Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 61, Ayat: 1-9)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ } قد تقدّم الكلام على هذا ، ووجه التعبير في بعض السور بلفظ الماضي كهذه السورة ، وفي بعضها بلفظ المضارع ، وفي بعضها بلفظ الأمر الإرشاد إلى مشروعية التسبيح في كل الأوقات ماضيها ومستقبلها وحالها ، وقد قدّمنا نحو هذا في أوّل سورة الحديد { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي الغالب الذي لا يغالب الحكيم في أفعاله وأقواله . { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، أي لم تقولون من الخير ما لا تفعلونه ، و " لم " مركبة من اللام الجارّة ، وما الاستفهامية ، وحذفت ألفها تخفيفاً لكثرة استعمالها ، كما في نظائرها . ثم ذمهم سبحانه على ذلك فقال { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } أي عظم ذلك في المقت ، وهو البغض ، والمقت والمقاتة مصدران ، يقال رجل مقيت ، وممقوت إذا لم يحبه الناس ، قال الكسائي { أَن تَقُولُواْ } في موضع رفع لأن { كبر } فعل بمعنى بئس ، و { مقتاً } منتصب على التمييز ، وعلى هذا فيكون في { كبر } ضمير مبهم مفسر بالنكرة ، وأن { تقولوا } هو المخصوص بالذمّ ، ويجيء فيه الخلاف هل رفعه بالابتداء ، وخبره الجملة المتقدّمة عليه ، أو خبره محذوف ، أو هو خبر مبتدأ محذوف . وقيل إنه قصد بقوله { كَبُرَ } التعجب ، وقد عدّه ابن عصفور من أفعال التعجب . وقيل إنه ليس من أفعال الذم ، ولا من أفعال التعجب ، بل هو مسند إلى { أن تقولوا } ، و { مقتاً } تمييز محوّل عن الفاعل . { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً } قال المفسرون إن المؤمنين قالوا وددنا أن الله يخبرنا بأحبّ الأعمال إليه حتى نعمله ، ولو ذهبت فيه أموالنا وأنفسنا . فأنزل الله { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ } الآية ، وانتصاب { صفاً } على المصدرية ، والمفعول محذوف ، أي يصفون أنفسهم صفا ، وقيل هو مصدر في موضع الحال أي صافين ، أو مصفوفين . قرأ الجمهور { يقاتلون } على البناء للفاعل . وقرأ زيد بن عليّ على البناء للمفعول ، وقرىء يقتلون بالتشديد ، وجملة { كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ } في محل نصب على الحال من فاعل { يقاتلون } ، أو من الضمير في { صفاً } على تقدير أنه مؤوّل بصافين ، أو مصفوفين ، ومعنى { مَّرْصُوصٌ } ملتزق بعضه ببعض ، يقال رصصت البناء أرصه رصاً إذا ضممت بعضه إلى بعض . قال الفرّاء مرصوص بالرصاص . قال المبرد هو مأخوذ من رصصت البناء إذا لايمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة ، وقيل هو من الرصيص ، وهو ضمّ الأشياء بعضها إلى بعض ، والتراصّ التلاصق . { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } لما ذكر سبحانه أنه يحبّ المقاتلين في سبيله بيّن أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد ، وجاهدا في سبيل الله ، وحلّ العقاب بمن خالفهما ، والظرف متعلق بمحذوف هو اذكر ، أي اذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين وقت قول موسى ، ويجوز أن يكون وجه ذكر قصة موسى وعيسى بعد محبة المجاهدين في سبيل الله التحذير لأمة محمد أن يفعلوا مع نبيهم ما فعله قوم موسى وعيسى معهما { لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى } هذا مقول القول ، أي لم تؤذونني بمخالفة ما أمركم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم ، أو لم تؤذونني بالشتم والانتقاص ، ومن ذلك رميه بالأدرة ، وقد تقدّم بيان هذا في سورة الأحزاب ، وجملة { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ } في محلّ نصب على الحال ، « وقد » لتحقق العلم ، أو لتأكيده ، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار ، والمعنى كيف تؤذونني مع علمكم بأني رسول الله ، والرسول يحترم ويعظم ، ولم يبق معكم شك في الرسالة لما قد شاهدتم من المعجزات التي توجب عليكم الاعتراف برسالتي ، وتفيدكم العلم بها علماً يقينياً { فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } أي لما أصرّوا على الزيغ ، واستمرّوا عليه أزاغ الله قلوبهم عن الهدى ، وصرفها عن قبول الحقّ ، وقيل فلما زاغوا عن الإيمان أزاغ الله قلوبهم عن الثواب . قال مقاتل لما عدلوا عن الحق أمال الله قلوبهم عنه ، يعني أنهم لما تركوا الحقّ بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عن الحق جزاء بما ارتكبوا { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها . قال الزجاج لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق ، والمعنى أنه لا يهدي كل متصف بالفسق ، وهؤلاء من جملتهم . { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } معطوف على { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ } معمول لعامله ، أو معمول لعامل مقدّر معطوف على عامل الظرف الأوّل { مَرْيَمَ يٰبَنِى إِسْرٰءيلَ إِنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } أي إني رسول الله إليكم بالإنجيل مصدّقاً لما بين يديّ من التوراة لأني لم آتكم بشيء يخالف التوراة ، بل هي مشتملة على التبشير بي ، فكيف تنفرون عني وتخالفونني ، وانتصاب { مصدّقاً } على الحال ، وكذا { مُبَشّرًا } ، والعامل فيهما ما في الرسول من معنى الإرسال ، والمعنى أني أرسلت إليكم حال كوني مصدّقاً لما بين يدي من التوراة ، ومبشراً بمن يأتي بعدي ، وإذا كنت كذلك في التصديق والتبشير ، فلا مقتضى لتكذيبي ، وأحمد اسم نبينا صلى الله عليه وسلم ، وهو علم منقول من الصفة ، وهي تحتمل أن تكون مبالغة من الفاعل ، فيكون معناها أنه أكثر حمداً لله من غيره ، أو من المفعول ، فيكون معناها أنه يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره . قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، والسلمي ، وزرّ بن حبيش ، وأبو بكر عن عاصم من بعدي بفتح الياء . وقرأ الباقون بإسكانها { فَلَمَّا جَاءهُم بِٱلْبَيّنَـٰتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي لما جاءهم عيسى بالمعجزات قالوا هذا الذي جاءنا به سحر واضح ظاهر ، وقيل المراد محمد صلى الله عليه وسلم ، أي لما جاءهم بذلك قالوا هذه المقالة ، والأوّل أولى . قرأ الجمهور { سحر } وقرأ حمزة ، والكسائي ساحر . { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى ٱلإسْلاَمِ } أي لا أحد أكثر ظلماً منه حيث يفتري على الله الكذب ، والحال أنه يدعى إلى دين الإسلام الذي هو خير الأديان وأشرفها لأن من كان كذلك ، فحقه أن لا يفتري على غيره الكذب ، فكيف يفتريه على ربه . قرأ الجمهور { وهو يدعى } من الدعاء مبنياً للمفعول . وقرأ طلحة بن مصرف يدعي بفتح الياء وتشديد الدال من الادّعاء مبنياً للفاعل ، وإنما عدّي بإلى لأنه ضمن معنى الانتماء والانتساب { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها . والمعنى لا يهدي من اتصف بالظلم ، والمذكورون من جملتهم { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ } الإطفاء الإخماد ، وأصله في النار ، واستعير لما يجري مجراها من الظهور . والمراد بنور الله القرآن ، أي يريدون إبطاله ، وتكذيبه بالقول ، أو الإسلام ، أو محمد ، أو الحجج والدلائل ، أو جميع ما ذكر ، ومعنى { بِأَفْوٰهِهِم } بأقوالهم الخارجة من أفواههم المتضمنة للطعن { وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ } بإظهاره في الآفاق وإعلائه على غيره . قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم { متمّ نوره } بالإضافة ، والباقون بتنوين " متمّ " { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ } ذلك ، فإنه كائن لا محالة ، والجملة في محل نصب على الحال . قال ابن عطية واللام في { ليطفئوا } لام مؤكدة دخلت على المفعول لأن التقدير يريدون أن يطفئوا ، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدّم ، كقولك لزيد ضربت ، ولرؤيتك قصدت ، وقيل هي لام العلة ، والمفعول محذوف ، أي يريدون إبطال القرآن ، أو دفع الإسلام ، أو هلاك الرسول ليطفئوا ، وقيل إنها بمعنى أن الناصبة ، وأنها ناصبة بنفسها . قال الفراء العرب تجعل لام كي في موضع أن في أراد وأمر ، وإليه ذهب الكسائي ، ومثل هذا قوله { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ } النساء 26 . وجملة { هُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } مستأنفة مقرّرة لما قبلها ، والهدى القرآن ، أو المعجزات ، ومعنى { دِينَ ٱلْحَقِّ } الملة الحقة ، وهي ملة الإسلام ومعنى { لِيُظْهِرَهُ } ليجعله ظاهراً على جميع الأديان عالياً عليها غالباً لها ، ولو كره المشركون ذلك ، فإنه كائن لا محالة . قال مجاهد ذلك إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض دين إلاّ دين الإسلام ، والدّين مصدر يعبر به عن الأديان المتعدّدة ، وجواب " لو " في الموضعين محذوف ، والتقدير أتمه وأظهره . وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون وددنا لو أن الله أخبرنا بأحبّ الأعمال فنعمل به ، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن أحبّ الأعمال إيمان بالله لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ، ولم يقرّوا به ، فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين ، وشقّ عليهم أمره ، فقال الله { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه في قوله { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } قال هذه الآية في القتال وحده ، وهم قوم كانوا يأتون النبيّ ، فيقول الرجل قاتلت وضربت بسيفي ، ولم يفعلوا ، فنزلت . وأخرج عبد بن حميد ، وابن مردويه عنه أيضاً قال قالوا لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لفعلناه ، فأخبرهم الله ، فقال { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ } فكرهوا ذلك ، فأنزل الله { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ } قال مثبت لا يزول ملصق بعضه على بعض . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لي أسماء أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا العاقب والعاقب الذي ليس بعده نبيّ " .