Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 31-36)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء ٱللَّهِ } هم الذين تقدّم ذكرهم . والمراد من تكذيبهم بلقاء الله تكذيبهم بالبعث ، وقيل تكذيبهم بالجزاء . والأوّل أولى ، لأنهم الذين قالوا قريباً { إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } الأنعام 29 { حَتَّىٰ إِذَا جَاءتْهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً } أي القيامة ، وسميت ساعة لسرعة الحساب فيها . ومعنى بغتة فجأة ، يقال بغتهم الأمر يبغتهم بغتاً وبغتة . قال سيبويه وهي مصدر في موضع الحال ، قال ولا يجوز أن يقاس عليه ، فلا يقال جاء فلان سرعة ، و " حَتَّىٰ غاية للتكذيب لا للخسران ، فإنه لا غاية له { قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا } هذا جواب { إذا جاءتهم } أوقعوا النداء على الحسرة ، وليست بمنادى في الحقيقة ليدلّ ذلك على كثرة تحسرهم . والمعنى يا حسرتنا احضري ، فهذا أوانك ، كذا قال سيبويه في هذا النداء وأمثاله ، كقولهم يا للعجب ويا للرجل . وقيل هو تنبيه للناس على عظم ما يحلّ بهم من الحسرة ، كأنهم قالوا يا أيها الناس تنبهوا على عظيم ما بنا من الحسرة ، والحسرة الندم الشديد { عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } أي على تفريطنا في الساعة ، أي في الاعتداد لها ، والاحتفال بشأنها ، والتصديق بها . ومعنى فرّطنا ضيعنا ، وأصله التقدّم ، يقال فرط فلان أي تقدّم وسبق إلى الماء ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " وأنا فرطكم على الحوض " ، ومنه الفارط أي المتقدم فكأنهم أرادوا بقولهم { عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا } أي على ما قدّمنا من عجزنا عن التصديق بالساعة والاعتداد لها ، وقال ابن جرير الطبري إن الضمير في { فرّطنا فيها } يرجع إلى الصفقة ، وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر ، والدنيا بالآخرة { قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } في صفقتنا ، وإن لم تذكر في الكلام ، فهو دالّ عليها لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة . وقيل الضمير راجع إلى الحياة أي على ما فرّطنا في حياتنا . قوله { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ } هذه الجملة حالية ، أي يقولون تلك المقالة ، والحال أنهم { يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ } أي ذنوبهم ، جمع وزر يقال وزر يزر ، فهو وازر وموزور ، وأصله من الوزر . قال أبو عبيدة يقال للرجال إذا بسط ثوبه ، فجعل فيه المتاع احمل وزرك ، أي ثقلك ، ومنه الوزير ، لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية . والمعنى أنها لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها ، وجعلها محمولة على الظهور تمثيل { أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } أي بئس ما يحملون . قوله { وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ } أي وما متاع الدنيا إلا لعب ولهو على تقدير حذف مضاف ، أو ما الدنيا من حيث هي ، إلا لعب ولهو . والقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم { مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } ، واللعب معروف ، وكذلك اللهو ، وكل ما يشغلك فقد ألهاك . وقيل أصله الصرف عن الشيء . وردّ بأن اللهو بمعنى الصرف لامه " ياء " ، يقال لهيت عنه ، ولام اللهو واو ، يقال لهوت بكذا { وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا ، أي هي خير للذين يتقون الشرك والمعاصي ، أفلا تعقلون ذلك . قرأ ابن عامر " وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ " بلام واحدة ، وبالإضافة وقرأ الجمهور باللام التي للتعريف معها ، وجعل الآخرة نعتاً لها والخبر " خير " ، وقرىء تعقلون بالفوقية والتحتية . قوله { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِى يَقُولُونَ } هذا الكلام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ناله من الغمّ والحزن بتكذيب الكفار له . ودخول قد للتكثير ، فإنها قد تأتي لإفادته كما تأتي ربّ . والضمير في " إنَّه " للشأن ، وقرىء بفتح الياء من " يحزنك " وضمها . وقرىء { يكذبونك } مشدّداً ومخففاً ، واختار أبو عبيد قراءة التخفيف . قال النحاس وقد خولف أبو عبيد في هذا . ومعنى { يكذبونك } على التشديد ينسبونك إلى الكذب ويردّون عليك ما قلته . ومعنى المخفف أنهم لا يجدونك كذاباً ، يقال أكذبته وجدته كذاباً ، وأبخلته وجدته بخيلاً . وحكى الكسائي عن العرب أكذبت الرجل أخبرت أنه جاء بالكذب ، وكذّبته أخبرت أنه كاذب . وقال الزجاج كذبته إذا قلت له كذبت ، وأكذبته إذا أردت أن ما أتى به كذب . والمعنى أن تكذيبهم ليس يرجع إليك ، فإنهم يعترفون لك بالصدق ، ولكن تكذيبهم راجع إلى ما جئت به ، ولهذا قال { وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التوبيخ لهم ، والإزراء عليهم ، ووصفهم بالظلم لبيان أن هذا الذي وقع منهم ظلم بين . قوله { وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَـٰهُمْ نَصْرُنَا } هذا من جملة التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي أن هذا الذي وقع من هؤلاء إليك ليس هو بأوّل ما صنعه الكفار مع من أرسله الله إليهم ، بل قد وقع التكذيب لكثير من الرسل المرسلين من قبلك ، فاقتد بهم ولا تحزن واصبر كما صبروا على ما كذبوا به ، وأوذوا ، حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم فإنا لا نخلف الميعاد و { لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ } الرعد 38 { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } غافر 51 { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ } الصافات 171 ــ 173 { كَتَبَ ٱللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } المجادلة 21 { وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللَّهِ } بل وعده كائن ، وأنت منصور على المكذبين ، ظاهر عليهم . وقد كان ذلك ولله الحمد . { وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ } ما جاءك من تجرّى قومهم عليهم في الابتداء ، وتكذيبهم لهم ، ثم نصرهم عليهم في الانتهاء ، وأنت ستكون عاقبة هؤلاء المكذبين لك كعاقبة المكذبين للرسل ، فيرجعون إليك ويدخلون في الدين الذي تدعوهم إليه طوعاً أو كرهاً . قوله { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } ، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يكبر عليه إعراض قومه ، ويتعاظمه ، ويحزن له ، فبين له الله سبحانه أن هذا الذي وقع منهم من توليهم عن الإجابة له ، والإعراض عما دعا إليه ، هو كائن لا محالة لما سبق في علم الله عزّ وجلّ ، وليس في استطاعته وقدرته إصلاحهم وإجابتهم قبل أن يأذن الله بذلك ، ثم علق ذلك بما هو محال ، فقال { فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى ٱلأَرْضِ } فتأتيهم بآية منه { أَوْ سُلَّماً فِي ٱلسَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ } منها فافعل ، ولكنك لا تستطيع ذلك فدع الحزن ، { وَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰتٍ } فاطر 8 و { مَا أَنتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } الغاشية 22 والنفق السرب والمنفذ ، ومنه النافقاء لجحر اليربوع ، ومنه المنافق . وقد تقدّم في البقرة ما يغني عن الإعادة . والسلم الدرج الذي يرتقي عليه ، وهو مذكر لا يؤنث ، وقال الفراء إنه يؤنث . قال الزجاج وهو مشتق من السلامة ، لأنه يسلك به إلى موضع الأمن . وقيل إن الخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد به أمته ، لأنها كانت تضيق صدورهم بتمرّد الكفرة وتصميمهم على كفرهم ، ولا يشعرون أن لله سبحانه في ذلك حكمة ، لا تبلغها العقول ، ولا تدركها الأفهام ، فإن الله سبحانه لو جاء لرسوله صلى الله عليه وسلم بآية تضطرهم إلى الإيمان لم يبق للتكليف الذي هو الابتلاء والامتحان معنى ، ولهذا قال { وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } جمع إلجاء وقسر ، ولكنه لم يشأ ذلك ، ولله الحكمة البالغة { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ } فإن شدّة الحرص والحزن لإعراض الكفار عن الإجابة قبل أن يأذن الله بذلك هو صنيع أهل الجهل ، ولست منهم ، فدع الأمور مفوّضة إلى عالم الغيب والشهادة ، فهو أعلم بما فيه المصلحة ، ولا تحزن لعدم حصول ما يطلبونه من الآيات التي لو بدا لهم بعضها ، لكان إيمانهم بها اضطراراً { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ } أي إنما يستجيب لك إلى ما تدعو إليه الذين يسمعون سماع تفهم بما تقتضيه العقول وتوجبه الأفهام ، وهؤلاء ليسوا كذلك ، بل هم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ولا يعقلون لما جعلنا على قلوبهم من الأكنة ، وفي آذانهم من الوقر ، ولهذا قال { وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } شبههم بالأموات بجامع أنهم جميعاً لا يفهمون الصواب ، ولا يعقلون الحق ، أي أن هؤلاء لا يلجئهم الله إلى الإيمان وإن كان قادراً على ذلك ، كما يقدر على بعثة الموتى للحساب { ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } إلى الجزاء فيجازى كلا بما يليق به كما تقتضيه حكمته البالغة . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله { قَالُوا يٰحَسْرَتَنَا } قال الحسرة الندامة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والخطيب بسند صحيح ، عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول صلى الله عليه وسلم في قوله { يا حسرتنا } قال " الحسرة أن يرى أهل النار منازلهم من الجنة ، فتلك الحسرة " وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله { أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } قال ما يعملون . وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { لَعِبٌ وَلَهْوٌ } قال كل لعب لهو . وأخرج الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والضياء في المختارة ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال قال أبو جهل للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنا لا نكذّبك ولكن نكذّب بما جئت به ، فأنزل الله { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُون } . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن أبي يزيد المدني ، أن أبا جهل قال والله إني لأعلم أنه صادق ، ولكن متى كنا تبعاً لبني عبد مناف ؟ . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن أبي ميسرة ، نحو رواية عليّ بن أبي طالب . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله { وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } قال يعلمون أنك رسول الله ويجحدون . وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله { وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } قال يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج مثله . وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسما والصفات ، عن ابن عباس قال { فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى ٱلأَرْضِ } والنفق السرب ، فتذهب فيه فتأتيهم بآية ، أو تجعل لهم سلماً في السماء فتصعد عليه { فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَة } أفضل مما أتيناهم به ، فافعل { وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } يقول سبحانه لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله { نَفَقاً فِى ٱلأرْضِ } قال سرباً { أَوْ سُلَّماً فِى ٱلسَّمَاء } قال يعني الدرج . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن في قوله { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ } قال المؤمنون { وَٱلْمَوْتَىٰ } قال الكفار . وأخرج هؤلاء عن مجاهد مثله .