Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 4-11)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَمَا تَأْتِيهِم } الخ كلام مبتدأ لبيان بعض أسباب كفرهم وتمرّدهم ، وهو الإعراض عن آيات الله التي تأتيهم كمعجزات الأنبياء ، وما يصدر عن قدرة الله الباهرة مما لا يشك من له عقل أنه فعل الله سبحانه ، والإعراض ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله و « من » في { مّنْ ءايَةٍ } مزيدة للاستغراق و « من » في { مِنْ آيَـٰتِ } تبعيضية ، أي وما تأتيهم آية من الآيات التي هي بعض آيات ربهم ، إلا كانوا عنها معرضين ، والفاء في { فَقَدْ كَذَّبُواْ } جواب شرط مقدر ، أي إن كانوا معرضين عنها فقد كذبوا بما هم أعظم من ذلك ، وهو الحق { لَمَّا جَاءهُمْ } قيل المراد بالحق هنا القرآن ، وقيل محمد صلى الله عليه وسلم { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } أي أخبار الشيء الذي كانوا به يستهزءون وهو القرآن ، أو محمد صلى الله عليه وسلم ، على أن " ما " عبارة عن ذلك تهويلاً للأمر وتعظيماً له ، أي سيعرفون أن هذا الشيء الذي استهزءوا به ليس بموضع للاستهزاء ، وذلك عند إرسال عذاب الله عليهم ، كما يقال اصبر فسوف يأتيك الخبر عند إرادة الوعيد والتهديد ، وفي لفظ الأنباء ما يرشد إلى ذلك ، فإنه لا يطلق إلا على خبر عظيم . قوله { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ } كلام مبتدأ لبيان ما تقدّمه ، والهمزة للإنكار ، و « كم » يحتمل أن تكون الاستفهامية وأن تكون الخبرية وهي معلقة لفعل الرؤية عن العمل فيما بعده ، و { مّن قَرْنٍ } تمييز ، والقرن يطلق على أهل كل عصر ، سموا بذلك لاقترانهم ، أي ألم يعرفوا بسماع الأخبار ، ومعاينة الآثار ، كم أهلكنا من قبلهم من الأمم الموجودة في عصر بعد عصر لتكذيبهم أنبياءهم . وقيل القرن مدّة من الزمان . وهي ستون عاماً أو سبعون أو ثمانون أو مائة على اختلاف الأقوال ، فيكون ما في الآية على تقدير مضاف محذوف ، أي من أهل قرن . قوله { مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ } مكّن له في الأرض جعل له مكاناً فيها ، ومكّنه في الأرض أثبته فيها ، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل كيف ذلك ؟ وقيل إن هذه الجملة صفة لقرن ، والأوّل أولى ، و « ما » في { ما لم نمكن } نكرة موصوفة بما بعدها ، أي مكّناهم تمكيناً لم نمكّنه لكم ، والمعنى أنا أعطينا القرون الذين هم قبلكم ، ما لم نعطكم من الدنيا ، وطول الأعمار وقوّة الأبدان ، وقد أهلكناهم جميعاً ، فإهلاككم وأنتم دونهم بالأولى . قوله { وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً } يريد المطر الكثير ، عبّر عنه بالسماء ، لأنه ينزل من السماء ، ومنه قول الشاعر @ إذا نزل السماء بأرض قوم @@ والمدرار صيغة مبالغة تدل على الكثرة كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور ، وميناث للتي تلد الإناث ، يقال درّ اللبن يدرّ ، إذا أقبل على الحالب بكثرة . وانتصاب { مُّدْرَاراً } على الحال وجريان الأنهار من تحتهم معناه من تحت أشجارهم ومنازلهم ، أي أن الله وسّع عليهم النعم بعد التمكين لهم في الأرض ، فكفروها ، فأهلكهم الله بذنوبهم { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ } أي من بعد إهلاكهم { قَرْناً آخَرِينَ } فصاروا بدلاً من الهالكين ، وفي هذا بيان لكمال قدرته سبحانه ، وقوّة سلطانه ، وأنه يهلك من يشاء ويوجد من يشاء . قوله { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـٰباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } في هذه الجملة بيان شدّة صلابتهم في الكفر ، وأنهم لا يؤمنون ولو أنزل الله على رسوله كتاباً مكتوباً في قرطاس بمرأى منهم ومشاهدة { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } حتى يجتمع لهم إدراك الحاستين حاسة البصر ، وحاسة اللمس { لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } منهم { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ولم يعملوا بما شاهدوا ولمسوا ، وإذا كان هذا حالهم في المرئيّ المحسوس ، فكيف فيما هو مجرد وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة ملك ، لا يرونه ، ولا يحسونه ؟ والكتاب مصدر بمعنى الكتابة ، والقرطاس الصحيفة . قوله { وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } هذه الجملة مشتملة على نوع آخر من أنواع جحدهم لنبوّته صلى الله عليه وسلم وكفرهم بها ، أي قالوا هلا أنزل الله عليك ملكاً نراه ويكلمنا أنه نبيّ حتى نؤمن به ونتبعه ؟ كقولهم { لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } الفرقان 7 { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ ٱلأمْرُ } أي لو أنزلنا ملكاً على الصفة التي اقترحوها بحيث يشاهدونه ويخاطبونه ويخاطبهم { لَقُضِىَ ٱلأمْرُ } أي لأهلكناهم إذ لم يؤمنوا عند نزوله ، ورؤيتهم له لأن مثل هذه الآية البينة ، وهي نزول الملك على تلك الصفة إذا لم يقع الإيمان بعدها ، فقد استحقوا الإهلاك والمعاجلة بالعقوبة { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } أي لا يمهلون بعد نزوله ومشاهدتهم له وقيل إن المعنى إن الله سبحانه لو أنزل ملكاً مشاهداً لم تطق قواهم البشرية أن يبقوا بعد مشاهدته أحياء ، بل تزهق أرواحهم عند ذلك ، فيبطل ما أرسل الله له رسله ، وأنزل به كتبه من هذا التكليف الذي كلف به عباده { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } الكهف 7 . قوله { وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَـٰهُ رَجُلاً } أي لو جعلنا الرسول إلى النبيّ ملكاً يشاهدونه ، ويخاطبونه ، لجعلنا ذلك الملك رجلاً ، لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك على صورته التي خلفه الله عليها إلا بعد أن يتجسم بالأجسام الكثيفة المشابهة لأجسام بني آدم لأن كل جنس يأنس بجنسه ، فلو جعل الله سبحانه الرسول إلى البشر ، أو الرسول إلى رسوله ، ملكاً مشاهداً مخاطباً لنفروا منه ولم يأنسوا به ، ولداخلهم الرعب وحصل معهم من الخوف ما يمنعهم من كلامه ومشاهدته ، هذا أقلّ حال فلا تتمّ المصلحة من الإرسال . وعند أن يجعله الله رجلاً ، أي على صورة رجل من بني آدم ، ليسكنوا إليه ويأنسوا به ، سيقول الكافرون إنه ليس بملك وإنما هو بشر ، ويعودون إلى مثل ما كانوا عليه . قوله { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم لأنهم إذا رأوه في صورة إنسان قالوا هذا إنسان وليس بملك ، فإن استدل لهم بأنه ملك كذبوه قال الزجاج المعنى للبسنا عليهم ، أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم ، وكانوا يقولون لهم إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق . فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم ، فأعلم الله عزّ وجلّ أنه لو نزل ملكاً في صورة رجل ، لوجدوا سبيلاً إلى اللبس كما يفعلون . واللبس الخلط ، يقال لبست عليه الأمر ألبسه لبساً ، أي خلطته ، وأصله التستر بالثوب ونحوه . ثم قال سبحانه مؤنساً لنبيه صلى الله عليه وسلم ومسلياً له { وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } يقال حاق الشيء يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً نزل أي فنزل ما كانوا به يستهزءون ، وأحاط بهم ، وهو الحق حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به { قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلأرْضِ } أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين سافروا في الأرض ، وانظروا آثار من كان قبلكم لتعرفوا ما حلّ بهم من العقوبات ، وكيف كانت عاقبتهم بعدما كانوا فيه من النعيم العظيم الذي يفوق ما أنتم فيه ، فهذه ديارهم خاربة وجناتهم مغبرة وأراضيهم مكفهرة ، فإذا كانت عاقبتهم هذه العاقبة ، فأنتم بهم لاحقون ، وبعد هلاكهم هالكون . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله { وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايَـٰتِ رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } يقول ما يأتيهم من شيء من كتاب الله إلا أعرضوا عنه ، وفي قوله { فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } يقول سيأتيهم يوم القيامة أنباء ما استهزءوا به من كتاب الله عزّ وجل . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله { مّن قَرْنٍ } قال أمة . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة في قوله { مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ } يقول أعطيناهم ما لم نعطكم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن هارون التيمي في الآية قال المطر في إبانة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي عن ابن عباس ، في قوله { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـٰباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } يقول لو أنزلنا من السماء صحفاً فيها كتاب { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } لزادهم ذلك تكذيباً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } قال فمسوه ونظروا إليه لم يصدقوا به . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن محمد بن إسحاق قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام ، وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني ، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب ، والنضر بن الحارث بن كلدة ، وعبدة بن عبد يغوث ، وأُبيّ بن خلف بن وهب ، والعاص بن وائل بن هشام لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ويرى معك ، فأنزل الله { وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } الآية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله { وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } قال ملك في صورة رجل { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ ٱلأمْرُ } لقامت الساعة . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة في قوله { لَقُضِىَ ٱلأمْرُ } يقول لو أنزل الله ملكاً ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس في قوله { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً } قال ولو أتاهم ملك في صورته { لَقُضِىَ ٱلأمْرُ } لأهلكناهم { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } لا يؤخرون { وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَـٰهُ رَجُلاً } قال في صورة رجل في خلق رجل . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وأبو الشيخ ، عن قتادة في قوله { وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَـٰهُ رَجُلاً } يقول في صورة آدميّ . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم } يقول شبهنا عليهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السدي في الآية قال شبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن محمد بن إسحاق قال مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني بالوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، وأبي جهل بن هشام فهمزوه واستهزءوا به فغاظه ذلك ، فأنزل الله { وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } .