Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 59, Ayat: 8-10)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { لِلْفُقَرَاء } قيل هو بدل من { لذى ٱلْقُرْبَىٰ } وما عطف عليه ، ولا يصح أن يكون بدلاً من الرسول ، وما بعده لئلا يستلزم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر ، وقيل التقدير { كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً } ولكن يكون للفقراء ، وقيل التقدير اعجبوا للفقراء ، وقيل التقدير والله شديد العقاب للفقراء أي شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء ، وقيل هو عطف على ما مضى بتقدير الواو ، كما تقول المال لزيد لعمرو لبكر ، والمراد بـ { الْمُهَـٰجِرِينَ } الذين هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في الدين ونصرة له . قال قتادة هؤلاء المهاجرون هم الذين تركوا الديار ، والأموال ، والأهلين ، ومعنى { أُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم } أن كفار مكة أخرجوهم منها ، واضطروهم إلى الخروج ، وكانوا مائة رجل { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } أي يطلبون منه أن يتفضل عليهم بالرزق في الدنيا ، وبالرضوان في الآخرة { وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } بالجهاد للكفار ، وهذه الجملة معطوفة على { يبتغون } ، ومحل الجملتين النصب على الحال ، الأولى مقارنة ، والثانية مقدّرة ، أي ناوين لذلك ، ويجوز أن تكون حالاً مقارنة لأن خروجهم على تلك الصفة نصرة لله ورسوله ، والإشارة بقوله { أُوْلَـٰئِكَ } إليهم من حيث اتصافهم بتلك الصفات ، وهو مبتدأ ، وخبره { هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ } أي الكاملون في الصدق الراسخون فيه . ثم لما فرغ من مدح المهاجرين مدح الأنصار فقال { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءوا ٱلدَّارَ وَٱلإيمَـٰنَ مِن قَبْلِهِمْ } المراد بالدار المدينة ، وهي دار الهجرة ، ومعنى تبوّئهم الدار والإيمان أنهم اتخذوها مباءة ، أي تمكنوا منهما تمكناً شديداً ، والتبوّأ في الأصل إنما يكون للمكان ، ولكنه جعل الإيمان مثله لتمكنهم فيه تنزيلاً للحال منزلة المحل ، وقيل إن الإيمان منصوب بفعل غير الفعل المذكور ، والتقدير واعتقدوا الإيمان ، أو وأخلصوا الإيمان كذا قال أبو علي الفارسي . ويجوز أن يكون على حذف مضاف ، أي تبوءوا الدار وموضع الإيمان ، ويجوز أن يكون تبوّءوا مضمناً لمعنى لزموا ، والتقدير لزموا الدار والإيمان ، ومعنى { مِن قَبْلِهِم } من قبل هجرة المهاجرين ، فلا بدّ من تقدير مضاف ، لأن الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين ، والموصول مبتدأ ، وخبره { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وذلك لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين ، وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم { وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً } أي لا يجد الأنصار في صدورهم حسداً ، وغيظاً ، وحزازة { مّمَّا أُوتُواْ } أي مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء ، بل طابت أنفسهم بذلك . وفي الكلام مضاف محذوف ، أي لا يجدون في صدورهم مسّ حاجة ، أو أثر حاجة ، وكلّ ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة . وكان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم النبيّ صلى الله عليه وسلم بني النضير دعا الأنصار ، وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين من إنزالهم إياهم في منازلهم ، وإشراكهم في أموالهم ، ثم قال " إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبين المهاجرين - وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم ، والمشاركة لكم في أموالكم - وإن أحببتم أعطيتهم ذلك ، وخرجوا من دياركم " ، فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين ، وطابت أنفسهم { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } الإيثار تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا رغبة في حظوظ الآخرة ، يقال آثرته بكذا ، أي خصصته به ، والمعنى ويقدّمون المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي حاجة وفقر ، والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت ، وهي الفرج التي تكون فيه ، وجملة { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } في محل نصب على الحال ، وقيل إن الخصاصة مأخوذة من الاختصاص ، وهو الانفراد بالأمر ، فالخصاصة الانفراد بالحاجة ، ومنه قول الشاعر @ إن الربيع إذا يكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المقتر @@ { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } قرأ الجمهور { يوق } بسكون الواو ، وتخفيف القاف من الوقاية ، وقرأ ابن أبي عبلة ، وأبو حيوة بفتح الواو ، وتشديد القاف . وقرأ الجمهور { شحّ نفسه } بضم الشين . وقرأ ابن عمر ، وابن أبي عبلة بكسرها . والشحّ البخل مع حرص ، كذا في الصحاح ، وقيل الشحّ أشدّ من البخل . قال مقاتل شحّ نفسه حرص نفسه . قال سعيد بن جبير شحّ النفس هو أخذ الحرام ، ومنع الزكاة . قال ابن زيد من لم يأخذ شيئًا نهاه الله عنه ، ولم يمنع شيئًا أمره الله بأدائه ، فقد وقى شحّ نفسه . قال طاووس البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشحّ أن يشحّ بما في أيدي الناس ، يحبّ أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام لا يقنع . وقال ابن عيينة الشحّ الظلم . وقال الليث ترك الفرائض وانتهاك المحارم . والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شحّ النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشحّ بها شرعاً من زكاة ، أو صدقة ، أو صلة رحم ، أو نحو ذلك ، كما تفيده إضافة الشحّ إلى النفس ، والإشارة بقوله { فَأُوْلَـئِكَ } إلى « من » باعتبار معناها ، وهو مبتدأ ، وخبره { هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } والفلاح الفوز والظفر بكل مطلوب . ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار ، ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم ، فقال { وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } وهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة ، وقيل هم الذين هاجروا بعد ما قوي الإسلام ، والظاهر شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة المتأخر إسلامهم في عصر النبوّة ، ومن تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوّة إلى يوم القيامة لأنه يصدق على الكلّ أنهم جاءوا بعد المهاجرين الأوّلين والأنصار ، والموصول مبتدأ ، وخبره { يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإَيمَـٰنِ } ويجوز أن يكون الموصول معطوفاً على قوله { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءوا ٱلدَّارَ وَٱلإيمَـٰنَ } ، فيكون { يقولون } في محل نصب على الحال ، أو مستأنف لا محل له ، والمراد بالأخوّة هنا أخوة الدّين ، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم ، ولمن تقدّمهم من المهاجرين والأنصار { وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي غشاً وبغضاً وحسداً . أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغلّ للذين آمنوا على الإطلاق ، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أوّلياً لكونهم أشرف المؤمنين ، ولكون السياق فيهم ، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ، ويطلب رضوان الله لهم ، فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية ، فإن وجد في قلبه غلاً لهم ، فقد أصابه نزغ من الشيطان ، وحلّ به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه ، وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه ، والاستغاثة به ، بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغلّ لخير القرون ، وأشرف هذه الأمة ، فإن جاوز ما يجده من الغلّ إلى شتم أحد منهم ، فقد انقاد للشيطان بزمام ، ووقع في غضب الله وسخطه ، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة ، أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان ، وزين لهم الأكاذيب المختلفة ، والأقاصيص المفتراة ، والخرافات الموضوعة ، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، وعن سنة رسول الله ، المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور ، فاشتروا الضلالة بالهدى ، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر ، ومازال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة ، ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله ، وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين ، وأهملوا فرائض الله وهجروا شعائر الدين ، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي ، ورموا الدين وأهله بكلّ حجر ومدر ، والله من ورائهم محيط . { رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ } أي كثير الرأفة والرحمة بليغهما لمن يستحق ذلك من عبادك . وقد أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأوّلين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم حرمتهم ، وأوصيه بالأنصار الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة قال أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أصابني الجهد ، فأرسل إلى نسائه ، فلم يجد عندهنّ شيئًا فقال " ألا رجل يضيف هذه الليلة رحمه الله " ، فقال رجل من الأنصار ، وفي رواية ، فقال أبو طلحة الأنصاري أنا يا رسول الله ، فذهب به إلى أهله ، فقال لامرأته أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدّخريه شيئًا ، قالت والله ما عندي إلاّ قوت الصبية ، قال فإذا أراد الصبية العشاء ، فنوّميهم وتعالي فأطفئي السراج ، ونطوي بطوننا الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففعلت ، ثم غدا الضيف على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة ، وأنزل فيهما { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } » . وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا ، فبعث به إليه ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأوّل ، فنزلت فيهم { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أن رجلاً قال إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال وما ذاك ؟ قال إني سمعت الله يقول { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء ، فقال له ابن مسعود ليس ذاك بالشحّ ، ولكنه البخل ، ولا خير في البخل ، وإن الشحّ الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً . وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال ليس الشحّ أن يمنع الرجل ماله ، ولكنه البخل ، وإنه لشرّ ، إنما الشحّ أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له . وأخرج ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال من أدّى زكاة ماله ، فقد وقى شحّ نفسه . وأخرج الحكيم الترمذي ، وأبو يعلى ، وابن مردويه عن أنس قال قال رسول الله " ما محق الإسلام محق الشحّ شيء قط " وأخرج أحمد ، والبخاري في الأدب ، ومسلم ، والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال " اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشحّ ، فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " وقد وردت أحاديث كثيرة في ذمّ الشحّ . وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال الناس على ثلاث منازل ، قد مضت منزلتان ، وبقيت منزلة ، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ، ثم قرأ { وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } الآية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف ، وابن مردويه عن عائشة قالت أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبيّ ، فسبوهم ، ثم قرأت هذه الآية { وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } . وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه سمع رجلاً ، وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه { لِلْفُقَرَاء الْمُهَـٰجِرِينَ } الآية ، ثم قال هؤلاء المهاجرون ، أفمنهم أنت ؟ قال لا ، ثم قرأ عليه { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءوا ٱلدَّارَ وَٱلإيمَـٰنَ } الآية . ثم قال هؤلاء الأنصار ، أفأنت منهم ؟ قال لا ، ثم قرأ عليه { وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ } الآية ، ثم قال أفمن هؤلاء أنت ؟ قال أرجو ، قال ليس من هؤلاء من سبّ هؤلاء .