Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 68, Ayat: 17-33)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { إِنَّا بَلَوْنَـٰهُمْ } يعني كفار مكة ، فإن الله ابتلاهم بالجوع والقحط بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ، والابتلاء الاختبار ، والمعنى أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا ، فلما بطروا ابتليناهم بالجوع والقحط { كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ } المعروف خبرهم عندهم ، وذلك أنها كانت بأرض اليمن على فرسخين من صنعاء لرجل يؤدّي حق الله منها ، فمات ، وصارت إلى أولاده ، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحقّ الله فيها . قال الواحدي هم قوم من ثقيف كانوا باليمن مسلمين ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنات وزرع ونخيل ، وكان أبوهم يجعل مما فيها من كل شيء حظاً للمساكين عند الحصاد والصرام ، فقالت بنوه المال قليل والعيال كثير ، ولا يسعنا أن نفعل كما كان يفعل أبونا ، وعزموا على حرمان المساكين ، فصارت عاقبتهم إلى ما قصّ الله في كتابه . قال الكلبي كان بينهم وبين صنعاء فرسخان ابتلاهم الله بأن حرق جنتهم . وقيل هي جنة كانت بصوران ، وصوران على فراسخ من صنعاء ، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى بيسير { إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } أي حلفوا ليقطعنها داخلين في وقت الصباح ، والصرم القطع للثمر والزرع ، وانتصاب { مُّصْبِحِينَ } على الحال من فاعل ليصرمنها ، والكاف في { كَمَا بَلَوْنَا } نعت مصدر محذوف أي بلوناهم ابتلاء كما بلونا ، وما مصدرية ، أو بمعنى الذي ، وإذ ظرف لبلونا منتصب به ، وليصرمنها جواب القسم { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } يعني ولا يقولون إن شاء الله ، وهذه الجملة مستأنفة لبيان ما وقع منهم أو حال . وقيل المعنى ولا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم إليهم ، قاله عكرمة . { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ } أي طاف على تلك الجنة طائف من جهة الله سبحانه ، والطائف قيل هو نار أحرقتها حتى صارت سوداء ، كذا قال مقاتل . وقيل الطائف جبريل اقتلعها ، وجملة { وَهُمْ نَائِمُونَ } في محل نصب على الحال { فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } أي كالشيء الذي صرمت ثماره أي قطعت ، فعيل بمعنى مفعول ، وقال الفرّاء كالصريم كالليل المظلم ، ومنه قول الشاعر @ تطاول ليلك الجون الصريم فما ينجاب عن صبح بهيم @@ والمعنى أنها حرقت فصارت كالليل الأسود ، قال والصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة . وقال الأخفش أي كالصبح انصرم من الليل ، يعني أنها يبست وابيضت . وقال المبرد الصريم الليل ، والصريم النهار أي ينصرم هذا عن هذا ، وذاك عن هذا ، وقيل سمي الليل صريماً لأنه يقطع بظلمته عن التصرّف ، وقال المؤرج الصريم الرملة لأنها لا يثبت عليها شيء ينتفع به ، وقال الحسن صرم منها الخير أي قطع { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } أي نادى بعضهم بعضاً داخلين في الصباح . قال مقاتل لما أصبحوا قال بعضهم لبعض { أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ } و « أن » في قوله { أَنِ ٱغْدُواْ } هي المفسرة لأنّ في التنادي معنى القول ، أو هي المصدرية أي بأن اغدوا ، والمراد اخرجوا غدوة ، والمراد بالحرث الثمار والزرع { إِن كُنتُمْ صَـٰرِمِينَ } أي قاصدين للصرم ، والغدوّ يتعدّى بإلى وعلى ، فلا حاجة إلى تضمينه معنى الإقبال كما قيل ، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم صارمين فاغدوا ، وقيل معنى صارمين ماضين في العزم ، من قولك سيف صارم { فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَـٰفَتُونَ } أي ذهبوا إلى جنتهم وهم يسرّون الكلام بينهم لئلا يعلم أحد بهم ، يقال خفت يخفت ، إذا سكن ولم ينبس ، ومنه قول دريد بن الصمة @ وإني لم أهلك ملالا ولم أمت خفاتا وكلا ظنه بي عويمر @@ وقيل المعنى يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم ، فيقصدوهم ، كما كانوا يقصدون أباهم وقت الحصاد ، والأوّل أولى لقوله { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ } فإنّ « أن » هي المفسرة للتخافت المذكور لما فيه من معنى القول ، والمعنى يسرّ بعضهم إلى بعض هذا القول ، وهو لا يدخل هذه الجنة اليوم عليكم مسكين ، فيطلب منكم أن تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم . { وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَـٰدِرِينَ } الحرد يكون بمعنى المنع والقصد . قال قتادة ، ومقاتل ، والكلبي ، والحسن ، ومجاهد الحرد هنا بمعنى القصد لأن القاصد إلى الشيء حارد . يقال حرد يحرد إذا قصد ، تقول حردت حردك أي قصدت قصدك ، ومنه قول الراجز @ أقبل سيل جاء من عند الله يحرد حرد الجنة المغلة @@ وقال أبو عبيدة ، والمبرد ، والقتيبي على حرد على منع ، من قولهم حردت الإبل حرداً إذا قلت ألبانها ، والحرود من النوق هي القليلة اللبن . وقال السديّ ، وسفيان ، والشعبي { عَلَىٰ حَرْدٍ } على غضب ، ومنه قول الشاعر @ إذا جياد الخيل جاءت تردى مملوءة من غضب وحرد @@ وقول الآخر @ تساقوا على حرد دماء الأساود @@ ومنه قيل أسد حارد ، وروي عن قتادة ، ومجاهد أيضاً أنهما قالا على حرد أي على حسد . وقال الحسن أيضاً على حاجة وفاقة . وقيل على حرد على انفراد ، يقال حرد يحرد حرداً أو حروداً إذا تنحى عن قومه ، ونزل منفرداً عنهم ولم يخالطهم ، وبه قال الأصمعي ، وغيره . وقال الأزهري حرد اسم قريتهم ، وقال السديّ اسم جنتهم . قرأ الجمهور { حرد } بسكون الراء . وقرأ أبو العالية ، وابن السميفع بفتحها ، وانتصاب { قَـٰدِرِينَ } على الحال . قال الفراء ومعنى { قَـٰدِرِينَ } قد قدروا أمرهم وبنوا عليه ، وقال قتادة قادرين على جنتهم عند أنفسهم . وقال الشعبي يعني قادرين على المساكين { فَلَمَّا رَأَوْهَا } أي لما رأوا جنتهم ، وشاهدوا ما قد حلّ بها من الآفة التي أذهبت ما فيها { قَالُواْ إِنَّا لَضَالُّونَ } أي قال بعضهم لبعض قد ضللنا طريق جنتنا ، وليست هذه . ثم لما تأملوا وعلموا أنها جنتهم ، وأن الله سبحانه قد عاقبهم بإذهاب ما فيها من الثمر والزرع ، قالوا { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي حرمنا جنتنا بسبب ما وقع منا من العزم على منع المساكين من خيرها ، فأضربوا عن قولهم الأوّل إلى هذا القول ، وقيل معنى قولهم { إِنَّا لَضَالُّونَ } أنهم ضلوا عن الصواب بما وقع منهم . { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } أي أمثلهم وأعقلهم وخيرهم { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ } أي هلا تسبحون يعني تستثنون ، وسمي الاستثناء تسبيحاً لأنه تعظيم لله وإقرار به ، وهذا يدلّ على أن أوسطهم كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه ، وقال مجاهد ، وأبو صالح ، وغيرهما كان استثناؤهم تسبيحاً . قال النحاس أصل التسبيح التنزيه لله عزّ وجلّ ، فجعل التسبيح في موضع إن شاء الله ، وقيل المعنى هلا تستغفرون الله من فعلكم ، وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها ، وكان أوسطهم قد قال لهم ذلك ، فلما قال لهم ذلك بعد مشاهدتهم للجنة على تلك الصفة قالوا { سُبْحَـٰنَ رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِينَ } أي تنزيهاً له عن أن يكون ظالماً فيما صنع بجنتنا ، فإن ذلك بسبب ذنبنا الذي فعلناه . وقيل معنى تسبيحهم الاستغفار أي نستغفر ربنا من ذنبنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا للمساكين . { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَـٰوَمُونَ } أي يلوم بعضهم بعضاً في منعهم للمساكين وعزمهم على ذلك ، ثم نادوا على أنفسهم بالويل حيث قالوا { يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَـٰغِينَ } أي عاصين متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء وترك الاستثناء . قال ابن كيسان أي طغينا نعم الله ، فلم نشكرها كما شكرها أبونا من قبل ، ثم رجعوا إلى الله وسألوه أن يعوّضهم بخير منها ، فقالوا { عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مّنْهَا } لما اعترفوا بالخطيئة رجوا من الله عزّ وجلّ أن يبدلهم جنة خيراً من جنتهم ، قيل إنهم تعاقدوا فيما بينهم ، وقالوا إن أبدلنا الله خيراً منها لنصنعنّ كما صنع أبونا ، فدعوا الله وتضرّعوا ، فأبدلهم من ليلتهم ما هو خير منها . قرأ الجمهور { يبدلنا } بالتخفيف ، وقرأ أبو عمرو ، وأهل المدينة بالتشديد ، وهما لغتان ، والتبديل تغيير ذات الشيء ، أو تغيير صفته ، والإبدال رفع الشيء جملة ، ووضع آخر مكانه ، كما مضى في سورة سبأ { إِنَّا إِلَىٰ رَبّنَا رٰغِبُونَ } أي طالبون منه الخير راجون لعفوه راجعون إليه ، وعدي بإلى ، وهو إنما يتعدى بعن أو في لتضمينه معنى الرجوع { كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ } أي مثل ذلك العذاب الذي بلوناهم به ، وبلونا أهل مكة عذاب الدنيا ، والعذاب مبتدأ مؤخر ، و { كذلك } خبره { وَلَعَذَابُ ٱلأَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي أشد وأعظم لو كان المشركون يعلمون أنه كذلك ، ولكنهم لا يعلمون . وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ } قال هم ناس من الحبشة كان لأبيهم جنة ، وكان يطعم منها المساكين ، فمات أبوهم ، فقال بنوه أن كان أبونا لأحمق كان يطعم المساكين فـ { أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } وأن لا يطعموا مسكيناً . وأخرج ابن جرير عنه { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ } قال أمر من الله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إياكم والمعصية ، فإن العبد ليذنب الذنب الواحد ، فينسّى به الباب من العلم ، وإن العبد ليذنب ، فيحرم به قيام الليل ، وإن العبد ليذنب الذنب ، فيحرم به رزقاً قد كان هيىء له . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَطَافَ عَلَيْهِا طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } قد حرموا خير جنتهم بذنبهم " وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { كَٱلصَّرِيمِ } قال مثل الليل الأسود . وأخرج ابن المنذر عنه { وَهُمْ يَتَخَـٰفَتُونَ } قال الإسرار والكلام الخفيّ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً { عَلَىٰ حَرْدٍ قَـٰدِرِينَ } يقول ذو قدرة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { إِنَّا لَضَالُّونَ } قال أضللنا مكان جنتنا . وأخرجا عنه أيضاً { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } قال أعدلهم .