Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 72, Ayat: 14-28)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ } هم الذين آمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم . { وَمِنَّا ٱلْقَـٰسِطُونَ } أي الجائرون الظالمون الذين حادوا عن طريق الحق ومالوا إلى طريق الباطل ، يقال قسط إذا جار ، وأقسط إذا عدل { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } أي قصدوا طريق الحق . قال الفراء أمَّوا الهدى . { وَأَمَّا ٱلْقَـٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أي وقوداً للنار توقد بهم ، كما توقد بكفرة الإنس { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } هذا ليس من قول الجنّ بل هو معطوف على { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ ٱلْجِنّ } الجن 1 والمعنى وأوحي إليّ أن الشأن لو استقام الجنّ أو الإنس ، أو كلاهما على الطريقة ، وهي طريقة الإسلام ، وقد قدّمنا أن القراء اتفقوا على فتح أن هٰهنا . قال ابن الأنباري والفتح هنا على إضمار يمين تأويلها والله أن لو استقاموا على الطريقة كما فعل ، يقال في الكلام والله لو قمت لقمت ، كما في قول الشاعر @ أما والله أن لو كنت حرّا ولا بالحرّ أنت ولا العتيق @@ قال أو على { أوحي إليّ أنه استمع } ، { وأن لو استقاموا } ، أو على { آمنا به } أي آمنا به ، وبأن لو استقاموا . قرأ الجمهور بكسر الواو من لو لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن وثاب ، والأعمش بضمها { لأَسْقَيْنَـٰهُم مَّاء غَدَقاً } أي كثيراً واسعاً . قال مقاتل ماء كثيراً من السماء ، وذلك بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين . وقال ابن قتيبة المعنى لو آمنوا جميعاً لوسعنا عليهم في الدنيا ، وضرب الماء الغدق مثلاً لأن الخير كله والرزق بالمطر ، وهذا كقوله { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ } المائدة 65 الآية ، وقوله { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } الطلاق 2 3 وقوله { فقلت ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ } نوح 10 ــ 12 الآية . وقيل المعنى وأن لو استقام أبوهم على عبادته ، وسجد لآدم ولم يكفر ، وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ، واختار هذا الزجاج . والماء الغدق هو الكثير في لغة العرب . { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي لنختبرهم ، فنعلم كيف شكرهم على تلك النعم . وقال الكلبي المعنى وأن لو استقاموا على الطريقة التي هم عليها من الكفر ، فكانوا كلهم كفاراً ، لأوسعنا أرزاقهم مكراً بهم واستدراجاً حتى يفتنوا بها ، فنعذبهم في الدنيا والآخرة . وبه قال الربيع بن أنس ، وزيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمٰن ، والثمالي ، ويمان بن زيان ، وابن كيسان ، وأبو مجلز ، واستدلوا بقوله { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء } الأنعام 44 ، وقوله { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وٰحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ } الزخرف 33 الآية ، والأوّل أولى { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } أي ومن يعرض عن القرآن ، أو عن العبادة ، أو عن الموعظة ، أو عن جميع ذلك يسلكه أي يدخله عذاباً صعداً أي شاقاً صعباً . قرأ الجمهور " نسلكه " بالنون مفتوحة . وقرأ الكوفيون ، وأبو عمرو في رواية عنه بالياء التحتية ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم لقوله { عَن ذِكْرِ رَبّهِ } ولم يقل " عن ذكرنا " . وقرأ مسلم بن جندب ، وطلحة بن مصرّف ، والأعرج بضم النون وكسر اللام من أسلكه ، وقراءة الجمهور من سلكه . والصعد في اللغة المشقة ، تقول تصعد بي الأمر إذا شقّ عليك ، وهو مصدر صعد ، يقال صعد صعداً وصعوداً ، فوصف به العذاب مبالغة لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه . قال أبو عبيد الصعد مصدر ، أي عذاباً ذا صعد . وقال عكرمة الصعد هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها ، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم ، كما في قوله { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } المدثر 17 والصعود العقبة الكئود . { وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ } قد قدّمنا اتفاق القراء هنا على الفتح ، فهو معطوف على أنه استمع ، أي وأوحي إليّ أن المساجد مختصة بالله . وقال الخليل التقدير ولأن المساجد . والمساجد المواضع التي بنيت للصلاة فيها . قال سعيد بن جبير قالت الجنّ كيف لنا أن نأتي المساجد ، ونشهد معك الصلاة ، ونحن ناؤون عنك ؟ فنزلت . وقال الحسن أراد بها كل البقاع لأن الأرض كلها مسجد . وقال سعيد بن المسيب ، وطلق بن حبيب أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد ، وهي القدمان والركبتان واليدان والجبهة ، يقول هذه أعضاء أنعم الله بها عليك ، فلا تسجد بها لغيره فتجحد نعمة الله ، وكذا قال عطاء . وقيل المساجد هي الصلاة لأن السجود من جملة أركانها ، قاله الحسن { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } من خلقه كائناً ما كان . { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ } قد قدّمنا أن الجمهور قرءوا هنا بفتح « أن » ، عطفاً على أنه استمع ، أي وأوحي إليّ أنّ الشأن لما قام عبد الله ، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم { يَدْعُوهُ } أي يدعوا الله ويعبده ، وذلك ببطن نخلة ، كما تقدّم حين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويتلو القرآن ، وقد قدّمنا أيضاً قراءة من قرأ بكسر « إن » هنا ، وفيها غموض وبعد عن المعنى المراد { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } أي كاد الجنّ يكونون على رسول الله صلى الله عليه وسلم لبداً أي متراكمين من ازدحامهم عليه لسماع القرآن منه . قال الزجاج ومعنى { لِبَداً } يركب بعضهم بعضاً ، ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفرش . قرأ الجمهور { لبداً } بكسر اللام وفتح الباء . وقرأ مجاهد ، وابن محيصن ، وهشام بضم اللام وفتح الباء ، وقرأ أبو حيوة ، ومحمد بن السميفع ، والعقيلي ، والجحدري بضم الباء واللام . وقرأ الحسن ، وأبو العالية ، والأعرج بضم اللام وتشديد الباء مفتوحة . فعلى القراءة الأولى المعنى ما ذكرناه ، وعلى قراءة ضم اللام يكون المعنى كثيراً ، كما في قوله { أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } البلد 6 وقيل المعنى كاد المشركون يركب بعضهم بعضاً حرداً على النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن ، وقتادة ، وابن زيد لما قام عبد الله محمد بالدعوة ، تلبدت الإنس والجنّ على هذا الأمر ليطفئوه ، فأبى الله إلاّ أن ينصره ويتم نوره . واختار هذا ابن جرير . قال مجاهد { لِبَداً } أي جماعات ، وهو من تلبد الشيء على الشيء ، أي اجتمع ، ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه ، وكل شيء ألصقته إلصاقاً شديداً ، فقد لبدته ، ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد لبدة ، وجمعها لبد ، ويقال للجراد الكثير لبد ويطلق اللبد بضم اللام وفتح الباء على الشيء الدائم ، ومنه قيل لنسر لقمان لبد لطول بقائه ، وهو المقصود بقول النابغة @ أخنى عليها الذي أخنى على لبد @@ { قَالَ إِنَّمَا ٱدْعُو رَبّى } أي قال عبد الله إنما أدعو ربي وأعبده { وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } من خلقه . قرأ الجمهور { قال } وقرأ عاصم ، وحمزة " قل " على الأمر . وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنك جئت بأمر عظيم ، وقد عاديت الناس كلهم ، فارجع عن هذا فنحن نجيرك . { قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } أي لا أقدر أن أدفع عنك ضرّاً ولا أسوق إليكم خيراً . وقيل الضرّ الكفر ، والرشد الهدى ، والأوّل أولى لوقوع النكرتين في سياق النفي ، فهما يعمان كل ضرر وكل رشد في الدنيا والدين . { قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ } أي لا يدفع عني أحد عذابه إن أنزله بي { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } أي ملجأ ومعدلاً وحرزاً ، والملتحد معناه في اللغة الممال أي موضعاً أميل إليه . قال قتادة مولى . وقال السديّ حرزاً ، وقال الكلبي مدخلاً في الأرض مثل السرب . وقيل مذهباً ومسلكاً ، والمعنى متقارب ، ومنه قول الشاعر @ يا لهف نفسي ولهفاً غير مجدية عني وما من قضاء الله ملتحد @@ والاستثناء في قوله { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ } هو من قوله { لا أملك } أي لا أملك ضرّاً ولا رشداً إلاّ التبليغ من الله ، فإن فيه أعظم الرشد ، أو من ملتحداً ، أي لن أجد من دونه ملجأ إلاّ التبليغ . قال مقاتل ذلك الذي يجيرني من عذابه . وقال قتادة إلاّ بلاغاً من الله ، فذلك الذي أملكه بتوفيق الله ، فأما الكفر والإيمان فلا أملكهما . قال الفراء لكن أبلغكم ما أرسلت به ، فهو على هذا منقطع . وقال الزجاج هو منصوب على البدل من قوله { مُلْتَحَدًا } أي ولن أجد من دونه ملتحداً إلاّ أن أبلغ ما يأتي من الله ، وقوله { وَرِسَـٰلَـٰتِهِ } معطوف على { بلاغاً } أي إلاّ بلاغاً من الله ، وإلاّ رسالاته التي أرسلني بها إليكم ، أو إلاّ أن أبلغ عن الله ، وأعمل برسالاته ، فآخذ نفسي بما آمر به غيري . وقيل الرسالات معطوفة على الاسم الشريف ، أي إلاّ بلاغاً عن الله وعن رسالاته ، كذا قال أبو حيان ورجحه { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } في الأمر بالتوحيد لأن السياق فيه { فإن لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } قرأ الجمهور بكسر إن على أنها جملة مستأنفة . وقرىء بفتح الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء ، والتقدير فجزاؤه أن له نار جهنم . أو فحكمه أن له نار جهنم ، وانتصاب { خَـٰلِدِينَ فِيهَا } على الحال ، أي في النار ، أو في جهنم ، والجمع باعتبار معنى مَن كما أن التوحيد في قوله { فَإِنَّ لَهُ } باعتبار لفظها ، وقوله { أَبَدًا } تأكيد لمعنى الخلود ، أي خالدين فيها بلا نهاية { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } يعني من العذاب في الدنيا أو في الآخرة . والمعنى لا يزالون على ما هم عليه من الإصرار على الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حتى إذا رأوا الذي يوعدون به { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } أي من هو أضعف جنداً ينتصر به ، وأقلّ عدداً أهم أم المؤمنون ؟ { قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } أي ما أدري أقريب حصول ما توعدون من العذاب { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً } أي غاية ومدّة . أمره الله سبحانه أن يقول لهم هذا القول لما قالوا له متى يكون هذا الذي توعدنا به ؟ قال عطاء يريد أنه لا يعرف يوم القيامة إلاّ الله وحده ، والمعنى أن علم وقت العذاب علم غيب لا يعلمه إلاّ الله . قرأ الجمهور { ربي } بإسكان الياء . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو بفتحها ، " وَمِنْ " في { مَنْ أَضْعَفُ } موصولة ، وأضعف خبر مبتدأ محذوف ، أي هو أضعف ، والجملة صلة الموصول ، ويجوز أن تكون استفهامية مرتفعة على الابتداء ، وأضعف خبرها ، والجملة في محل نصب سادة مسدّ مفعولي أدري ، وقوله { أَقَرِيبٌ } خبر مقدّم { وَمَا تُوعَدُونَ } مبتدأ مؤخر . { عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ } قرأ الجمهور بالرفع على أنه بدل من ربي ، أو بيان له ، أو خبر مبتدأ محذوف ، والجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها من عدم الدراية . وقرىء بالنصب على المدح . وقرأ السدي علم الغيب بصيغة الفعل ونصب الغيب ، والفاء في { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } لترتيب عدم الإظهار على تفرّده بعلم الغيب ، أي لا يطلع على الغيب الذي يعلمه ، وهو ما غاب عن العباد أحداً منهم ، ثم استثنى فقال { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } أي إلاّ من اصطفاه من الرسل ، أو من ارتضاه منهم لإظهاره على بعض غيبه ليكون ذلك دالاً على نبوّته . قال القرطبي قال العلماء لما تمدح سبحانه بعلم الغيب ، واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضى من الرسل ، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم ، وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى ، وينظر في الكف ، ويزجر بالطين ممن ارتضاه من رسول ، فيطلعه على ما يشاء من غيبه ، فهو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه . وقال سعيد بن جبير إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ هو جبريل ، وفيه بعد . وقيل المراد بقوله { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } فإنه يطلعه على بعض غيبه ، وهو ما يتعلق برسالته كالمعجزة ، وأحكام التكاليف ، وجزاء الأعمال ، وما يبينه من أحوال الآخرة ، لا ما لا يتعلق برسالته من الغيوب ، كوقت قيام الساعة ونحوه . قال الواحدي وفي هذا دليل على أن من ادّعى أن النجوم تدله على ما يكون من حادث فقد كفر بما في القرآن . قال في الكشاف وفي هذا إبطال للكرامات ، لأن الذين تضاف إليهم ، وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل ، وقد خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب ، وإبطال للكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء ، وأدخله في السخط . قال الرازي وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه ، فتحمل على غيب واحد ، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله { أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } الآية . فإن قيل فما معنى الاستثناء حينئذٍ ؟ قلنا لعله إذا قربت القيامة يظهره ، وكيف لا ؟ وقد قال { ويَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَاء بِٱلْغَمَـٰمِ وَنُزّلَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ تَنزِيلاً } الفرقان 25 فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة ، أو هو استثناء منقطع أي من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس . ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت ، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره ، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى . فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات ، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة ، ويكون صادقاً فيها ، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان ، وسألها عن أمور مستقبلة ، فأخبرته بها ، فوقعت على وفق كلامها . قال وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل ، فكانت على وفق خبرها . وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال فحصت عن حالها ثلاثين سنة ، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً . وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة ، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً ، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة ، وإن كانت قد تتخلف ، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن ، فيكون التأويل ما ذكرنا ، انتهى كلامه . قلت أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه ، فباطل ، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم ، كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم . وأما قوله أو هو استثناء منقطع ، فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني . وأما قوله إن شقاً وسطيحاً إلخ ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع ، ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان ، فيخلطون الصدق بالكذب ، كما ثبت في الحديث الصحيح . وفي قوله { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ } الصافات 10 ونحوها من الآيات ، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة ، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية . وقالوا { وأَنَاْ لَمَسْنَا ٱلسَّمَاء فَوَجَدْنَـٰهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـٰعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } الجن 8 9 فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته ، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم ، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية . وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة ، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث " إن في هذه الأمة محدّثين ، وإن منهم عمر " فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها ، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه . فلو قلنا إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن ، فيقال له ما هذه بأوّل زلة من زلاتك ، وسقطة من سقطاتك ، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك ، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك ، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن ، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا @ وإذا رامت الذبابة للشمـ ـس غطاء مدّت عليها جناحا @@ وقلت من أبيات @ مهب رياح سدّه بجناح وقابل بالمصباح ضوء صباح @@ فإن قلت إذن قد تقرّر بهذا الدليل القرآني أن الله يظهر من ارتضى من رسله على ما شاء من غيبه ، فهل للرسول الذي أظهره الله على ما شاء من غيبه أن يخبر به بعض أمته ؟ قلت نعم ، ولا مانع من ذلك . وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا ما لا يخفى على عارف بالسنة المطهرة ، فمن ذلك ما صحّ أنه قام مقاماً أخبر فيه بما سيكون إلى يوم القيامة ، وما ترك شيئًا مما يتعلق بالفتن ونحوها ، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه ، وكذلك ما ثبت من أن حذيفة بن اليمان كان قد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحدث من الفتن بعده ، حتى سأله عن ذلك أكابر الصحابة ورجعوا إليه . وثبت في الصحيح وغيره « أن عمر بن الخطاب سأله عن الفتنة التي تموج كموج البحر ، فقال إن بينك وبينها باباً ، فقال عمر هل يفتح أو يكسر ؟ فقال بل يكسر ، فعلم عمر أنه الباب ، وأن كسره قتله » ، كما في الحديث الصحيح المعروف أنه قيل لحذيفة هل كان عمر يعلم ذلك ؟ فقال نعم كان يعلم أن دون غد الليلة . وكذلك ما ثبت من إخباره لأبي ذرّ بما يحدث له ، وإخباره لعليّ بن أبي طالب بخبر ذي الثدية ، ونحو هذا مما يكثر تعدده ، ولو جمع لجاء منه مصنف مستقلّ . وإذا تقرّر هذا فلا مانع من أن يختصّ بعض صلحاء هذه الأمة بشيء من أخبار الغيب التي أظهرها الله لرسوله ، وأظهرها رسوله لبعض أمته ، وأظهرها هذا البعض من الأمة لمن بعدهم ، فتكون كرامات الصالحين من هذا القبيل ، والكل من الفيض الرّباني بواسطة الجناب النبويّ . ثم ذكر سبحانه أنه يحفظ ذلك الغيب الذي يطلع عليه الرسول فقال { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } والجملة تقرير للإظهار المستفاد من الاستثناء ، والمعنى أنه يجعل سبحانه بين يدي الرسول ومن خلفه حرساً من الملائكة يحرسونه من تعرّض الشياطين لما أظهره عليه من الغيب ، أو يجعل بين يدي الوحي وخلفه حرساً من الملائكة يحوطونه من أن تسترقه الشياطين ، فتلقيه إلى الكهنة ، والمراد من جميع الجوانب . قال الضحاك ما بعث الله نبياً إلاّ ومعه ملائكة يحفظونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك ، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا هذا شيطان فاحذره ، وإن جاءه الملك قالوا هذا رسول ربك . قال ابن زيد { رَّصَداً } ، أي حفظة يحفظون النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجنّ والشياطين . قال قتادة ، وسعيد بن المسيب هم أربعة من الملائكة حفظة . وقال الفراء المراد جبريل . قال في الصحاح الرصد القوم يرصدون كالحرس يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث ، والرصد للشيء الراقب له ، يقال رصده يرصده رصداً ورصداً ، والترصد الترقب ، والمرصد موضع الرصد . { لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَـٰلَـٰتِ رَبّهِمْ } اللام متعلق بـ { يسلك } ، والمراد به العلم المتعلق بالإبلاغ الموجود بالفعل ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، والخبر الجملة ، والرسالات عبارة عن الغيب الذي أريد إظهاره لمن ارتضاه الله من رسول ، وضمير أبلغوا يعود إلى الرصد . وقال قتادة ، ومقاتل ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة ، وفيه حذف تتعلق به اللام ، أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على حالته من التبليغ . وقيل ليعلم محمد أن جبريل ومن معه قد أبلغوا إليه رسالات ربه ، قاله سعيد بن جبير . وقيل ليعلم الرسل أن الملائكة قد بلغوا رسالات ربهم . وقيل ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم من غير تخليط . وقال ابن قتيبة ، أي ليعلم الجنّ أن الرسل قد أبلغوا ما أنزل إليهم ، ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم . وقال مجاهد ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم . قرأ الجمهور { ليعلم } بفتح التحتية على البناء للفاعل . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وحميد ، ويعقوب ، وزيد بن علي بضمها على البناء للمفعول ، أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا . وقال الزجاج ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته ، أي ليعلم ذلك عن مشاهدة كما علمه غيباً . وقرأ ابن أبي عبلة ، والزهري بضم الياء وكسر اللام { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } أي بما عنده الرصد من الملائكة ، أو بما عند الرسل المبلغين لرسالاته ، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل يسلك بإضمار قد ، أي والحال أنه تعالى قد أحاط بما لديهم من الأحوال . قال سعيد بن جبير ليعلم أن ربهم قد أحاط بما لديهم فبلغوا رسالاته ، { وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَىْء عَدَداً } من جميع الأشياء التي كانت والتي ستكون ، وهو معطوف على أحاط ، وعدداً يجوز أن يكون منتصباً على التمييز محوّلاً من المفعول به ، أي وأحصى عدد كل شيء ، كما في قوله { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } القمر 12 ويجوز أن يكون منصوباً على المصدرية ، أو في موضع الحال معدوداً ، والمعنى أن علمه سبحانه بالأشياء ليس على وجه الإجمال ، بل على وجه التفصيل ، أي أحصى كل فرد من مخلوقاته على حدة . وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال { ٱلْقَـٰسِطُونَ } العادلون عن الحقّ . وأخرج ابن جرير عنه في قوله { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } قال أقاموا ما أمروا به { لأَسْقَيْنَـٰهُم مَّاء غَدَقاً } قال معيناً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن السديّ قال قال عمر { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَـٰهُم مَّاء غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } قال حيثما كان الماء كان المال ، وحيثما كان المال كانت الفتنة . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } قال لنبتليهم به . وفي قوله { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } قال شقة من العذاب يصعد فيها . وأخرج هناد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عنه في قوله { يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } قال حبلاً في جهنم . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً { عَذَاباً صَعَداً } قال لا راحة فيه . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله { وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ } قال لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلاّ مسجد الحرام ومسجد إيلياء ببيت المقدس . وأخرج ابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة ، فخط لي خطاً ، وقال « لا تحدثن شيئًا حتى آتيك ، ثم قال لا يهولنك شيئًا تراه » ، فتقدم شيئًا ثم جلس ، فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ ، وكانوا كما قال الله تعالى { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه ، ودنوا منه ، فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول ، فجعل يقرئه { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ ٱلْجِنّ } . وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال « لما أتى الجنّ إلى رسول الله ، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ، ويسجدون بسجوده ، فعجبوا من طواعية أصحابه ، فقالوا لقومهم لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً » . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً { لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ } أي يدعو الله . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } قال أعواناً . وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عنه أيضاً { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } قال أعلم الله الرسول من الغيب الوحي ، وأظهره عليه مما أوحي إليه من غيبه ، وما يحكم الله ، فإنه لا يعلم ذلك غيره . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أيضاً { رَّصَداً } قال هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به ، وذلك حتى يقول أهل الشرك قد أبلغوا رسالات ربهم . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها ، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قرأ { عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } يعني الملائكة الأربعة { لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَـٰلَـٰتِ رَبّهِمْ } .