Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 72, Ayat: 1-13)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ } قرأ الجمهور { أوحى } رباعياً . وقرأ ابن أبي عبلة ، وأبو إياس ، والعتكي عن أبي عمرو " وحي " ثلاثياً ، وهما لغتان . واختلف هل رآهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أم لم يرهم ؟ فظاهر القرآن أنه لم يرهم لأن المعنى قل يا محمد لأمتك أوحي إليّ على لسان جبريل { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ ٱلْجِنّ } ومثله قوله { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ٱلْجِنّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءانَ } الأحقاف 29 ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنّ وما رآهم . قال عكرمة والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ } العلق 1 وقد تقدّم في سورة الأحقاف ذكر ما يفيد زيادة في هذا . قوله { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ ٱلْجِنّ } هذا هو القائم مقام الفاعل ، ولهذا فتحت أنّ ، والضمير للشأن ، وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائم مقام الفاعل الجارّ والمجرور ، والنفر اسم للجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة . قال الضحاك والجنّ ولد الجانّ وليسوا شياطين . وقال الحسن إنهم ولد إبليس . قيل هم أجسام عاقلة خفية تغلب عليهم النارية والهوائية . وقيل نوع من الأرواح المجرّدة . وقيل هي النفوس البشرية المفارقة لأبدانها . وقد اختلف أهل العلم في دخول مؤمني الجنّ الجنة ، كما يدخل عصاتهم النار لقوله في سورة تبارك { وَجَعَلْنَـٰهَا رُجُوماً لّلشَّيَـٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ } الملك 5 وقول الجنّ فيما سيأتي في هذه السورة { وَأَمَّا ٱلْقَـٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } الجن 15 وغير ذلك من الآيات ، فقال الحسن يدخلون الجنة ، وقال مجاهد لا يدخلونها ، وإن صرفوا عن النار . والأوّل أولى لقوله في سورة الرحمٰن { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ } الرحمٰن 56 وفي سورة الرحمٰن آيات غير هذه تدل على ذلك فراجعها ، وقد قدّمنا أن الحق أنه لم يرسل الله إليهم رسلاً منهم ، بل الرسل جميعاً من الإنس ، وإن أشعر قوله { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ } الزمر 71 بخلاف هذا ، فهو مدفوع الظاهر بآيات كثيرة في الكتاب العزيز دالة على أن الله سبحانه لم يرسل الرسل إلاّ من بني آدم ، وهذه الأبحاث الكلام فيها يطول ، والمراد الإشارة بأخصر عبارة . { فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً } أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم ، أي سمعنا كلاماً مقروءاً عجباً في فصاحته وبلاغته . وقيل عجباً في مواعظه . وقيل في بركته ، وعجباً مصدر وصف به للمبالغة ، أو على حذف المضاف ، أي ذا عجب ، أو المصدر بمعنى اسم الفاعل أي معجباً { يَهْدِى إِلَى ٱلرُّشْدِ } أي إلى مراشد الأمور ، وهي الحقّ والصواب ، وقيل إلى معرفة الله ، والجملة صفة أخرى للقرآن { فآمنا به } أي صدّقنا به بأنه من عند الله { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً } من خلقه ، ولا نتخذ معه إلٰهاً آخر لأنه المتفرّد بالربوبية ، وفي هذا توبيخ للكفار من بني آدم حيث آمنت الجنّ بسماع القرآن مرّة واحدة ، وانتفعوا بسماع آيات يسيرة منه ، وأدركوا بعقولهم أنه كلام الله وآمنوا به ، ولم ينتفع كفار الإنس لا سيما رؤساؤهم وعظماؤهم بسماعه مرّات متعدّدة ، وتلاوته عليهم في أوقات مختلفة مع كون الرسول منهم يتلوه عليهم بلسانهم لا جرم صرعهم الله أذلّ مصرع ، وقتلهم أقبح مقتل ، ولعذاب الآخرة أشدّ لو كانوا يعلمون . { وَأَنَّهُ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبّنَا } قرأه حمزة ، والكسائي ، وابن عامر ، وحفص ، وعلقمة ، ويحيـى بن وثاب ، والأعمش ، وخلف ، والسلمي { وأنه تعالى } بفتح أنّ ، وكذا قرءوا فيما بعدها مما هو معطوف عليها ، وذلك أحد عشر موضعاً إلى قوله { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ } الجن 19 ، وقرأ الباقون بالكسر في هذه المواضع كلها إلاّ في قوله { وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ } الجن 18 فإنهم اتفقوا على الفتح ، أما من قرأ بالفتح في هذه المواضع ، فعلى العطف على محل الجار ، والمجرور في { فآمنا به } كأنه قيل فصدّقناه ، وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربنا إلخ ، وأما من قرأ بالكسر في هذه المواضع ، فعلى العطف على { إنا سمعنا } ، أي فقالوا إنا سمعنا قرآناً ، وقالوا إنه تعالى جدّ ربنا إلى آخره . واختار أبو حاتم ، وأبو عبيد قراءة الكسر لأنه كله من كلام الجنّ ومما هو محكيّ عنهم بقوله { فقالوا إنا سمعنا } . وقرأ أبو جعفر ، وشعبة بالفتح في ثلاثة مواضع ، وهي { وَأَنَّهُ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبّنَا } { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ ٱلإِنسِ } قالا لأنه من الوحي ، وكسرا ما بقي لأنه من كلام الجنّ . وقرأ الجمهور { وأنه لما قام عبد الله } الجن 19 بالفتح لأنه معطوف على قوله { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ } . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وشيبة ، وزرّ بن حبيش ، وأبو بكر ، والمفضل عن عاصم بالكسر في هذا الموضع عطفاً على فآمنا به بذلك التقدير السابق ، واتفقوا على الفتح في { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ } ، كما اتفقوا على الفتح في { أن ٱلْمَسَـٰجِدَ } الجن 18 وفي { وَإِنَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } الجن 16 واتفقوا على الكسر في { فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا } و { قُلْ إِنَّمَا ٱدْعُواْ رَبّى } الجن 20 و { قُلْ إِنْ أَدْرِى } الجن 25 و { قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ } الجن 21 . والجدّ عند أهل اللغة العظمة والجلال ، يقال جدّ في عيني أي عظم ، فالمعنى ارتفع عظمة ربنا وجلاله ، وبه قال عكرمة ، ومجاهد ، وقال الحسن المراد تعالى غناه ، ومنه قيل للحظ ، جدّ ورجل مجدود أي محظوظ ، وفي الحديث « ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ » قال أبو عبيد ، والخليل أي لا ينفع ذا الغنى منك الغنى أي إنما تنفعه الطاعة ، وقال القرطبي ، والضحاك جدّه آلاؤه ، ونعمه على خلقه . وقال أبو عبيدة ، والأخفش ملكه وسلطانه . وقال السديّ أمره . وقال سعيد بن جبير { وَأَنَّهُ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبّنَا } أي تعالى ربنا وقيل جدّه قدرته . وقال محمد بن عليّ بن الحسين ، وابنه جعفر الصادق ، والربيع بن أنس ليس لله جدّ ، وإنما قالته الجنّ للجهالة . قرأ الجمهور " جدّ " بفتح الجيم ، وقرأ عكرمة ، وأبو حيوة ، ومحمد بن السميفع بكسر الجيم ، وهو ضدّ الهزل ، وقرأ أبو الأشهب " جدي ربنا " أي جدواه ومنفعته . وروي عن عكرمة أيضاً أنه قرأ بتنوين جدّ ورفع ربنا على أنه بدل من جدّ { مَا ٱتَّخَذَ صَـٰحِبَةً وَلاَ وَلَداً } هذا بيان لتعالى جدّه سبحانه . قال الزجاج تعالى جلال ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبة أو ولداً ، وكأن الجن نبهوا بهذا على خطأ الكفار الذين ينسبون إلى الله الصاحبة والولد ، ونزّهوا الله سبحانه عنهما . { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً } الضمير في { أنه } للحديث ، أو الأمر ، { وسفيهنا } يجوز أن يكون اسم كان ، و { يقول } الخبر ، ويجوز أن يكون سفيهنا فاعل يقول ، والجملة خبر كان ، واسمها ضمير يرجع إلى الحديث ، أو الأمر ، ويجوز أن تكون كان زائدة ، ومرادهم بسفيههم عصاتهم ومشركوهم . وقال مجاهد ، وابن جريج ، وقتادة أرادوا به إبليس ، والشطط الغلوّ في الكفر . وقال أبو مالك الجور ، وقال الكلبي الكذب ، وأصله البعد عن القصد ومجاوزة الحدّ ، ومنه قول الشاعر @ بأية حال حكموا فيك فاشتطوا وما ذاك إلاّ حيث يممك الوخط @@ { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } أي إنا حسبنا أن الإنس والجنّ كانوا لا يكذبون على الله بأن له شريكاً وصاحبة وولداً ، فلذلك صدّقناهم في ذلك حتى سمعنا القرآن ، فعلمنا بطلان قولهم ، وبطلان ما كنا نظنه بهم من الصدق ، وانتصاب كذباً على أنه مصدر مؤكد ليقول لأن الكذب نوع من القول ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي قولاً كذباً . وقرأ يعقوب ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق " أن لن تقوّل " من التقوّل ، فيكون على هذه القراءة كذباً مفعول به { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ ٱلْجِنّ } قال الحسن ، وابن زيد ، وغيرهما كان العرب إذا نزل الرجل بوادٍ قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه ، فيبيت في جواره حتى يصبح ، فنزلت هذه الآية . قال مقاتل كان أوّل من تعوّذ بالجنّ قوم من أهل اليمن ، ثم من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم { فَزَادوهُمْ رَهَقاً } أي زاد رجال الجنّ من تعوذ بهم من رجال الإنس رهقاً أي سفهاً وطغياناً ، أو تكبراً وعتوّاً ، أو زاد المستعيذون من رجال الإنس من استعاذوا بهم من رجال الجنّ رهقاً لأن المستعاذ بهم كانوا يقولون سدنا الجنّ والإنس . وبالأوّل قال مجاهد ، وقتادة ، وبالثاني قال أبو العالية ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وابن زيد . والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم ، ورجل رهق إذا كان كذلك ، ومنه قوله { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } المعارج 44 أي تغشاهم ، ومنه قول الأعشى @ لا شيء ينفعني من دون رؤيتها هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا @@ يعني إثماً . وقيل الرهق الخوف ، أي أن الجنّ زادت الإنس بهذا التعوّذ بهم خوفاً منهم . وقيل كان الرجل من الإنس يقول أعوذ بفلان من سادات العرب من جنّ هذا الوادي ، ويؤيد هذا ما قيل من أن لفظ رجال لا يطلق على الجنّ ، فيكون قوله { بِرِجَالٍ } وصفاً لمن يستعيذون به من رجال الإنس ، أي يعوذون بهم من شرّ الجن ، وهذا فيه بعد ، وإطلاق لفظ رجال على الجنّ على تسليم عدم صحته لغة لا مانع من إطلاقه عليهم هنا من باب المشاركة . { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً } هذا من قول الجنّ للإنس ، أي وإن الجنّ ظنوا كما ظننتم أيها الإنس أنه لا بعث . وقيل المعنى وإن الإنس ظنوا ، كما ظننتم أيها الجنّ ، والمعنى أنهم لا يؤمنون بالبعث كما أنكم لا تؤمنون . { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَاء } هذا من قول الجنّ أيضاً ، أي طلبنا خبرها ، كما به جرت عادتنا { فَوَجَدْنَـٰهَا مُلِئَتْ حَرَساً } من الملائكة يحرسونها عن استراق السمع ، والحرس جمع حارس ، و { شَدِيداً } صفة لـ { حرساً } أي قوياً { وَشُهُباً } جمع شهاب ، وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب ، كما تقدّم بيانه في تفسير قوله { وَجَعَلْنَـٰهَا رُجُوماً لّلشَّيَـٰطِينِ } الملك 5 ومحل قوله { مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً } النصب على أنه ثاني مفعولي وجدنا لأنه يتعدّى إلى مفعولين ، ويجوز أن يكون متعدّياً إلى مفعول واحد ، فيكون محل الجملة النصب على الحال بتقدير قد ، وحرساً منصوب على التمييز ، ووصفه بالمفرد اعتباراً باللفظ ، كما يقال السلف الصالح ، أي الصالحين . { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـٰعِدَ لِلسَّمْعِ } أي وأنا كنا معشر الجنّ قبل هذا نقعد من السماء مقاعد للسمع ، أي مواضع نقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء ، وللسمع متعلق ، بـ { نقعد } أي لأجل السمع ، أو بمضمر هو صفة لمقاعد ، أي مقاعد كائنة للسمع ، والمقاعد جمع مقعد اسم مكان ، وذلك أن مردة الجنّ كانوا يفعلون ذلك ليسمعوا من الملائكة أخبار السماء فيلقونها إلى الكهنة ، فحرسها الله سبحانه ببعثه رسوله صلى الله عليه وسلم بالشهب المحرقة ، وهو معنى قوله { فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } أي أرصد له ليرمى به ، أو لأجله لمنعه من السماع ، وقوله { ٱلئَـٰنَ } هو ظرف للحال ، واستعير للاستقبال ، وانتصاب { رصداً } على أنه صفة لـ { شهاباً } ، أو مفعول له ، وهو مفرد ويجوز أن يكون اسم جمع كالحرس . وقد اختلفوا هل كانت الشياطين ترمى بالشهب قبل المبعث أم لا ؟ فقال قوم لم يكن ذلك . وحكى الواحدي عن معمر قال قلت للزهري أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية ؟ قال نعم ، قلت أفرأيت قوله { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا } الآية ، قال غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن قتيبة إن الرجم قد كان قبل مبعثه ، ولكنه لم يكن مثله في شدّة الحراسة بعد مبعثه ، وكانوا يسترقون في بعض الأحوال ، فلما بعث منعوا من ذلك أصلاً . وقال عبد الملك بن سابور لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء ورميت الشياطين بالشهب ، ومنعت من الدنوّ إلى السماء . وقال نافع بن جبير كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب ، وقد تقدّم البحث عن هذا { وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى ٱلأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } أي لا ندري أشرّ أريد بأهل الأرض بسبب هذه الحراسة للسماء ، أم أراد بهم ربهم رشداً ، أي خيراً . قال ابن زيد قال إبليس لا ندري أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذاباً ، أو يرسل إليهم رسولاً ، وارتفاع { أَشِرٌ } على الاشتغال ، أو على الابتداء ، وخبره ما بعده ، والأوّل أولى ، والجملة سادّة مسدّ مفعولي ندري ، والأولى أن هذا من قول الجنّ فيما بينهم ، وليس من قول إبليس كما قال ابن زيد { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ } أي قال بعض لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد وأنا كنا قبل استماع القرآن منا الموصوفون بالصلاح { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أي قوم دون ذلك ، أي دون الموصوفين بالصلاح . وقيل أراد بالصالحون المؤمنين ، وبمن هم دون ذلك الكافرين ، والأوّل أولى ، ومعنى { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً } أي جماعات متفرقة وأصنافاً مختلفة ، والقدة القطعة من الشيء ، وصار القوم قدداً إذا تفرقت أحوالهم ، ومنه قول الشاعر @ القابض الباسط الهادي لطاعته في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد @@ والمعنى كنا ذوي طرائق قدداً ، أو كانت طرائقنا طرائق قدداً ، أو كنا مثل طرائق قدداً ومن هذا قول لبيد @ لم تبلغ العين كل نهمتها يوم تمشي الجياد بالقدد @@ وقوله أيضاً @ ولقد قلت وزيد حاسر يوم ولت خيل عمرو قدداً @@ قال السديّ ، والضحاك أدياناً مختلفة ، وقال قتادة أهواء متباينة . وقال سعيد بن المسيب كانوا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس وكذا قال مجاهد . قال الحسن الجنّ أمثالكم قدرية ، ومرجئة ، ورافضة ، وشيعة ، وكذا قال السديّ { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِى ٱلأَرْضِ } الظنّ هنا بمعنى العلم واليقين ، أي وإنا علمنا أن الشأن لن نعجز الله في الأرض أينما كنا فيها ، ولن نفوته إن أراد بنا أمراً { وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } أي هاربين منها ، فهو مصدر في موضع الحال . { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ } يعنون القرآن { آمنا به } وصدّقنا أنه من عبد الله ولم نكذب به ، كما كذبت به كفرة الإنس { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } أي لا يخاف نقصاً في عمله وثوابه ، ولا ظلماً ومكروهاً يغشاه ، والبخس النقصان ، والرهق العدوان والطغيان ، والمعنى لا يخاف أن ينقص من حسناته ، ولا أن يزاد في سيئاته ، وقد تقدّم تحقيق الرهق قريباً . قرأ الجمهور { بخساً } بسكون الخاء . وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها . وقرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش " فلا يخف " جزماً على جواب الشرط ، ولا وجه لهذا بعد دخول الفاء ، والتقدير فهو لا يخاف ، والأمر ظاهر . وقد أخرج أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وغيرهم عن ابن عباس قال انطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا ما لكم ؟ فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلاّ شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها لتعرفوا ما هذا الأمر الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له قالوا هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهناك حين رجعوا إلى قومهم { فَقَالُواْ } يا قومنا { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ يَهْدِى إِلَى ٱلرُّشْدِ فَـئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً } فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ ٱلْجِنّ } وإنما أوحي إليه قول الجنّ . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله { قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ ٱلْجِنّ } قال كانوا من جنّ نصيبين . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { وَأَنَّهُ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبّنَا } قال آلاؤه وعظمته . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال أمره وقدرته . وأخرج ابن مردويه ، والديلمي ، قال السيوطي بسندٍ واهٍ عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً في قوله { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } قال إبليس . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والعقيلي في الضعفاء ، والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن عكرمة بن أبي السائب الأنصاري قال خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة ، وذلك أوّل ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء ذئب ، فأخذ حملاً من الغنم ، فوثب الراعي فقال يا عامر الوادي أنا جارك ، فنادى منادٍ يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم وأنزل الله على رسوله بمكة { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ ٱلْجِنّ } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { فَزَادوهُمْ رَهَقاً } قال إثماً . وأخرج ابن مردويه عنه قال كان القوم في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا نعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ ما فيه ، فلا يكون بشيء أشدّ ولعاً منهم بهم ، فذلك قوله { فَزَادوهُمْ رَهَقاً } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن ابن عباس قال كانت الشياطين لهم مقاعد في السماء يسمعون فيها الوحي ، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعاً ، فأما الكلمة فتكون حقاً ، وأما ما زادوا فيكون باطلاً ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك . فقال لهم ما هذا إلاّ من أمر قد حدث في الأرض ، فبعث جنوده ، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي بين جبلين بمكة ، فأتوه فأخبروه ، فقال هذا الحدث الذي حدث في الأرض . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } يقول منا المسلم ومنا المشرك ، و { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً } أهواء شتى . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } قال لا يخاف نقصاً من حسناته ولا زيادة في سيئاته .