Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 59, Ayat: 11-20)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما فرغ سبحانه من ذكر الطبقات الثلاث من المؤمنين ، ذكر ما جرى بين المنافقين واليهود من المقاولة لتعجيب المؤمنين من حالهم ، فقال { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَـٰفَقُواْ } والخطاب لرسول الله ، أو لكل من يصلح له ، والذين نافقوا هم عبد الله بن أبيّ ، وأصحابه ، وجملة { يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } مستأنفة لبيان المتعجب منه ، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة ، أو للدلالة على الاستمرار ، وجعلهم إخواناً لهم لكون الكفر قد جمعهم ، وإن اختلف نوع كفرهم ، فهم إخوان في الكفر ، واللام في { لإخوانهم } هي لام التبليغ ، وقيل هو من قول بني النضير لبني قريظة ، والأوّل أولى لأن بني النضير ، وبني قريظة هم يهود ، والمنافقون غيرهم ، واللام في قوله { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ } هي الموطئة للقسم ، أي والله لئن أخرجتم من دياركم { لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ } هذا جواب القسم ، أي لنخرجن من ديارنا في صحبتكم { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ } أي في شأنكم ، ومن أجلكم { أَحَدًا } ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم ، وإن طال الزمان ، وهو معنى قوله { أَبَدًا } . ثم لما وعدوهم بالخروج معهم ، وعدوهم بالنصرة لهم ، فقالوا { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ لا ينصرونهم } على عدوّكم . ثم كذبهم سبحانه فقال { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } فيما وعدوهم به من الخروج معهم والنصرة لهم . ثم لما أجمل كذبهم فيما وعدوا به فصّل ما كذبوا فيه فقال { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ } وقد كان الأمر كذلك ، فإن المنافقين لم يخرجوا مع من أخرج من اليهود ، وهم بنو النضير ومن معهم ، ولم ينصروا من قوتل من اليهود ، وهم بنو قريظة وأهل خيبر { وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ } أي لو قدِّر وجود نصرهم إياهم لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده . قال الزجاج معناه لو قصدوا نصر اليهود { لَيُوَلُّنَّ ٱلاْدْبَـٰرَ } منهزمين { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } يعني اليهود لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصرهم ، وهم المنافقون ، وقيل يعني لا يصير المنافقون منصورين بعد ذلك ، بل يذلهم الله ، ولا ينفعهم نفاقهم ، وقيل معنى الآية لا ينصرونهم طائعين ، ولئن نصروهم مكرهين ليولنّ الأدبار ، وقيل معنى { لاَ يَنصُرُونَهُمْ } لا يدومون على نصرهم ، والأوّل أولى ، ويكون من باب قوله { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَـٰدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } الأنعام 28 . { لاَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مّنَ ٱللَّهِ } أي لأنتم يا معاشر المسلمين أشدّ خوفاً وخشية في صدور المنافقين ، أو صدور اليهود ، أو صدور الجميع من الله ، أي من رهبة الله ، والرهبة هنا بمعنى المرهوبية لأنها مصدر من المبني للمفعول ، وانتصابها على التمييز { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } أي ما ذكر من الرهبة الموصوفة بسبب عدم فقههم لشيء من الأشياء ، ولو كان لهم فقه لعلموا أن الله سبحانه هو الذي سلطكم عليهم ، فهو أحقّ بالرهبة منه دونكم . ثم أخبر سبحانه بمزيد فشلهم ، وضعف نكايتهم فقال { لاَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ جَمِيعاً } يعني لا يبرز اليهود والمنافقون مجتمعين لقتالكم ولا يقدرون على ذلك { إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } بالدروب والدور { أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ } أي من خلف الحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم . قرأ الجمهور { جدر } بالجمع ، وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وابن محيصن ، وابن كثير ، وأبو عمرو { جدار } بالإفراد . واختار القراءة الأولى أبو عبيد ، وأبو حاتم لأنها موافقة لقوله { قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } . وقرأ بعض المكيين { جدر } بفتح الجيم ، وإسكان الدال ، وهي لغة في الجدار { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } أي بعضهم غليظ فظ على بعض ، وقلوبهم مختلفة ، ونياتهم متباينة . قال السديّ المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد . وقال مجاهد { بأسهم بينهم شديد } بالكلام والوعيد ليفعلن كذا ، والمعنى أنهم إذا انفردوا نسبوا أنفسهم إلى الشدّة والبأس ، وإذا لاقوا عدوّاً ذلوا وخضعوا ، وانهزموا ، وقيل المعنى أن بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد ، وإنما ضعفهم بالنسبة إليكم لما قذف الله في قلوبهم من الرعب ، والأوّل أولى لقوله { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ } فإنه يدلّ على أن اجتماعهم إنما هو في الظاهر مع تخالف قلوبهم في الباطن ، وهذا التخالف هو البأس الذي بينهم الموصوف بالشدّة ، ومعنى { شَتَّىٰ } متفرقة ، قال مجاهد يعني اليهود والمنافقين تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى . وروي عنه أيضاً أنه قال المراد المنافقون . وقال الثوري هم المشركون ، وأهل الكتاب . قال قتادة { تحسبهم جميعاً } ، أي مجتمعين على أمر ورأي ، { وقلوبهم شتى } متفرقة ، فأهل الباطل مختلفة آراؤهم مختلفة شهادتهم ، مختلفة أهواؤهم ، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحقّ . وقرأ ابن مسعود وقلوبهم أشت أي أشد اختلافاً { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } أي ذلك الاختلاف والتشتت بسبب أنهم قوم لا يعقلون شيئًا ، ولو عقلوا لعرفوا الحقّ واتبعوه . { كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي مثلهم كمثل الذين من قبلهم ، والمعنى أن مثل المنافقين واليهود كمثل الذين من قبلهم من كفار المشركين { قَرِيبًا } يعني في زمان قريب ، وانتصاب { قريباً } على الظرفية أي يشبهونهم في زمن قريب ، وقيل العامل فيه { ذاقوا } ، أي ذاقوا في زمن قريب ، ومعنى { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } أي سوء عاقبة كفرهم في الدنيا بقتلهم يوم بدر ، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر ، قاله مجاهد ، وغيره ، وقيل المراد بنو النضير حيث أمكن الله منهم ، قاله قتادة . وقيل قتل بني قريظة ، قاله الضحاك . وقيل هو عامّ في كل من انتقم الله منه بسبب كفره ، والأوّل أولى { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي في الآخرة . ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً آخر فقال { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَـٰنِ ٱكْفُرْ } أي مثلهم في تخاذلهم وعدم تناصرهم ، فهو إما خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر آخر للمبتدأ المقدّر قبل قوله { كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } على تقدير حذف حرف العطف ، كما تقول أنت عاقل ، أنت عالم ، أنت كريم . وقيل المثل الأوّل خاص باليهود ، والثاني خاص بالمنافقين ، وقيل المثل الثاني بيان للمثل الأوّل ، ثم بيّن سبحانه وجه الشبه فقال { إِذْ قَالَ لِلإِنسَـٰنِ ٱكْفُرْ } أي أغراه بالكفر ، وزينه له ، وحمله عليه ، والمراد بالإنسان هنا جنس من أطاع الشيطان من نوع الإنسان ، وقيل هو عابد كان في بني إسرائيل حمله الشيطان على الكفر ، فأطاعه { فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ } أي فلما كفر الإنسان مطاوعة للشيطان ، وقبولاً لتزيينه قال الشيطان إني برىء منك ، وهذا يكون منه يوم القيامة ، وجملة { إِنّى أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } تعليل لبراءته من الإنسان بعد كفره ، وقيل المراد بالإنسان هنا أبو جهل ، والأوّل أولى . قال مجاهد المراد بالإنسان هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم ، قيل وليس قول الشيطان { إِنّى أَخَافُ ٱللَّهَ } على حقيقته ، إنما هو على وجه التبرّي من الإنسان ، فهو تأكيد لقوله { إِنّى بَرِىء مّنكَ } قرأ الجمهور { إني } بإسكان الياء . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو بفتحها { فَكَانَ عَـٰقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى ٱلنَّارِ } قرأ الجمهور { عاقبتهما } بالنصب على أنه خبر كان ، واسمها { أنهما في النار } . وقرأ الحسن ، وعمرو بن عبيد بالرفع على أنها اسم كان ، والخبر ما بعده والمعنى فكان عاقبة الشيطان ، وذلك الإنسان الذي كفر أنهما صائران إلى النار { خَـٰلِدِينَ فِيهَا } قرأ الجمهور { خالدين } بالنصب على الحال ، وقرأ ابن مسعود ، والأعمش ، وزيد بن عليّ ، وابن أبي عبلة { خالدان } على أنه خبر " أنّ " ، والظرف متعلق به { وَذَلِكَ جَزَاء ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي الخلود في النار جزاء الظالمين ، ويدخل هؤلاء فيهم دخولاً أوّلياً . ثم رجع سبحانه إلى خطاب المؤمنين بالموعظة الحسنة فقال { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي اتقوا عقابه بفعل ما أمركم به ، وترك ما نهاكم عنه { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } أي لتنظر أيّ شيء قدّمت من الأعمال ليوم القيامة ، والعرب تكني عن المستقبل بالغد ، وقيل ذكر الغد تنبيهاً على قرب الساعة { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } كرّر الأمر بالتقوى للتأكيد { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } لا تخفى عليه من ذلك خافية ، فهو مجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ ، { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ } أي تركوا أمره ، أو ما قدّروه حق قدره ، أو لم يخافوه ، أو جميع ذلك { فَأَنسَـٰهُمْ أَنفُسَهُمْ } أي جعلهم ناسين لها بسبب نسيانهم له ، فلم يشتغلوا بالأعمال التي تنجيهم من العذاب ، ولم يكفوا عن المعاصي التي توقعهم فيه ، ففي الكلام مضاف محذوف ، أي أنساهم حظوظ أنفسهم . قال سفيان نسوا حقّ الله ، فأنساهم حق أنفسهم ، وقيل نسوا الله في الرخاء ، فأنساهم أنفسهم في الشدائد { أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } أي الكاملون في الخروج عن طاعة الله . { لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ } في الفضل ، والرتبة ، والمراد الفريقان على العموم ، فيدخل في فريق أهل النار من نسي الله منهم دخولاً أوّلياً ، ويدخل في فريق أهل الجنة الذين اتقوا دخولاً أوّلياً لأن السياق فيهم ، وقد تقدّم الكلام في معنى مثل هذه الآية في سورة المائدة ، وفي سورة السجدة ، وفي سورة صۤ . ثم أخبر سبحانه وتعالى عن أصحاب الجنة بعد نفي التساوي بينهم ، وبين أهل النار فقال { أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } أي الظافرون بكلّ مطلوب الناجون من كلّ مكروه . وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَـٰفَقُواْ } قال عبد الله بن أبيّ بن سلول ، ورفاعة بن تابوت ، وعبد الله بن نبتل ، وأوس بن قيظي ، وإخوانهم بنو النضير . وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وأبو نعيم في الدلائل عنه أن رهطاً من بني عوف بن الحارث منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول ، ووديعة بن مالك ، وسويد وداعس ، بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا ، وتمنعوا ، فإننا لا نسلمكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم ، فتربصوا ذلك من نصرهم ، فلم يفعلوا ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ، ويكفّ عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل إلاّ الحلقة ، ففعل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته ، فيضعه على ظهر بعير ، فينطلق به ، فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ } قال هم المشركون . وأخرج عبد الرزاق ، وابن راهويه ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن عليّ بن أبي طالب أن رجلاً كان يتعبد في صومعة ، وأن امرأة كان لها إخوة ، فعرض لها شيء ، فأتوه بها فزينت له نفسه فوقع عليها ، فحملت ، فجاءه الشيطان ، فقال اقتلها ، فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت ، فقتلها ، ودفنها ، فجاءوه ، فأخذوه ، فذهبوا به ، فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال إني أنا الذي زينت لك ، فاسجد لي سجدة أنجيك ، فسجد له ، فذلك قوله { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَـٰنِ ٱكْفُرْ } الآية . قلت وهذا لا يدلّ على أن هذا الإنسان هو المقصود بالآية ، بل يدلّ على أنه من جملة من تصدق عليه . وقد أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بأطول من هذا ، وليس فيه ما يدلّ على أنه المقصود بالآية . وأخرجه بنحوه ابن جرير عن ابن مسعود . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ } قال ضرب الله مثل الكفار والمنافقين الذين كانوا على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } .