Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 32-34)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ } أي من أجل ذلك القاتل وجريرته وبسبب معصيته ، وقال الزجاج أي من جنايته قال يقال أجل الرجل على أهله شراً يأجل أجلاً إذا جنى مثل أخذ يأخذ أخذاً . وقرأ أبو جعفر « من أجل » بكسر النون وحذف الهمزة ، وهي لغة . قال في شرح الدرة قرأ أبو جعفر منفرداً « من أجل ذلك » بكسر الهمزة مع نقل حركتها إلى النون قبلها وقيل يجوز أن يكون قوله { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ } متعلقاً بقوله { مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ } ، فيكون الوقف على قوله { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ } والأولى ما قدّمنا ، والمعنى أن نبأ ابني آدم هو الذي تسبب عنه الكتب المذكور على بني إسرائيل ، وعلى هذا جمهور المفسرين . وخصّ بني إسرائيل بالذكر لأن السياق في تعداد جناياتهم ، ولأنهم أوّل أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس ، ووقع التغليظ فيهم إذ ذاك لكثرة سفكهم للدماء ، وقتلهم للأنبياء وتقديم الجار والمجرور على الفعل الذي هو متعلق به أعني كتبنا يفيد القصر أي من أجل ذلك لا من غيره ، ومن لابتداء الغاية { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً } واحدة من هذه النفوس { بِغَيْرِ نَفْسٍ } أي بغير نفس توجب القصاص ، فيخرج عن هذا من قتل نفساً بنفس قصاصاً . قوله { أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأرْضِ } قرأ الجمهور بالجرّ عطفاً على نفس . وقرأ الحسن بالنصب على تقدير فعل محذوف يدلّ عليه أوّل الكلام تقديره أو أحدث فساداً في الأرض ، وفي هذا ضعف . ومعنى قراءة الجمهور أن من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعاً . وقد تقرر أن كل حكم مشروط بتحقق أحد شيئين ، فنقيضه مشروط بانتفائهما معاً ، وكل حكم مشروط بتحققهما معاً ، فنقيضه مشروط بانتفاء أحدهما ضرورة أن نقيض كل شيء مشروط بنقيض شرطه . وقد اختلف في هذا الفساد المذكور في هذه الآية ماذا هو ؟ فقيل هو الشرك ، وقيل قطع الطريق . وظاهر النظم القرآني أنه ما يصدق عليه أنه فساد في الأرض ، فالشرك فساد في الأرض ، وقطع الطريق فساد في الأرض ، وسفك الدماء وهتك الحرم ونهب الأموال فساد في الأرض ، والبغي على عباد الله بغير حق فساد في الأرض ، وهدم البنيان وقطع الأشجار ، وتغوير الأنهار فساد في الأرض ، فعرفت بهذا أنه يصدق على هذه الأنواع أنها فساد في الأرض ، وهكذا الفساد الذي سيأتي في قوله { وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأرْضِ فَسَاداً } يصدق على هذه الأنواع ، وسيأتي تمام الكلام على معنى الفساد قريباً . قوله { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } اختلف المفسرون في تحقيق هذا التشبيه للقطع بأن عقاب من قتل الناس جميعاً أشدّ من عقاب من قتل واحداً منهم . فروي عن ابن عباس أنه قال المعنى من قتل نبياً أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن أحياه بأن شدّ عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعاً . أخرج هذا عنه ابن جرير . وروي عن مجاهد أنه قال المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمداً جعل الله جزاءه جهنم ، وغضب عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً ، فلو قتل الناس جميعاً لم يزد على هذا قال ومن سلم من قتل ، فلم يقتل أحداً ، فكأنما أحيا الناس جميعاً . وقد أخرج نحو هذا عنه عبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وروى عن ابن عباس أيضاً أنه قال في تفسير هذه الآية أوبق نفسه كما لو قتل الناس جميعاً ، أخرجه عنه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم . وروي عن الحسن أنه قال فكأنما قتل الناس جميعاً في الوزر ، وكأنما أحيا الناس جميعاً في الأجر . وقال ابن زيد المعنى أن من قتل نفساً فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من قتل الناس جميعاً { وَمَنْ أَحْيَـٰهَا } أي من عفا عمن وجب قتله ، حكاه عنه القرطبي . وحكى عن الحسن أنه العفو بعد القدرة يعني أحياها . وروى عن مجاهد أن إحياءها إنجاؤها من غرق أو حرق أو هدم أو هلكة ، حكاه عنه ابن جرير وابن المنذر وقيل المعنى أن من قتل نفساً فالمؤمنون كلهم خصماؤه ، لأنه قد وتر الجميع { وَمَنْ أَحْيَـٰهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } أي وجب على الكل شكره وقيل المعنى أن من استحل واحداً ، فقد استحلّ الجميع لأنه أنكر الشرع . وعلى كل حال ، فالإحياء هنا عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة فهو مجاز ، إذ المعنى الحقيقي مختص بالله عزّ وجلّ . والمراد بهذا التشبيه في جانب القتل تهويل أمر القتل ، وتعظيم أمره في النفوس حتى ينزجر عنه أهل الجرأة والجسارة ، وفي جانب الإحياء الترغيب إلى العفو عن الجناة واستنقاذ المتورطين في الهلكات . قوله { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيّنَـٰتِ } جملة مستقلة مؤكدة باللام الموطئة للقسم متضمنة للإخبار بأن الرسل عليهم الصلاة والسلام قد جاءوا العباد بما شرعه الله لهم من الأحكام التي من جملتها أمر القتل ، وثم في قوله { ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ } للتراخي الرتبي والاستبعاد العقلي ، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى ما ذكر مما كتبه الله على بني إسرائيل أي إن كثيراً منهم بعد ذلك الكتب { فِى ٱلأرْضِ لَمُسْرِفُونَ } في القتل . قوله { إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } قد اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية فذهب الجمهور إلى أنها نزلت في العرنيين ، وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع الطريق ويسعى في الأرض بالفساد . قال ابن المنذر قول مالك صحيح . قال أبو ثور محتجاً لهذا القول إن قوله في هذه الآية { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } يدلّ على أنها نزلت في غير أهل الشرك لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم ، فدلّ ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام انتهى . وهكذا يدلّ على هذا قوله تعالى { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } الأنفال 38 ، وقوله صلى الله عليه وسلم " الإسلام يهدم ما قبله " أخرجه مسلم وغيره ، وحكى ابن جرير الطبري في تفسيره عن بعض أهل العلم أن هذه الآية أعني آية المحاربة نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين ، ووقف الأمر على هذه الحدود . وروى عن محمد بن سيرين أنه قال كان هذا قبل أن تنزل الحدود يعني فعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين وبهذا قال جماعة من أهل العلم . وذهب جماعة آخرون إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة ، والقائل بهذا مطالب ببيان تأخر الناسخ ، وسيأتي سياق الروايات الواردة في سبب النزول . والحق أن هذه الآية تعمّ المشرك وغيره لمن ارتكب ما تضمنته ، ولا اعتبار بخصوص السبب ، بل الاعتبار بعموم اللفظ . قال القرطبي في تفسيره ولا خلاف بين أهل العلم في أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام ، وإن كانت نزلت في المرتدين ، أو اليهود انتهى . ومعنى قوله مترتب أي ثابت . قيل المراد بمحاربة الله المذكورة في الآية هي محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربة المسلمين في عصره ، ومن بعد عصره بطريق العبارة دون الدلالة ودون القياس ، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول ، فيحتاج في تعميم الخطاب لغيرهم إلى دليل آخر وقيل إنها جعلت محاربة المسلمين محاربة لله ولرسوله إكباراً لحربهم وتعظيماً لأذيتهم ، لأن الله سبحانه لا يحارب ولا يغالب . والأولى أن تفسر محاربة الله سبحانه بمعاصيه ومخالفة شرائعه ، ومحاربة الرسول تحمل على معناها الحقيقي ، وحكم أمته حكمه وهم أسوته . والسعي في الأرض فساداً ، يطلق على أنواع من الشرّ كما قدمنا قريباً . قال ابن كثير في تفسيره قال كثير من السلف منهم سعيد ابن المسيب إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض ، وقد قال تعالى { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ } البقرة 205 . انتهى . إذا تقرر لك ما قررناه ، من عموم الآية ومن معنى المحاربة والسعي في الأرض فساداً ، فاعلم أن ذلك يصدق على كل من وقع منه ذلك ، سواء كان مسلماً أو كافراً ، في مصر وغير مصر ، في كل قليل وكثير ، وجليل وحقير ، وأن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية من القتل أو الصلب ، أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف ، أو النفي من الأرض ، ولكن لا يكون هذا حكم من فعل أيّ ذنب من الذنوب ، بل من كان ذنبه هو التعدّي على دماء العباد وأموالهم فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم في كتاب الله ، أو سنة رسوله كالسرقة وما يجب فيه القصاص ، لأنا نعلم أنه قد كان في زمنه صلى الله عليه وسلم من تقع منه ذنوب ومعاص غير ذلك ، ولا يجرى عليه صلى الله عليه وسلم هذا الحكم المذكور في هذه الآية ، وبهذا تعرف ضعف ما روى عن مجاهد في تفسير المحاربة المذكورة في هذه الآية أنها الزنا والسرقة ، ووجه ذلك أن هذين الذنبين قد ورد في كتاب الله ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لهما حكم غير هذا الحكم . وإذا عرفت ما هو الظاهر من معنى هذه الآية ، على مقتضى لغة العرب التي أمرنا بأن نفسر كتاب الله وسنة رسوله بها ، فإياك أن تغترّ بشيء من التفاصيل المروية ، والمذاهب المحكية ، إلا أن يأتيك الدليل الموجب لتخصيص هذا العموم أو تقييد هذا المعنى المفهوم من لغة العرب ، فأنت وذاك اعمل به ، وضعه في موضعه ، وأما ما عداه @ فدع عنك نهباً صيح في حجراته وهات حديثا ما حديث الرواحل @@ على أنا سنذكر من هذه المذاهب ما تسمعه . اعلم أنه قد اختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب ، ومجاهد وعطاء والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي والضحاك وأبو ثور إن من شهر السلاح في قبة الإسلام ، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله . وبهذا قال مالك ، وصرّح بأن المحارب عنده من حمل على الناس في مصر أو في بريّة ، أو كابرهم على أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا دخل ولا عداوة . قال ابن المنذر اختلف عن مالك في هذه المسألة ، فأثبت المحاربة في المصر مرّة ، ونفى ذلك مرة . وروي عن ابن عباس غير ما تقدّم ، فقال في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض . وروي عن أبي مجلز وسعيد ابن جبير ، وإبراهيم النخعي ، والحسن وقتادة والسديّ ، وعطاء ، على اختلاف في الرواية عن بعضهم ، وحكاه ابن كثير عن الجمهور . وقال أيضاً وهكذا عن غير واحد من السلف والأئمة . وقال أبو حنيفة إذا قتل قتل وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يديه ورجليه ، وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه . وقال أبو يوسف القتل يأتي على كل شيء ، ونحوه قول الأوزاعي . وقال الشافعي إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت ، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي ، لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة وإذا قتل قتل ، وإذا أخذ المال وقتل ، قتل وصلب . وروي عنه أنه قال يصلب ثلاثة أيام . وقال أحمد إن قتل قتل ، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله ، كقول الشافعي ، ولا أعلم لهذه التفاصيل دليلاً لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله ، إلا ما رواه ابن جرير في تفسيره ، وتفرّد بروايته ، فقال حدثنا عليّ بن سهل ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين ، وهم من بجيلة ، قال أنس فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل ، وأخافوا السبيل وأصابوا الفرج الحرام قال أنس فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب ، فقال من سرق وأخاف الطريق ، فاقطع يده لسرقته ورجله بإخافته ، ومن قتل ، فاقتله ومن قتل وأخاف السبيل واستحلّ الفرج الحرام ، فاصلبه . وهذا مع ما فيه من النكارة الشديدة ، لا يدري كيف صحته ؟ قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره لشيء من هذه التفاصيل الذي ذكرناها ما لفظه ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره إن صح سنده ثم ذكره . قوله { وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأرْضِ فَسَاداً } هو إما منتصب على المصدرية ، أو على أنه مفعول له ، أو على الحال بالتأويل أي مفسدين . قوله { أَوْ يُصَلَّبُواْ } ظاهره أنهم يصلبون أحياء حتى يموتوا ، لأنه أحد الأنواع التي خير الله بينها . وقال قوم الصلب إنما يكون بعد القتل ، ولا يجوز أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب . ويجاب بأن هذه عقوبة شرعها الله سبحانه في كتابه لعباده . قوله { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـٰفٍ } ظاهرة قطع إحدى اليدين وإحدى الرجلين من خلاف سواء كانت المقطوعة من اليدين هي اليمنى أو اليسرى ، وكذلك الرجلان ، ولا يعتبر إلا أن يكون القطع من خلاف ، إما يمنى اليدين مع يسرى الرجلين ، أو يسرى اليدين مع يمنى الرجلين وقيل المراد بهذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى فقط . قوله { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأرْضِ } اختلف المفسرون في معناه ، فقال السديّ هو أن يطلب بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه الحدّ ، أو يخرج من دار الإسلام هرباً . وهو محكيّ عن ابن عباس ، وأنس ومالك والحسن البصري ، والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس ، والزهري ، حكاه الرماني في كتابه عنهم . وحكى عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ويطلبون لتقام عليهم الحدود ، وبه قال الليث بن سعد . وروي عن مالك أنه ينفى من البلد الذي أحدث فيه إلى غيره ، ويحبس فيه كالزاني ، ورجحه ابن جرير والقرطبي . وقال الكوفيون نفيهم سجنهم ، فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها . والظاهر من الآية أنه يطرد من الأرض التي وقع منه فيها ما وقع ، من غير سجن ولا غيره . والنفي قد يقع بمعنى الإهلاك ، وليس هو مراداً هنا . قوله { ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ٱلدُّنْيَا } الإشارة إلى ما سبق ذكره من الأحكام ، والخزي الذل والفضيحة . قوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } استثنى الله سبحانه التائبين قبل القدرة عليهم من عموم المعاقبين بالعقوبات السابقة ، والظاهر عدم الفرق بين الدماء والأموال ، وبين غيرها من الذنوب الموجبة للعقوبات المعينة المحدودة ، فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك ، وعليه عمل الصحابة . وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يسقط القصاص وسائر حقوق الآدميين بالتوبة قبل القدرة ، والحق الأوّل . وأما التوبة بعد القدرة فلا تسقط بها العقوبة المذكورة في الآية ، كما يدل عليه ذكر قيد { قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } قال القرطبي وأجمع أهل العلم على أن السلطان وليّ من حارب ، فإن قتل محارب أخا امرىء أو أباه في حال المحاربة ، فليس إلى طالب الدم من أمر المحاربة شيء ، ولا يجوز عفو وليّ الدم . وقد أخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ } يقول من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلماً . وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قيل له في هذه الآية يعني قوله { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال إي والذي لا إله غيره . وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله { إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } قال نزلت في المشركين ، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل ، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحدّ إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله . وأخرج ابن جرير والطبراني في الكبير عنه في هذه الآية قال كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق ، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض ، فخير الله نبيه فيهم إن شاء قتل وإن شاء صلب ، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وأما النفي فهو الضرب في الأرض ، فإن جاء تائباً فدخل في الإسلام قبل منه ، ولم يؤخذ بما سلف . وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أن هذه الآية نزلت في الحرورية . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن نفراً من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلموا واجتووا المدينة ، فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة ، فيشربوا من أبوالها وألبانها ، فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة ، فأتي بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا ، فأنزل الله { إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَه } الآية . وفي مسلم عن أنس أنه قال إنما سمل النبيّ صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة . وأخرج الشافعي في الأم ، وعبد الرزاق والفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عن ابن عباس في الآية قال إذا خرج المحارب فأخذ المال ولم يقتل قطع من خلاف ، وإذا خرج فقتل ولم يأخذ المال قتل ، وإذا خرج وأخذ المال وقتل قتل وصلب ، وإذا خرج فأخاف السبيل ، ولم يأخذ المال ولم يقتل نفي . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال من شهر السلاح في قبة الإسلام ، وأفسد السبيل ، فظهر عليه وقدر ، فإمام المسلمين مخير فيه إن شاء قتله ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله ، قال { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأرْضِ } يهربوا ويخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب . وأخرج ابن جرير عنه قال نفيه أن يطلب . وأخرج أيضاً عن أنس نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الشعبي قال كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب ، فكلم رجالاً من قريش أن يستأمنوا له علياً ، فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني ، فأتى علياً فقال يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ؟ قال { أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـٰفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأرْضِ } ثم قال { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } فقال سعيد وإن كان حارثة بن بدر ، قال وإن كان حارثة بن بدر ، قال هذا حارثة بن بدر ، قد جاء تائباً فهو آمن ؟ قال نعم ، فجاء به إليه فبايعه ، وقبل ذلك منه وكتب له أماناً .