Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 58, Ayat: 11-13)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى ٱلْمَجَـٰلِسِ } يقال فسح له يفسح فسحاً أي وسع له ، ومنه قولهم بلد فسيح . أمر الله سبحانه بحسن الأدب مع بعضهم بعضاً بالتوسعة في المجلس ، وعدم التضايق فيه . قال قتادة ، ومجاهد ، والضحاك كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض . وقال الحسن ، ويزيد بن أبي حبيب هو مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب كانوا يتشاحون على الصفّ الأوّل ، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال لتحصيل الشهادة { فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ } أي فوسعوا يوسع الله لكم في الجنة ، أو في كلّ ما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق وغيرهما . قرأ الجمهور { تفسحوا في المجلس } وقرأ السلمي ، وزرّ بن حبيش ، وعاصم في المجالس على الجمع لأن لكلّ واحد منهم مجلساً ، وقرأ قتادة ، والحسن ، وداود بن أبي هند ، وعيسى بن عمر تفاسحوا قال الواحدي والوجه التوحيد في المجلس لأنه يعني به مجلس النبيّ . وقال القرطبي الصحيح في الآية أنها عامة في كلّ مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر ، سواء كان مجلس حرب ، أو ذكر ، أو يوم الجمعة ، وأن كلّ واحد أحقّ بمكانه الذي سبق إليه ، ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذّ بذلك ، فيخرجه الضيق عن موضعه ، ويؤيد هذا حديث ابن عمر عند البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ، ثم يجلس فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا " { وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ } قرأ الجمهور بكسر الشين فيها ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم بضمها فيهما ، وهما لغتان بمعنى واحد ، يقال نشز ، أي ارتفع ، ينشز وينشز كعكف يعكف ويعكف ، والمعنى إذا قيل لكم انهضوا ، فانهضوا . قال جمهور المفسرين أي انهضوا إلى الصلاة ، والجهاد ، وعمل الخير . وقال مجاهد ، والضحاك ، وعكرمة كان رجال يتثاقلون عن الصلاة ، فقيل لهم إذا نودي للصلاة ، فانهضوا . وقال الحسن انهضوا إلى الحرب . وقال ابن زيد هذا في بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال الله تعالى { وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ } عن النبيّ { فَانشُزُواْ } فإن له حوائج ، فلا تمكثوا . وقال قتادة المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف ، والظاهر حمل الآية على العموم والمعنى إذا قيل لكم انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية ، فانهضوا ولا تتثاقلوا ، ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصاً ، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما هو الحق ، ويندرج ما هو سبب النزول فيها اندراجاً أوّلياً ، وهكذا يندرج ما فيه السياق ، وهو التفسيح في المجلس اندراجاً أوّلياً ، وقد قدّمنا أن معنى نشز ارتفع ، وهكذا يقال نشز ينشز إذا تنحى عن موضعه ، ومنه امرأة ناشز ، أي متنحية عن زوجها ، وأصله مأخوذ من النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض وتنحى ، ذكر معناه النحاس { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ } في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما { وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَـٰتٍ } أي ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا ، والثواب في الآخرة ، ومعنى الآية أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات ، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات ، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ، ثم رفعه بعلمه درجات ، وقيل المراد بالذين آمنوا من الصحابة ، وكذلك الذين أوتوا العلم ، وقيل المراد بالذين أوتوا العلم الذين قرءوا القرآن . والأولى حمل الآية على العموم في كل مؤمن ، وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملة ، ولا دليل يدلّ على تخصيص الآية بالبعض دون البعض ، وفي هذه الآية فضيلة عظيمة للعلم وأهله ، وقد دلّ على فضله وفضلهم آيات قرآنية وأحاديث نبوية { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } لا يخفى عليه شيء من أعمالكم من خير وشرّ ، فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشرّ شراً . { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَـٰجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوٰكُمْ صَدَقَةً } المناجاة المساررة ، والمعنى إذا أردتم مساررة الرسول في أمر من أموركم ، فقدّموا بين يدي مساررتكم له صدقة . قال الحسن نزلت بسبب أن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون النبيّ صلى الله عليه وسلم يناجونه ، فظنّ بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى ، فشقّ عليهم ذلك ، فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى لتقطعهم عن استخلائه . وقال زيد بن أسلم نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويقولون إنه أذن يسمع كل ما قيل له ، وكان لا يمنع أحداً من مناجاته ، وكان ذلك يشقّ على المسلمين لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله ، فأنزل الله { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ ٱلرَّسُولِ } ، فلم ينتهوا ، فأنزل الله هذه الآية ، فانتهى أهل الباطل عن النجوى لأنهم لم يقدّموا بين يدي نجواهم صدقة ، وشقّ ذلك على أهل الإيمان ، وامتنعوا عن النجوى لضعف كثير منهم عن الصدقة ، فخفف الله عنهم بالآية التي بعد هذه ، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى ما تقدّم من تقديم الصدقة بين يدي النجوى ، وهو مبتدأ وخبره { خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } لما فيه من طاعة الله ، وتقييد الأمر بكون امتثاله خيراً لهم من عدم الامتثال ، وأطهر لنفوسهم يدل على أنه أمر ندب لا أمر وجوب { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يعني من كان منهم لا يجد تلك الصدقة المأمور بها بين يدي النجوى ، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة . { أَءشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوٰكُمْ صَدَقَـٰتٍ } أي أخفتم الفقر والعيلة لأن تقدّموا ذلك ، والإشفاق الخوف من المكروه ، والاستفهام للتقرير . وقيل المعنى أبخلتم ، وجمع الصدقات هنا باعتبار المخاطبين . قال مقاتل بن حيان إنما كان ذلك عشر ليالٍ ، ثم نسخ . وقال الكلبي ما كان ذلك إلاّ ليلة واحدة . وقال قتادة ما كان إلاّ ساعة من النهار { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } ما أمرتم به من الصدقة بين يدي النجوى ، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ، ولم يفعل ، وأما من لم يجد ، فقد تقدّم الترخيص له بقوله { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } { وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } بأن رخص لكم في الترك ، « وإذ » على بابها في الدلالة على المضيّ ، وقيل هي بمعنى إذا ، وقيل بمعنى إن ، وتاب معطوف على لم تفعلوا ، أي وإذا لم تفعلوا ، وإذ تاب عليكم { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } والمعنى إذا وقع منكم التثاقل عن امتثال الأمر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى ، فاثبتوا على إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الله ورسوله ، فيما تؤمرون به وتنهون عنه { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } لا يخفى عليه من ذلك شيء ، فهو مجازيكم ، وليس في الآية ما يدلّ على تقصير المؤمنين في امتثال هذا الأمر ، أما الفقراء منهم ، فالأمر واضح ، وأما من عداهم من المؤمنين ، فإنهم لم يكلفوا بالمناجاة حتى تجب عليهم الصدقة بل أمروا بالصدقة إذا أرادوا المناجاة فمن ترك المناجاة ، فلا يكون مقصراً في امتثال الأمر بالصدقة ، على أن في الآية ما يدل على أن الأمر للندب ، كما قدّمنا . وقد استدلّ بهذه الآية من قال بأنه يجوز النسخ قبل إمكان الفعل ، وليس هذا الاستدلال بصحيح ، فإن النسخ لم يقع إلاّ بعد إمكان الفعل ، وأيضاً قد فعل ذلك البعض ، فتصدّق بين يدي نجواه ، كما سيأتي . وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال أنزلت هذه الآية { إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى ٱلْمَجَـٰلِسِ } يوم جمعة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ في الصفة ، وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر ، وقد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته ، فردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك ، فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبيّ ما يحملهم على القيام ، فلم يفسح لهم ، فشق ذلك عليه ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر « قم يا فلان ، وأنت يا فلان » ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام من أهل بدر ، فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، فنزلت هذه الآية . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال ذلك في مجلس القتال { وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ } قال إلى الخير والصلاة . وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في المدخل عن ابن عباس في قوله { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَـٰتٍ } قال يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤمنوا درجات . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في تفسير هذه الآية قال يرفع الله الذين آمنوا منكم ، وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات . وأخرج ابن المنذر عنه قال ما خصّ الله العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية ، فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { إِذَا نَـٰجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ } الآية ، قال إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما قال ذلك ظنّ كثير من الناس ، وكفوا عن المسئلة ، فأنزل الله بعد هذا { أَءشْفَقْتُمْ } الآية ، فوسع الله عليهم ولم يضيق . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والنحاس ، وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال لما نزلت { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَـٰجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوٰكُمْ صَدَقَةً } قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم " ما ترى ، دينار ؟ " قلت لا يطيقونه . قال " فنصف دينار ؟ " قلت لا يطيقونه ، قال ، " فكم ؟ " قلت شعيرة ، قال " إنك لزهيد " ، قال فنزلت { أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوٰكُمْ صَدَقَـٰتٍ } الآية ، فبي خفف الله عن هذه الآمة ، والمراد بالشعيرة هنا وزن شعيرة من ذهب ، وليس المراد واحدة من حبّ الشعير . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه قال ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت ، وما كانت إلاّ ساعة ، يعني آية النجوى . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن راهويه ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه أيضاً قال إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، آية النجوى { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَـٰجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوٰكُمْ صَدَقَةً } كان عندي دينار ، فبعته بعشرة دراهم ، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّمت بين يدي نجواي درهماً ، ثم نسخت ، فلم يعمل بها أحد ، فنزلت { أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوٰكُمْ صَدَقَـٰتٍ } الآية . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه . قال السيوطي بسندٍ ضعيف عن سعد بن أبي وقاص قال نزلت { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَـٰجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوٰكُمْ صَدَقَةً } ، فقدمت شعيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنك لزهيد " ، فنزلت الآية الأخرى { أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوٰكُمْ صَدَقَـٰتٍ } .