Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 60, Ayat: 4-9)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما فرغ سبحانه من النهي عن موالاة المشركين ، والذمّ لمن وقع منه ذلك ضرب لهم إبراهيم مثلاً حين تبرأ من قومه ، فقال { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي خصلة حميدة تقتدون بها ، يقال لي به أسوة في هذا الأمر ، أي اقتداء ، فأرشدهم سبحانه إلى الاقتداء به في ذلك إلاّ في استغفاره لأبيه . قرأ الجمهور { إسوة } بكسر الهمزة وقرأ عاصم بضمها وهما لغتان ، وأصل الأسوة بالضم والكسر القدوة ، ويقال هو أسوتك ، أي مثلك ، وأنت مثله ، وقوله { فِى إِبْرٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } متعلق بأسوة ، أو بحسنة ، أو هو نعت لأسوة ، أو حال من الضمير المستتر من حسنة ، أو خبر " كان " ، و " لكم " للبيان ، و { الذين معه } هم أصحابه المؤمنون . وقال ابن زيد هم الأنبياء . قال الفرّاء يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم ، فتتبرأ من أهلك ، كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه ، والظرف في قوله { إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ } هو خبر كان ، أو متعلق به ، أي وقت قولهم لقومهم الكفار { بَرَآء مّنكُمْ } جمع بريء ، مثل شركاء وشريك ، وظرفاء وظريف . قرأ الجمهور { برآء } بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين ، ككرماء في كريم . وقرأ عيسى بن عمر ، وابن أبي إسحاق بكسر الباء وهمزة واحدة بعد ألف ، ككرام في جمع كريم . وقرأ أبو جعفر بضم الباء وهمزة بعد ألف { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } وهي الأصنام { كَفَرْنَا بِكُمْ } أي بما آمنتم به من الأوثان أو بدينكم أو بأفعالكم . { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَاء أَبَداً } أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم { حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ } وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك ، فإذا فعلتم ذلك صارت تلك العداوة موالاة ، والبغضاء محبة { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرٰهِيمَ لاِبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } هو استثناء متصل من قوله { فِى إِبْرٰهِيمَ } بتقدير مضاف محذوف ليصح الاستثناء ، أي قد كانت لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم إلاّ قوله لأبيه ، أو من أسوة حسنة ، وصح ذلك لأن القول من جملة الأسوة ، كأنه قيل قد كانت أسوة حسنة في إبراهيم في جميع أقواله ، وأفعاله إلاّ قوله لأبيه ، أو من التبرّي والقطيعة التي ذكرت ، أي لم يواصله إلاّ قوله ، ذكر هذا ابن عطية ، أو هو منقطع ، أي لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ، فلا تأتسوا به ، فتستغفرون للمشركين ، فإنه كان عن موعدة وعدها إياه ، أو أن ذلك إنما وقع منه لأنه ظنّ أنه قد أسلم { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } التوبة 114 وقد تقدّم تحقيق هذا في سورة براءة { وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَىْء } هذا من تمام القول المستثنى ، يعني ما أغني عنك ، وما أدفع عنك من عذاب الله شيئًا ، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل لأستغفرنّ ، فالاستثناء متوجه إلى الاستغفار لا إلى هذا القيد ، فإنه إظهار للعجز ، وتفويض للأمر إلى الله ، وذلك من خصال الخير { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } هذا من دعاء إبراهيم وأصحابه ، ومما فيه أسوة حسنة يقتدى به فيها ، وقيل هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا هذا القول ، والتوكل هو تفويض الأمور إلى الله ، والإنابة الرجوع ، والمصير المرجع ، وتقديم الجارّ والمجرور لقصر التوكل والإنابة ، والمصير على الله . { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } قال الزجاج لا تظهرهم علينا ، فيظنوا أنهم على حقّ ، فيفتنوا بذلك . وقال مجاهد لا تعذبنا بأيديهم ، ولا بعذاب من عندك ، فيقولوا لو كان هؤلاء على حقّ ما أصابهم هذا { وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ } أي الغالب الذي لا يغالب { ٱلْحَكِيمُ } ذو الحكمة البالغة . { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي لقد كان لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة ، وكرّر هذا للمبالغة والتأكيد ، وقيل إن هذا نزل بعد الأوّل بمدّة { لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ } بدل من قوله { لَكُمْ } بدل بعض من كلّ ، والمعنى أن هذه الأسوة إنما تكون لمن يخاف الله ، ويخاف عقاب الآخرة ، أو يطمع في الخير من الله في الدنيا وفي الآخرة { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ } أي يعرض عن ذلك ، فإن الله هو الغنيّ عن خلقه الحميد إلى أوليائه . { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً } وذلك بأن يسلموا ، فيصيروا من أهل دينكم ، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة وحسن إسلامهم ، ووقعت بينهم وبين من تقدّمهم في الإسلام مودّة ، وجاهدوا ، وفعلوا الأفعال المقرّبة إلى الله . وقيل المراد بالمودّة هنا تزويج النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمّ حبيبة بنت أبي سفيان . ولا وجه لهذا التخصيص ، وإن كان من جملة ما صار سبباً إلى المودّة ، فإن أبا سفيان بعد ذلك ترك ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنها لم تحصل المودّة إلاّ بإسلامه يوم الفتح وما بعده { وَٱللَّهُ قَدِيرٌ } أي بليغ القدرة كثيرها { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي بليغهما كثيرهما . ثم لما ذكر سبحانه ما ينبغي للمؤمنين من معاداة الكفار وترك موادّتهم ، فصل القول فيمن يجوز برّه منهم ومن لا يجوز ، فقال { لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـٰرِكُمْ } أي لا ينهاكم عن هؤلاء { أَن تَبَرُّوهُمْ } هذا بدل من الموصول بدل اشتمال ، وكذا قوله { وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ } يقال أقسطت إلى الرّجل إذا عاملته بالعدل . قال الزجاج المعنى ، وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } أي العادلين ومعنى الآية أن الله سبحانه لا ينهى عن برّ أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال ، وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم ، ولا ينهى عن معاملتهم بالعدل . قال ابن زيد كان هذا في أوّل الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ، ثم نسخ . قال قتادة نسختها { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } التوبة 5 وقيل هذا الحكم كان ثابتاً في الصلح بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم . وقيل هي خاصة في حلفاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ومن بينه وبينه عهد ، قاله الحسن . وقال الكلبي هم خزاعة ، وبنو الحارث بن عبد مناف . وقال مجاهد هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا ، وقيل هي خاصة بالنساء والصبيان . وحكى القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة . ثم بيّن سبحانه من لا يحلّ برّه ، ولا العدل في معاملته فقال { إِنَّمَا يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَـٰتَلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَـٰرِكُمْ } وهم صناديد الكفر من قريش { وَظَـٰهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرٰجِكُمْ } أي عاونوا الذين قاتلوكم على ذلك ، وهم سائر أهل مكة ، ومن دخل معهم في عهدهم ، وقوله { أَن تَوَلَّوْهُمْ } بدل اشتمال من الموصول ، كما سلف { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } أي الكاملون في الظلم لأنهم تولوا من يستحق العداوة لكونه عدوّاً لله ولرسوله ولكتابه ، وجعلوهم أولياء لهم . وقد أخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه عن ابن عباس { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرٰهِيمَ لأبِيهِ } قال نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه ، وقوله { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } لا تعذبنا بأيديهم ، ولا بعذاب من عندكم ، فيقولون لو كان هؤلاء على الحقّ ما أصابهم هذا . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } قال في صنيع إبراهيم كله إلاّ في الاستغفار لأبيه ، وهو مشرك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } قال لا تسلطهم علينا ، فيفتنونا . وأخرج ابن مردويه عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمٰن عن أبي هريرة قال أوّل من قاتل أهل الردّة على إقامة دين الله أبو سفيان بن حرب ، وفيه نزلت هذه الآية { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً } . وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن ، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ، فلقي " ذا الخمار " مرتدّاً ، فكان أوّل من قاتل في الردّة ، وجاهد عن الدّين . قال وهو فيمن قال الله فيه { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن عديّ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس في الآية قال كانت المودّة التي جعل بينهم تزويج النبيّ صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فصارت أمّ المؤمنين ، فصار معاوية خال المؤمنين . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن أبا سفيان قال يا رسول الله ثلاث أعطنيهنّ ، قال " نعم " ، قال تؤمرني حتى أقاتل الكفار ، كما كنت أقاتل المسلمين ، قال " نعم " ، قال ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك ، قال " نعم " ، قال وعندي أحسن العرب وأجمله أمّ حبيبة بنت أبي سفيان أزوّجكها الحديث . وأخرج الطيالسي ، وأحمد ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال قدمت قتيلة بنت عبد العزّى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضباب ، وأقط ، وسمن ، وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها ، أو تدخلها بيتها حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألته ، فأنزل الله { لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ } الآية ، فأمرها أن تقبل هديتها ، وتدخلها بيتها ، وزاد ابن أبي حاتم في المدّة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي البخاري وغيره ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت أتتني أمي راغبة ، وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أأصلها ؟ فأنزل الله { لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ } الآية ، فقال " نعم صلي أمك " .