Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 64-66)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } اليد عند العرب تطلق على الجارحة ، ومنه قوله تعالى { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } صۤ 44 وعلى النعمة ، يقولون كم يد لي عند فلان وعلى القدرة . ومنه قوله تعالى { قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ } آل عمران 73 أو على التأييد ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " يد الله مع القاضي حين يقضي " وتطلق على معان أخر . وهذه الآية هي على طريق التمثيل كقوله تعالى { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } الإسراء 29 والعرب تطلق غلّ اليد على البخل ، وبسطها على الجود مجازاً ، ولا يريدون الجارحة كما يصفون البخيل بأنه جعد الأنامل ومقبوض الكفّ ، ومنه قول الشاعر @ كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح فاستبدلت بعده جعداً أنامله كأنما وجهه بالخل منضوح @@ فمراد اليهود هنا عليهم لعائنٍ الله أن الله بخيل ، فأجاب سبحانه عليهم بقوله { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } دعاء عليهم بالبخل ، فيكون الجواب عليهم مطابقاً لما أرادوه بقوله { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } ويجوز أن يراد غلّ أيديهم حقيقة بالأسر في الدنيا أو بالعذاب في الآخر ، ويقوّي المعنى الأوّل أن البخل قد لزم اليهود لزوم الظلّ للشمس ، فلا ترى يهودياً ، وإن كان ماله في غاية الكثرة ، إلا وهو من أبخل خلق الله ، وأيضاً المجاز أوفق بالمقام لمطابقته لما قبله . قوله { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } معطوف على ما قبله والباء سببية أي أبعدوا من رحمة الله بسبب قولهم { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } ، ثم رد سبحانه بقوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أي بل هو في غاية ما يكون من الجود ، وذكر اليدين مع كونهم لم يذكروا إلا اليد الواحدة مبالغة في الردّ عليهم بإثبات ما يدل على غاية السخاء ، فإن نسبة الجود إلى اليدين أبلغ من نسبته إلى اليد الواحدة ، وهذه الجملة الإضرابية معطوفة على جملة مقدّرة يقتضيها المقام أي كلا ليس الأمر كذلك { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وقيل المراد بقوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } نعمة الدنيا الظاهرة ونعمتها الباطنة . وقيل نعمة المطر والنبات . وقيل الثواب والعقاب . وحكى الأخفش عن ابن مسعود أنه قرأ « بل يداه بسيطتان » أي منطلقتان كيف يشاء . قوله { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } جملة مستأنفة مؤكدة لكمال جوده سبحانه أي إنفاقه على ما تقتضيه مشيئته ، فإن شاء وسع ، وإن شاء قتر ، فهو الباسط القابض فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة ، لا لشيء آخر ، فإن خزائن ملكه لا تفنى وموادّ جوده لا تتناهى . قوله { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم } إلخ ، اللام هي لام القسم أي ليزيدن كثيراً من اليهود والنصارى ما أنزل إليك من القرآن المشتمل على هذه الأحكام الحسنة { طُغْيَـٰناً وَكُفْراً } أي طغياناً إلى طغيانهم ، وكفراً إلى كفرهم . قوله { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ } أي بين اليهود { ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَاء } أو بين اليهود والنصارى . قوله { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ } أي كلما جمعوا للحرب جمعاً وأعدوا له عدّة شتت الله جمعهم ، وذهب بريحهم ، فلم يظفروا بطائل ولا عادوا بفائدة ، بل لا يحصلون من ذلك إلا على الغلب لهم ، وهكذا لا يزالون يهيجون الحروب ويجمعون عليها ، ثم يبطل الله ذلك ، والآية مشتملة على استعارة بليغة ، وأسلوب بديع { وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأرْضِ فَسَاداً } أي يجتهدون في فعل ما فيه فساد ، ومن أعظمه ما يريدونه من إبطال الإسلام وكيد أهله وقيل المراد بالنار هنا الغضب أي كلما أثاروا في أنفسهم غضباً أطفأه الله بما جعله من الرعب في صدورهم ، والذلة والمسكنة المضروبتين عليهم . قوله { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } إن كانت اللام للجنس ، فهم داخلون في ذلك دخولاً أوّلياً ، وإن كانت للعهد فوضع الظاهر موضع المضمر لبيان شدّة فسادهم ، وكونهم لا ينفكون عنه . قوله { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ } أي لو أن المتمسكين بالكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، على أن التعريف للجنس { ءامَنُواْ } الإيمان الذي طلبه الله منهم ، ومن أهمه الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما أمروا بذلك في كتب الله المنزلة عليهم { وَٱتَّقَوْاْ } المعاصي التي من أعظمها ما هم عليه من الشرك بالله ، والجحود لما جاء به رسول الله { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ } التي اقترفوها ، وإن كانت كثيرة متنوّعة . وقيل المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم ، { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإنجِيلَ } أي أقاموا ما فيهما من الأحكام التي من جملتها الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . قوله { وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ } من سائر كتب الله التي من جملتها القرآن ، فإنها كلها وإن نزلت على غيرهم ، فهي في حكم المنزلة عليهم لكونهم متعبدين بما فيها { لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } ذكر فوق وتحت للمبالغة في تيسر أسباب الرزق لهم وكثرتها ، وتعدد أنواعها . قوله { مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل هل جميعهم متصفون بالأوصاف السابقة ، أو البعض منهم دون البعض ، والمقتصدون منهم هم المؤمنون كعبد الله بن سلام ، ومن تبعه ، وطائفة من النصارى { وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ } وهم المصرّون على الكفر المتمرّدون عن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بما جاء به . وقد أخرج ابن إسحاق ، والطبراني في الكبير ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس إن ربك بخيل لا ينفق ، فأنزل الله { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } الآية . وأخرج أبو الشيخ عنه أنها نزلت في فنحاص اليهودي . وأخرج مثله ابن جرير عن عكرمة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } أي بخيلة . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـٰناً وَكُفْراً } قال حملهم حسد محمد والعرب على أن تركوا القرآن ، وكفروا بمحمد ودينه ، وهم يجدونه مكتوباً عندهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ } قال حرب محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السديّ في الآية كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرّقه الله ، وأطفأ حدهم ونارهم ، وقذف في قلوبهم الرعب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ } قال آمنوا بما أنزل على محمد ، واتقوا ما حرّم الله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإنجِيلَ } قال العمل بهما ، وأما { ما أنزل إليهم } ، فمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل عليه ، وأما { لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } فأرسلت عليهم مطراً ، وأما { مِن تَحْتِ أَرْجُلُهُمْ } يقول أنبت لهم من الأرض من رزقي ما يغنيهم ، { مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } وهم مسلمة أهل الكتاب . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } يعني لأرسل عليهم السماء مدراراً { وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } قال تخرج الأرض من بركتها . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن الربيع بن أنس قال الأمة المقتصدة الذين لا هم فسقوا في الدين ولا هم غلوا . قال والغلوّ الرغبة ، والفسق التقصير عنه . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ { أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } يقول مؤمنة . وأخرج ابن مردويه قال حدّثنا عبد الله بن جعفر ، حدّثنا أحمد بن يونس الضبي ، حدثنا عاصم بن عليّ ، حدّثنا أبو معشر عن يعقوب بن زيد بن طلحة ، عن زيد بن أسلم ، عن أنس بن مالك قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثاً ، قال ثم حدّثهم النبيّ صلى الله عليه وسلم قال " تفرقت أمة موسى على اثنتين وسبعين ملة ، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار وتفرّقت أمة عيسى على اثنتين وسبعين ملة ، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار ، تعلوا أمتي على الفريقين جميعاً ملة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون منها في النار " ، قالوا من هم يا رسول الله ؟ قال " الجماعات الجماعات " قال يعقوب بن زيد كان عليّ بن أبي طالب إذا حدّث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا فيه قرآناً ، قال { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ } إلى قوله { مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ } وتلا أيضاً { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } الأعراف 181 يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره لهذا الحديث ما لفظه وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين ، مرويّ من طرق عديدة قد ذكرناها في موضع آخر انتهى . قلت أما زيادة كونها في النار إلا واحدة ، فقد ضعفها جماعة من المحدثين ، بل قال ابن حزم إنها موضوعة .