Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 58, Ayat: 14-22)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً } أي والوهم . قال قتادة هم المنافقون تولوا اليهود . وقال السديّ ، ومقاتل هم اليهود تولوا المنافقين ، ويدلّ على الأوّل قوله { غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } فإن المغضوب عليهم هم اليهود ، ويدلّ على الثاني قوله { مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } فإن هذه صفة المنافقين ، كما قال الله فيهم { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء } النساء 143 وجملة { مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } في محل نصب على الحال ، أو هي مستأنفة { وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ } أي يحلفون أنهم مسلمون ، أو يحلفون أنهم ما نقلوا الأخبار إلى اليهود ، والجملة عطف على تولوا داخلة في حكم التعجيب من فعلهم ، وجملة { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } في محل نصب على الحال ، أي والحال أنهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه ، وأنه كذب لا حقيقة له . { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } بسبب هذا التولي والحلف على الباطل { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الأعمال القبيحة { ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً } قرأ الجمهور { أيمانهم } بفتح الهمزة جمع يمين ، وهي ما كانوا يحلفون عليه من الكذب بأنهم من المسلمين توقياً من القتل ، فجعلوا هذه الأيمان وقاية وسترة دون دمائهم ، كما يجعل المقاتل الجنة وقاية له من أن يصاب بسيف أو رمح أو سهم . وقرأ الحسن ، وأبو العالية إيمانهم بكسر الهمزة أي جعلوها تصديقهم جنة من القتل ، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل ، ولم تؤمن قلوبهم { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التثبيط ، وتهوين أمر المسلمين ، وتضعيف شوكتهم ، وقيل المعنى فصدّوا المسلمين عن قتالهم بسبب إظهارهم للإسلام { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي يهينهم ويخزيهم ، قيل هو تكرير لقوله { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } للتأكيد ، وقيل الأوّل عذاب القبر ، وهذا عذاب الآخرة ، ولا وجه للقول بالتكرار ، فإن العذاب الموصوف بالشدّة غير العذاب الموصوف بالإهانة . { لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلـٰدُهُم مّنَ ٱللَّهِ شَيْئًا } أي لن تغني عنهم من عذابه شيئًا من الإغناء . قال مقاتل قال المنافقون إن محمداً يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذن ، فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا ، وأموالنا ، وأولادنا إن كان قيامة ، فنزلت الآية { أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بما ذكر { أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ } لا يفارقونها { هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } لا يخرجون منها { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهِ جَمِيعاً } الظرف منصوب بقوله { مُّهِينٌ } ، أو بمقدّر ، أي اذكر { فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } أي يحلفون لله يوم القيامة على الكذب كما يحلفون لكم في الدنيا ، وهذا من شدّة شقاوتهم ومزيد الطبع على قلوبهم ، فإن يوم القيامة قد انكشفت الحقائق وصارت الأمور معلومة بضرورة المشاهدة ، فكيف يجترئون على أن يكذبوا في ذلك الموقف ويحلفون على الكذب { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَىْء } أي يحسبون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما يجلب نفعاً ، أو يدفع ضرراً ، كما كانوا يحسبون ذلك في الدنيا { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ } أي الكاملون في الكذب المتهالكون عليه البالغون فيه إلى حدّ لم يبلغ غيرهم إليه بإقدامهم عليه ، وعلى الأيمان الفاجرة في موقف القيامة بين يدي الرحمٰن . { ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ } أي غلب عليهم واستعلى واستولى . قال المبرّد استحوذ على الشيء حواه وأحاط به ، وقيل قوي عليهم ، وقيل جمعهم ، يقال أحوذ الشيء ، أي جمعه وضمّ بعضه إلى بعض ، والمعاني متقاربة لأنه إذا جمعهم فقد قوي عليهم وغلبهم واستعلى عليهم واستولى ، وأحاط بهم { فَأَنسَـٰهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ } أي أوامره والعمل بطاعاته ، فلم يذكروا شيئًا من ذلك ، وقيل زواجره في النهي عن معاصيه ، وقيل لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم ، والإشارة بقوله { أُوْلَـٰئِكَ } إلى المذكورين الموصوفين بتلك الصفات ، وهو مبتدأ ، وخبره { حِزْبُ الشَّيْطَـٰنِ } أي جنوده ، وأتباعه ، ورهطه { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـٰنِ هُمُ الخَـٰسِرُونَ } أي الكاملون في الخسران حتى كأن خسران غيرهم بالنسبة إلى خسرانهم ليس بخسران لأنهم باعوا الجنة والهدى بالضلالة ، وكذبوا على الله وعلى نبيه ، وحلفوا الأيمان الفاجرة في الدنيا والآخرة { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَادُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } تقدّم معنى المحادّة لله ولرسوله في أوّل هذه السورة ، والجملة تعليل لما قبلها { أُوْلَـئِكَ فِى ٱلأذَلّينَ } أي أولئك المحادّون لله ورسوله ، المتصفون بتلك الصفات المتقدّمة من جملة من أذله الله من الأمم السابقة واللاحقة لأنهم لما حادّوا الله ورسوله صاروا من الذلّ بهذا المكان . قال عطاء يريد الذلّ في الدنيا ، والخزي في الآخرة . { كَتَبَ ٱللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها مع كونهم في الأذلين ، أي كتب في اللوح المحفوظ ، وقضى في سابق علمه لأغلبنّ أنا ورسلي بالحجة والسيف . قال الزجاج معنى غلبة الرسل على نوعين من بعث منهم بالحرب ، فهو غالب في الحرب ، ومن بعث منهم بغير الحرب ، فهو غالب بالحجة . قال الفراء كتب بمعنى قال ، وقوله { أَنَاْ } توكيد ، ثم ذكر مثل قول الزجاج . { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ } فهو قويّ على نصر أوليائه غالب لأعدائه لا يغلبه أحد . { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح له أي يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وشاقهما ، وجملة { يُوَادُّونَ } في محل نصب على أنها المفعول الثاني لتجد إن كان متعدّياً إلى مفعولين ، أو في محل نصب على الحال إن كان متعدّياً إلى مفعول واحد ، أو صفة أخرى لـ { قوماً } ، أي جامعون بين الإيمان والموادّة لمن حادّ الله ورسوله { وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } أي ولو كان المحادّون لله ورسوله آباء الموادّين ، إلخ ، فإن الإيمان يزجر عن ذلك ، ويمنع منه ، ورعايته أقوى من رعاية الأبوّة والبنوّة والأخوّة والعشيرة { أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإيمَـٰنَ } يعني الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله ، ومعنى { كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإيمَـٰنَ } خلقه ، وقيل أثبته ، وقيل جعله ، وقيل جمعه ، والمعاني متقاربة { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ } قوّاهم بنصر منه على عدوّهم في الدنيا ، وسمى نصره لهم روحاً لأن به يحيا أمرهم ، وقيل هو نور القلب . وقال الربيع بن أنس بالقرآن والحجة ، وقيل بجبريل ، وقيل بالإيمان ، وقيل برحمة . قرأ الجمهور { كتب } مبنياً للفاعل ، ونصب الإيمان على المفعولية . وقرأ زرّ بن حبيش ، والمفضل عن عاصم على البناء للمفعول ، ورفع الإيمان على النيابة . وقرأ زرّ بن حبيش عشيراتهم بالجمع ، ورويت هذه القراءة عن عاصم { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا } على الأبد { رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ } أي قبل أعمالهم ، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة { وَرَضُواْ عَنْهُ } أي فرحوا بما أعطاهم عاجلاً وآجلاً { أُوْلَـئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ } أي جنده الذين يمتثلون أوامره ، ويقاتلون أعداءه ، وينصرون أولياءه ، وفي إضافتهم إلى الله سبحانه تشريف لهم عظيم ، وتكريم فخيم { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة ، الكاملون في الفلاح الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل ، حتى كان فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم كلا فلاح . وقد أخرج أحمد ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظلّ حجرة من حجره ، وعنده نفر من المسلمين ، فقال " إنه سيأتيكم إنسان ، فينظر إليكم بعين شيطان ، فإذا جاءكم ، فلا تكلموه " ، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق ، فقال حين رآه " علام تشتمني أنت وأصحابك " ؟ فقال ذرني آتيك بهم ، فحلفوا ، واعتذروا ، فأنزل الله { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } الآية والتي بعدها . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في سننه عن عبد الله بن شوذب قال جعل والد أبي عبيدة بن الجرّاح يتقصد لأبي عبيدة يوم بدر ، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر قصده أبو عبيدة ، فقتله ، فنزلت { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } الآية .