينهما خصومة ، فتقرّبا بقربانين ولم تكن القاربين إلا في بني إسرائيل . قال ابن عطية وهذا وهم كيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب ؟ قال الجمهور من الصحابة فمن بعدهم واسمهما قابيل وهابيل ، وكان قربان قابيل حزمة من سنبل ، لأنه كان صاحب زرع واختارها من أراد زرعه ، حتى إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها ، وكان قربان هابيل كبشاً لأنه كان صاحب غنم أخذه من أجود غنمه ، فتقبل قربان هابيل ، فرفع إلى الجنة فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدى به الذبيح عليه السلام ، كذا قال جماعة من السلف ، ولم يتقبل قربان قابيل ، فحسده وقال لأقتلنك . وقيل سبب هذا القربان أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى ، إلا شيثاً عليه السلام فإنها ولدته منفرداً ، وكان آدم عليه السلام يزّوج الذكر من هذا البطن بالأنثى من البطن الآخر . ولا تحلّ له أخته التي ولدت معه ، فولدت مع قابيل أخت واسمها إقليما ، ومع هابيل أخت ليست كذلك ، واسمها ليوذا فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيلأناأحق بأختي ، فأمره آدم فلم يأتمر وزجره فلم ينزجر ، فاتفقوا على القربان ، وأنه يتزوجها من تقبل قربانه . قوله { بِٱلْحَقّ } متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر ، { وَٱتْلُ } أي تلاوة متلبسة بالحق ، أو صفة لنبأ أي نبأ متلبساً بالحق ، والمراد بأحدهما هابيل وبالآخر قابيل ، و { قَالَ للأَقْتُلَنَّكَ } استئناف بياني ، كأنه قيل فماذا حال الذي لم يتقبل قربانه ؟ وقوله { قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } استئناف كالأوّل كأنه قيل فماذا قال الذي تقبل قربانه ؟ وإنما للحصر أي إنما يتقبل الله القربان من المتقين لا من غيرهم ، وكأنه يقول لأخيه إنما أتيت من قبل نفسك لا من قبلي ، فإن عدم تقبل قربانك بسبب عدم تقواك . قوله { لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى } أي لأن قصدت قتلي ، واللام هي الموطئة ، و { مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ } جواب القسم سادّ مسدّ جواب الشرط ، وهذا استسلام للقتل من هابيل ، كما ورد في الحديث " إذا كانت الفتنة فكن خير ابني آدم " ، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية . قال مجاهد كان الفرض عليهم حينئذ أن لا يسل أحد سيفاً وأن لا يمتنع ممن يريد قتله ، قال القرطبي قال علماؤنا وذلك مما يجوز ورود التعبد به ، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعاً ، وفي وجوب ذلك عليه خلاف . والأصح وجوب ذلك لما فيه من النهي عن المنكر ، وفي الحشوية قوم لا يجوّزون للمصول عليه الدفع ، واحتجوا بحديث أبي ذرّ ، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة ، وكفّ اليد عند الشبهة ، على ما بيناه في كتاب التذكرة ، انتهى كلام القرطبي . وحديث أبي ذرّ المشار إليه هو عند مسلم ، وأهل السنن إلا النسائي ، وفيه « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له " يا أبا ذرّ أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً كيف تصنع ؟ " قلت الله ورسوله أعلم ، قال " اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك " ، قال فإن لم أترك ، قال " فأت من أنت منهم فكن فيهم " ، قال فآخذ سلاحي ؟ قال " إذن تشاركهم فيما هم فيه ، ولكن إن خشيت أن يردعك شعاع السيف ، فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك " وفي معناه أحاديث عن جماعة من الصحابة سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وخباب بن الأرثّ وأبي بكر وابن مسعود وأبي واقد وأبي موسى . قوله { إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ } هذا تعليل لامتناعه من المقاتلة ، بعد التعليل الأوّل وهو { إِنّى أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } . اختلف المفسرون في المعنى فقيل أراد هابيل إني أريد أن تبوء بالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك ، وبإثمك الذي تحملته بسبب قتلي وقيل المراد بإثمي الذي يختص بي بسبب سيأتي ، فيطرح عليك بسبب ظلمك لي وتبوء بإثمك في قتلي . وهذا يوافق معناه معنى ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم " يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم ، فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه " ، ومثله قوله تعالى { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } العنكبوت 13 وقيل المعنى إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى { وَأَلْقَىٰ فِى ٱلأرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } النحل 15 أي أن لا تميد بكم . وقوله { يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } النساء 176 أي لا تضلوا . وقال أكثر العلماء إن المعنى { إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى } أي بإثم قتلك لي { وَإِثْمِكَ } الذي قد صار عليك بذنوبك من قبل قتلي . قال الثعلبي هذا قول عامة المفسرين وقيل هو على وجه الإنكار أي أو إني أريد على وجه الإنكار كقوله تعالى { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ } الشعراء 22 أي أو تلك نعمة . قاله القشيري ، ووجهه بأن إرادة القتل معصية . وسئل أبو الحسن بن كيسان كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار ؟ فقال وقعت الإرادة بعد ما بسط يده إليه بالقتل ، وهذا بعيد جدّاً ، وكذلك الذي قبله . وأصل باء رجع إلى المباءة ، وهي المنزل { وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ ٱللَّهِ } آل عمران 112 أي رجعوا . قوله { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } أي سهلت نفسه عليه الأمر وشجعته وصوّرت له أن قتل أخيه طوع يده سهل عليه ، يقال تطوّع الشيء أي سهل وانقاد وطوعه فلان له أي سهله . قال الهروي طوّعت وطاوعت واحد ، يقال طاع له كذا إذا أتاه طوعاً ، وفي ذكر تطويع نفسه له بعد ما تقدّم من قول قابيل { لأَقْتُلَنَّكَ } وقول هابيل { لِتَقْتُلَنِى } دليل على أن التطويع لم يكن قد حصل له عند تلك المقاولة . قوله { فَقَتَلَهُ } . قال ابن جرير ومجاهد وغيرهما روي أنه جهل كيف يقتل أخاه فجاءه إبليس بطائر أو حيوان غيره ، فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل وقيل غير ذلك مما يحتاج إلى تصحيح الرواية . قوله { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى ٱلأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءة أَخِيه } قيل إنه لما قتل أخاه لم يدر كيف يواريه لكونه أوّل ميت مات من بني آدم ، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ثم حثا عليه ، فلما رآه قابيل { يَاوَيْلَتَي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي } فواراه ، والضمير المستكن في { لِيُرِيَهُ } للغراب وقيل لله سبحانه ، و { كَيْفَ } في محل نصب على الحال من ضمير { يُوٰرِى } والجملة ثاني مفعولي يريه . والمراد بالسوءة هنا ذاته كلها لكونها ميتة ، و { قَالَ } استئناف جواب سؤال مقدّر من سوق الكلام ، كأنه قيل فماذا قال عند أن شاهد الغراب يفعل ذلك ؟ و { يا ويلتي } كلمة تحسر وتحزن ، والألف بدل من ياء المتكلم كأنه دعا ويلته بأن تحضر في ذلك الوقت ، والويلة الهلكة ، والكلام خارج مخرج التعجب منه من عدم اهتدائه لمواراة أخيه ، كما اهتدى الغراب إلى ذلك { فَأُوَارِيَ } بالنصب على أنه جواب الاستفهام ، وقرىء بالسكون على تقدير فأنا أواري { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ } على قتله وقيل لم يكن ندمه ندم توبة بل ندم لفقده ، لا على قتله وقيل غير ذلك . وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر ، عن ابن عباس قال « نهى أن تنكح المرأة أخاها توأمها ، وأن ينكحها غيره من إخوتها ، وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة ، فبينما هم كذلك ولد له امرأة وضيئة ، وولد له أخرى قبيحة دميمة ، فقال أخو الدميمة أنكحني أختك وأنكحك أختي ، فقال لا ، أنا أحق بأختي ، فقرّبا قرباناً ، فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض ، وصاحب الحرث بصبرة من طعام فتقبل من صاحب الكبش ، ولم يتقبل من صاحب الزرع » . قال ابن كثير في تفسيره إسناده جيد ، وكذا قال السيوطي في الدر المنثور . وأخرج ابن جرير عنه قال كان من شأن بني آدم أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه ، وإنما كان القربان يقرّبه الرجل ، فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا ثم ذكرا ما قرباه . وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله { لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ } قال كتب عليهم إذا أراد الرجل أن يقتل رجلاً تركه ولا يمتنع منه . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله { إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ } يقول إني أريد أن تكون عليك خطيئتك ، ودمي ، فتبوء بهما جميعاً . وأخرج ابن جرير عنه { بِإِثْمِى } قال بقتلك إياي ، { وَإِثْمِكَ } ، قال بما كان منك قبل ذلك . وأخرج عن قتادة والضحاك مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } قال شجعته على قتل أخيه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في الآية قال زينت له نفسه . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال ، فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم ، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات ، فتركه بالعراء ، ولا يعلم كيف يدفن ، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ثم حثا عليه ، فلما رآه { قَالَ يَـٰوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ } . وقد ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث ابن مسعود ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنه أوّل من سنّ القتل " وقد روي في صفة قتله لأخيه روايات الله أعلم بصحتها .