Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 53, Ayat: 43-62)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } أي هو الخالق لذلك والقاضي بسببه . قال الحسن ، والكلبي أضحك أهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار . وقال الضحاك أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر ، وقيل أضحك من شاء في الدنيا بأن سرّه ، وأبكى من شاء بأن غمه . وقال سهل بن عبد الله أضحك المطيعين بالرحمة ، وأبكى العاصين بالسخط { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أي قضى أسباب الموت والحياة ، ولا يقدر على ذلك غيره ، وقيل خلق نفس الموت والحياة ، كما في قوله { خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ } الملك 2 وقيل أمات الآباء ، وأحيا الأبناء ، وقيل أمات في الدنيا وأحيا للبعث ، وقيل المراد بهما النوم واليقظة . وقال عطاء أمات بعدله وأحيا بفضله ، وقيل أمات الكافر وأحيا المؤمن ، كما في قوله { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ } الأنعام 122 . { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأنثَىٰ * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } المراد بالزوجين الذكر والأنثى من كل حيوان ، ولا يدخل في ذلك آدم وحوّاء ، فإنهما لم يخلقا من النطفة ، والنطفة الماء القليل ، ومعنى { إِذَا تُمْنَىٰ } إذ تصبّ في الرحم وتدفق فيه ، كذا قال الكلبي ، والضحاك ، وعطاء بن أبي رباح ، وغيرهم ، يقال مني الرجل وأمنى ، أي صب المنيّ . وقال أبو عبيدة { إِذَا تُمْنَىٰ } إذا تقدّر ، يقال منيت الشيء إذا قدّرته ومني له ، أي قدر له ، ومنه قول الشاعر @ حَتَّى تلاقي ما يمْني لَكَ الماني @@ والمعنى أنه يقدّر منها الولد . { وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأخْرَىٰ } أي إعادة الأرواح إلى الأجسام عند البعث وفاء بوعده . قرأ الجمهور { النشأة } بالقصر بوزن الضربة ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالمدّ بوزن الكفالة ، وهما على القراءتين مصدران . { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } أي أغنى من شاء وأفقر من شاء ، ومثله قوله { يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ } الرعد 26 وقوله " يَقْبِضُ ويبسط " البقرة 245 قاله ابن زيد ، واختاره ابن جرير . وقال مجاهد ، وقتادة ، والحسن أغنى موّل ، وأقنى أخدم ، وقيل معنى أقنى أعطى القنية ، وهي ما يتأثل من الأموال . وقيل معنى أقنى أرضى بما أعطى ، أي أغناه ثم رضاه بما أعطاه . قال الجوهري قنّى الرجل قنًى ، مثل غنّى غنًى ، أي أعطاه ما يقتني ، وأقناه أرضاه ، والقنى الرضى . قال أبو زيد تقول العرب من أعطى مائة من البقر فقد أعطى القنى ، ومن أعطى مائة من الضأن فقد أعطى الغنى ، ومن أعطى مائة من الإبل فقد أعطى المنى . قال الأخفش ، وابن كيسان أقنى أفقر ، وهو يؤيد القول الأوّل . { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشّعْرَىٰ } هي كوكب خلف الجوزاء كانت خزاعة تعبدها ، والمراد بها الشعرى التي يقال لها العبور ، وهي أشدّ ضياء من الشعرى التي يقال لها الغميصاء ، وإنما ذكر سبحانه أنه ربّ الشعرى مع كونه رباً لكلّ الأشياء للردّ على من كان يعبدها ، وأوّل من عبدها أبو كبشة ، وكان من أشراف العرب ، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة تشبيهاً له به لمخالفته دينهم ، كما خالفهم أبو كبشة ، ومن ذلك قول أبي سفيان يوم الفتح لقد أمر أمْر ابن أبي كبشة . { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأولَىٰ } وصف عاداً بالأولى لكونهم كانوا من قبل ثمود . قال ابن زيد قيل لها عاداً الأولى ، لأنهم أوّل أمة أهلكت بعد نوح . وقال ابن إسحاق هما عادان ، فالأولى أهلكت بالصرصر ، والأخرى أهلكت بالصيحة . وقيل عاد الأولى قوم هود ، وعاد الأخرى إرم . قرأ الجمهور { عاداً الأولى } بالتنوين والهمز ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن محيصن بنقل حركة الهمزة على اللام ، وإدغام التنوين فيها . { وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَىٰ } أي أهلك ثموداً كما أهلك عاداً ، فما أبقى أحداً من الفريقين ، وثمود هم قوم صالح أهلكوا بالصيحة ، وقد تقدّم الكلام على عاد ، وثمود في غير موضع . { وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ } أي وأهلك قوم نوح من قبل إهلاك عاد وثمود { إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ } أي أظلم من عاد وثمود وأطغى منهم ، أو أظلم وأطغى من جميع الفرق الكفرية ، أو أظلم وأطغى من مشركي العرب ، وإنما كانوا كذلك ، لأنهم عتوا على الله بالمعاصي مع طول مدة دعوة نوح لهم ، كما في قوله { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } العنكبوت 14 { وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ } الائتفاك الانقلاب ، والمؤتفكة مدائن قوم لوط ، وسميت المؤتفكة لأنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها ، تقول أفكته إذا قلبته ، ومعنى أهوى أسقط ، أي أهواها جبريل بعد أن رفعها . قال المبرد جعلها تهوي . { فَغَشَّـٰهَا مَا غَشَّىٰ } أي ألبسها ما ألبسها من الحجارة التي وقعت عليها ، كما في قوله { فَجَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ } الحجر 74 وفي هذه العبارة تهويل للأمر الذي غشاها به ، وتعظيم له ، وقيل إن الضمير راجع إلى جميع الأمم المذكورة ، أي فغشاها من العذاب ما غشّى على اختلاف أنواعه . { فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَىٰ } هذا خطاب للإنسان المكذب ، أي فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب تشكك وتمتري ، وقيل الخطاب لرسول الله تعريضاً لغيره ، وقيل لكلّ من يصلح له ، وإسناد فعل التماري إلى الواحد باعتبار تعدّده بحسب تعدد متعلقه ، وسمى هذه الأمور المذكورة آلاء ، أي نعماً مع كون بعضها نقماً لا نعماً لأنها مشتملة على العبر والمواعظ ، ولكون فيها انتقام من العصاة ، وفي ذلك نصرة للأنبياء والصالحين . قرأ الجمهور { تتمارى } من غير إدغام ، وقرأ يعقوب ، وابن محيصن بإدغام إحدى التاءين في الأخرى . { هَـٰذَا نَذِيرٌ مّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلاْوْلَىٰ } أي هذا محمد رسول إليكم من الرسل المتقدّمين قبله ، فإنه أنذركم ، كما أنذروا قومهم ، كذا قال ابن جريج ، ومحمد بن كعب ، وغيرهما . وقال قتادة يريد القرآن ، وأنه أنذر بما أنذرت به الكتب الأولى ، وقيل هذا الذي أخبرنا به عن أخبار الأمم تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك ، كذا قال أبو مالك . وقال أبو صالح إن الإشارة بقوله { هَـٰذَا } إلى ما في صحف موسى ، وإبراهيم ، والأوّل أولى . { أَزِفَتِ ٱلازِفَةُ } أي قربت الساعة ودنت ، سماها آزفة لقرب قيامها ، وقيل لدنوّها من الناس ، كما في قوله { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } القمر 1 أخبرهم بذلك ليستعدّوا لها . قال في الصحاح أزفت الآزفة يعني القيامة ، وأزف الرجل عجل ، ومنه قول الشاعر @ أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد @@ { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ } أي ليس لها نفس قادرة على كشفها عند وقوعها إلاّ الله سبحانه ، وقيل كاشفة بمعنى انكشاف ، والهاء فيها كالهاء في العاقبة والداهية ، وقيل كاشفة بمعنى كاشف ، والهاء للمبالغة كرواية ، والأوّل أولى . وكاشفة صفة لموصوف محذوف ، كما ذكرنا ، والمعنى أنه لا يقدر على كشفها إذا غشت الخلق بشدائدها ، وأهوالها أحد غير الله ، كذا قال عطاء ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم . ثم وبّخهم سبحانه ، فقال { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } المراد بالحديث القرآن ، أي كيف تعجبون منه تكذيباً { وَتَضْحَكُونَ } منه استهزاءً مع كونه غير محلّ للتكذيب ، ولا موضع للاستهزاء { وَلاَ تَبْكُونَ } خوفاً وانزجاراً لما فيه من الوعيد الشديد ، وجملة { وَأَنتُمْ سَـٰمِدُونَ } في محل نصب على الحال ، ويجوز أن تكون مستأنفة لتقرير ما فيها ، والسمود الغفلة والسهو عن الشيء ، وقال في الصحاح سمد سموداً . رفع رأسه تكبراً ، فهو سامد ، قال الشاعر @ سوامد الليل خفاف الأزواد @@ وقال ابن الأعرابي السمود اللهو ، والسامد اللاهي ، يقال للقينة أسمدينا ، أي ألهينا بالغناء ، وقال المبرد سامدون ، خامدون . قال الشاعر @ رمى الحدثان نسوة آل عمرو بمقدار سمدن له سمودا فردّ شعورهنّ السود بيضا وردّ وجوههنّ البيض سودا @@ { فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ } لما وبّخ سبحانه المشركين على الاستهزاء بالقرآن ، والضحك منه ، والسخرية به ، وعدم الانتفاع بمواعظه وزواجره ، أمر عباده المؤمنين بالسجود لله ، والعبادة له ، والفاء جواب شرط محذوف ، أي إذا كان الأمر من الكفار كذلك ، فاسجدوا لله واعبدوا ، فإنه المستحق لذلك منكم ، وقد تقدم في فاتحة السورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد عند تلاوة هذه الآية ، وسجد معه الكفار ، فيكون المراد بها سجود التلاوة ، وقيل سجود الفرض . وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } قال أعطى وأرضى . وأخرج ابن جرير عنه { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشّعْرَىٰ } قال هو الكوكب الذي يدعى الشعرى . وأخرج الفاكهي عنه أيضاً قال نزلت هذه الآية في خزاعة ، وكانوا يعبدون الشعرى ، وهو الكوكب الذي يتبع الجوزاء . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله { هَـٰذَا نَذِيرٌ مّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأوْلَىٰ } قال محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال الآزفة من أسماء القيامة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن صالح أبي الخليل قال لما نزلت هذه الآية { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } فما ضحك النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلاّ أن يتبسم . ولفظ عبد بن حميد فما رؤي النبيّ صلى الله عليه وسلم ضاحكاً ، ولا متبسماً حتى ذهب من الدنيا . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { سَـٰمِدُونَ } قال لاهون معرضون عنه . وأخرج الفريابي ، وأبو عبيد في فضائله ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عنه { وَأَنتُمْ سَـٰمِدُونَ } قال الغناء باليمانية ، كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا . وأخرج الفريابي ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أيضاً في قوله { سَـٰمِدُونَ } قال كانوا يمرّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم شامخين ، ألم تر إلى البعير كيف يخطر شامخاً . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن أبي خالد الوالبي قال خرج عليّ بن أبي طالب علينا ، وقد أقيمت الصلاة ، ونحن قيام ننتظره ليتقدّم ، فقال ما لكم سامدون ، لا أنتم في صلاة ولا أنتم في جلوس تنتظرون ؟