Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 74, Ayat: 1-30)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الواحدي قال المفسرون لما بدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي أتاه جبريل ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرير بين السماء والأرض كالنور المتلأليء ، ففزع ووقع مغشياً عليه ، فلما أفاق دخل على خديجة ، ودعا بماء ، فصبه عليه ، وقال « دثروني دثروني » ، فدثروه بقطيفة ، فقال { يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ } ومعنى { يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ } يا أيها الذي قد تدثر بثيابه ، أي تغشى بها ، وأصله المتدثر ، فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما . وقد قرأ الجمهور بالإدغام ، وقرأ أبي " المتدثر " على الأصل ، والدثار هو ما يلبس فوق الشعار ، والشعار هو الذي يلي الجسد ، وقال عكرمة المعنى يا أيها المدثر بالنبوّة وأثقالها . قال ابن العربي وهذا مجاز بعيد لأنه لم يكن نبياً إذ ذاك { قُمْ فَأَنذِرْ } أي انهض فخوّف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا ، أو قم من مضجعك ، أو قم قيام عزم وتصميم . وقيل الإنذار هنا هو إعلامهم بنبوّته . وقيل إعلامهم بالتوحيد . وقال الفراء المعنى قم فصلّ ، وأمر بالصلاة { وَرَبَّكَ فَكَبّرْ } أي واختص سيدك ومالكك ومصلح أمورك بالتكبير ، وهو وصفه سبحانه بالكبرياء والعظمة ، وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يعتقده الكفار ، وأعظم من أن يكون له صاحبة أو ولد . قال ابن العربي المراد به تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأضداد والأنداد والأصنام ، ولا يتخذ ولياً غيره ولا يعبد سواه ، ولا يرى لغيره فعلاً إلاّ له ولا نعمة إلاّ منه . قال الزجاج إن الفاء في { فكبر } دخلت على معنى الجزاء ، كما دخلت في { فأنذر } . وقال ابن جني هو كقولك زيداً فاضرب أي زيداً اضرب ، فالفاء زائدة . { وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } المراد بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي ، أمره الله سبحانه بتطهير ثيابه ، وحفظها عن النجاسات ، وإزالة ما وقع فيها منها . وقيل المراد بالثياب العمل . وقيل القلب . وقيل النفس . وقيل الجسم . وقيل الأهل . وقيل الدين . وقيل الأخلاق . قال مجاهد ، وابن زيد ، وأبو رزين ، أي عملك فأصلح . وقال قتادة نفسك فطهّر من الذنب ، والثياب عبارة عن النفس . وقال سعيد بن جبير قلبك فطهّر ، ومن هذا قول امرىء القيس @ فسلي ثيابي من ثيابك تنسل @@ وقال عكرمة المعنى البسها على غير غدر وغير فجرة . وقال أما سمعت قول الشاعر @ @ وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع @@ @@ والشاعر هو غيلان بن سلمة الثقفي ، ومن إطلاق الثياب على النفس قول عنترة @ فشككت بالرمح الطويل ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرم @@ وقول الآخر @ ثياب بني عوف طهارى نقية @@ وقال الحسن ، والقرظي إن المعنى ، وأخلاقك فطهّر لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه ، ومنه قول الشاعر @ ويحيـى لا يلام بسوء خلق ويحيـى طاهر الأثواب حر @@ وقال الزجاج المعنى ، وثيابك فقصر لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسات إذا انجرّ على الأرض ، وبه قال طاوس ، والأوّل أولى لأنه المعنى الحقيقي . وليس في استعمال الثياب مجاز عن غيرها لعلاقة مع قرينة ما يدلّ على أنه المراد عند الإطلاق ، وليس في مثل هذا الأصل أعني الحمل على الحقيقة عند الإطلاق خلاف ، وفي الآية دليل على وجوب طهارة الثياب في الصلاة . { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } الرجز معناه في اللغة العذاب ، وفيه لغتان كسر الراء وضمها ، وسمي الشرك وعبادة الأوثان رجزاً لأنها سبب الرجز . قرأ الجمهور { الرجز } بكسر الراء . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وحفص ، وابن محيصن بضمها . وقال مجاهد ، وعكرمة الرجز الأوثان ، كما في قوله { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَـٰنِ } الحج 30 وبه قال ابن زيد . وقال إبراهيم النخعي الرجز المأثم ، والهجر الترك . وقال قتادة الرجز إساف ونائلة ، وهما صنمان كانا عند البيت . وقال أبو العالية ، والربيع ، والكسائي الرجز بالضم الوثن ، وبالكسر العذاب . وقال السديّ الرجز بضم الراء الوعيد ، والأوّل أولى { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } قرأ الجمهور { ولا تمنن } بفك الإدغام ، وقرأ الحسن ، وأبو اليمان ، والأشهب العقيلي بالإدغام ، وقرأ الجمهور { تستكثر } بالرفع على أنه حال ، أي ولا تمنن حال كونك مستكثراً . وقيل على حذف أن ، والأصل ولا تمنن أن تستكثر ، فلما حذفت رفع . قال الكسائي فإذا حذف أن رفع الفعل . وقرأ يحيـى بن وثاب ، والأعمش " تستكثر " بالنصب على تقدير أن ، وبقاء عملها ، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود " ولا تمنن أن تستكثر " بزيادة أن . وقرأ الحسن أيضاً ، وابن أبي عبلة " تستكثر " بالجزم على أنه بدل من تمنن ، كما في قوله { يَلْقَ أَثَاماً * يُضَـٰعَفْ لَهُ } الفرقان 68 ، 69 ، وقول الشاعر @ متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا @@ أو الجزم لإجراء الوصل مجرى الوقف ، كما في قول امرىء القيس @ فاليوم أشرب غير مستحقب إثماً من الله ولا واغل @@ بتسكين أشرب . وقد اعترض على هذه القراءة لأن قوله { تستكثر } لا يصح أن يكون بدلاً من تمنن لأن المنّ غير الاستكثار ، ولا يصح أن يكون جواباً للنهي . واختلف السلف في معنى الآية . فقيل المعنى لا تمنن على ربك بما تتحمله من أعباء النبوّة كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير . وقيل لا تعط عطية تلتمس فيها أفضل منها ، قاله عكرمة ، وقتادة . قال الضحاك هذا حرّمه الله على رسوله لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجلّ الأخلاق ، وأباحه لأمته . وقال مجاهد لا تضعف أن تستكثر من الخير ، من قولك حبل متين إذا كان ضعيفاً . وقال الربيع بن أنس لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير . وقال ابن كيسان لا تستكثر عملاً فتراه من نفسك ، إنما عملك منة من الله عليك إذ جعل لك سبيلاً إلى عبادته . وقيل لا تمنن بالنبوّة ، والقرآن على الناس ، فتأخذ منهم أجراً تستكثره . وقال محمد بن كعب لا تعط مالك مصانعة . وقال زيد بن أسلم إذا أعطيت عطية فأعطها لربك . { وَلِرَبّكَ فَٱصْبِرْ } أي لوجه ربك ، فاصبر على طاعته وفرائضه ، والمعنى لأجل ربك وثوابه . وقال مقاتل ، ومجاهد اصبر على الأذى والتكذيب . وقال ابن زيد حملت أمراً عظيماً ، فحاربتك العرب والعجم ، فاصبر عليه لله . وقيل اصبر تحت موارد القضاء لله . وقيل فاصبر على البلوى . وقيل على الأوامر والنواهي . { فَإِذَا نُقِرَ فِى ٱلنَّاقُورِ } الناقور فاعول من النقر ، كأنه من شأنه أن ينقر فيه للتصويت ، والنقر في كلام العرب الصوت ، ومنه قول امرىء القيس @ أخفضه بالنقر لما علوته @@ ويقولون نقر باسم الرجل إذا دعاه ، والمراد هنا النفخ في الصور ، والمراد النفخة الثانية . وقيل الأولى ، وقد تقدّم الكلام في هذا في سورة الأنعام وسورة النحل ، والفاء للسببية ، كأنه قيل اصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم ، والعامل في إذا ما دلّ عليه قوله { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } فإن معناه عسر الأمر عليهم . وقيل العامل فيه ما دل عليه { فَذَلِكَ } لأنه إشارة إلى النقر ، ويومئذٍ بدل من إذا ، أو مبتدأ ، وخبره يوم عسير ، والجملة خبر { فذلك } ، وقيل هو ظرف للخبر لأن التقدير وقوع يوم عسير ، وقوله { غَيْرُ يَسِيرٍ } تأكيد لعسره عليهم لأن كونه غير يسير ، قد فهم من قوله { يَوْمٌ عَسِيرٌ } . { ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } أي دعني ، وهي كلمة تهديد ووعيد ، والمعنى دعني والذي خلقته حال كونه وحيداً في بطن أمه لا مال له ولا ولد ، هذا على أن وحيداً منتصب على الحال من الموصول ، أو من الضمير العائد إليه المحذوف ، ويجوز أن يكون حالاً من الياء في ذرني ، أي دعني وحدي معه ، فإني أكفيك في الانتقام منه ، والأوّل أولى . قال المفسرون وهو الوليد بن المغيرة . قال مقاتل يقول خلّ بيني وبينه ، فأنا أنفرد بهلكته ، وإنما خص بالذكر لمزيد كفره ، وعظيم جحوده لنعم الله عليه . وقيل أراد بالوحيد الذي لا يعرف أبوه ، وكان يقال في الوليد بن المغيرة إنه دعيّ . { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } أي كثيراً ، أو يمدّ بالزيادة والنماء شيئًا بعد شيء . قال الزجاج مالاً غير منقطع عنه ، وقد كان الوليد بن المغيرة مشهوراً بكثرة المال على اختلاف أنواعه . قيل كان يحصل له من غلة أمواله ألف ألف دينار . وقيل أربعة آلاف دينار . وقيل ألف دينار . { وَبَنِينَ شُهُوداً } أي وجعلت له بنين حضوراً بمكة معه لا يسافرون ، ولا يحتاجون إلى التفرّق في طلب الرزق لكثرة مال أبيهم . قال الضحاك كانوا سبعة ولدوا بمكة ، وخمسة ولدوا بالطائف . وقال سعيد بن جبير كانوا ثلاثة عشر ولداً . وقال مقاتل كانوا سبعة كلهم رجال ، أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام والوليد بن الوليد ، فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك . وقيل معنى { شهوداً } أنه إذا ذكر ذكروا معه ، وقيل كانوا يشهدون معه ما كان يشهده ، ويقومون بما كان يباشره { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } أي بسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش ، والتمهيد عند العرب التوطئة ، ومنه مهد الصبيّ . وقال مجاهد إنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش . { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } أي يطمع بعد هذا كله في الزيادة لكثرة حرصه وشدة طمعه مع كفرانه للنعم ، وإشراكه بالله . قال الحسن لم يطمع أن أدخله الجنة ، وكان يقول إن كان محمد صادقاً ، فما خلقت الجنة إلاّ لي . ثم ردعه الله سبحانه وزجره فقال { كَلاَّ } أي لست أزيده . ثم علل ذلك بقوله { إِنَّهُ كان لأَيَـٰتِنَا عَنِيداً } أي معانداً لها كافراً بما أنزلناه منها على رسولنا ، يقال عند يعند بالكسر إذا خالف الحق وردّه ، وهو يعرفه ، فهو عنيد وعاند ، والعاند الذي يجوز عن الطريق ، ويعدل عن القصد ، ومنه قول الحارثي @ إذا ركبت فاجعلاني وسطا إني كبير لا أطيق العندا @@ قال أبو صالح عنيداً معناه مباعداً . وقال قتادة جاحداً . وقال مقاتل معرضاً { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } أي سأكلفه مشقة من العذاب ، وهو مثل لما يلقاه من العذاب الصعب الذي لا يطاق . وقيل المعنى إنه يكلف أن يصعد جبلاً من نار ، والإرهاق في كلام العرب أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل ، وجملة { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } تعليل لما تقدّم من الوعيد ، أي إنه فكر في شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن ، وقدّر في نفسه ، أي هيأ الكلام في نفسه ، والعرب تقول هيأت الشيء إذا قدّرته ، وقدرت الشيء إذا هيأته ، وذلك أنه لما سمع القرآن لم يزل يفكر ماذا يقول فيه ، وقدّر في نفسه ما يقول ، فذمه الله ، وقال { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } أي لعن وعذب كيف قدر ، أي على أيّ حال قدر ما قدر من الكلام ، كما يقال في الكلام لأضربنه كيف صنع ، أي على أيّ حال كانت منه . وقيل المعنى قهر وغلب كيف قدر ، ومنه قول الشاعر @ وما ذرفت عيناك إلاّ لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتل @@ وقال الزهري عذب ، وهو من باب الدعاء عليه ، والتكرير في قوله { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } للمبالغة والتأكيد . { ثُمَّ نَظَرَ } أي بأيّ شيء يدفع القرآن ويقدح فيه ، أو فكر في القرآن وتدبر ما هو . { ثُمَّ عَبَسَ } أي قطب وجهه لما لم يجد مطعناً يطعن به في القرآن ، والعبس مصدر عبس مخففاً ، يعبس عبساً وعبوساً إذا قطب . وقيل عبس في وجوه المؤمنين . وقيل عبس في وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم { وَبَسَرَ } أي كلح وجهه وتغير ، ومنه قول الشاعر @ صبحنا تميماً غداة الحفار بشهباء ملموسة باسره @@ وقول الآخر @ وقد رابني منها صدود رأيته وإعراضها عن حاجتي وبسورها @@ وقيل إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة ، وظهور البسور في الوجه قبلها ، والعرب تقول وجه باسر إذا تغير واسودّ . وقال الراغب البسر استعجال الشرّ قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته ، أي طلبها في غير أوانها . قال ومنه قوله { عَبَسَ وَبَسَرَ } أي أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته ، وأهل اليمن يقولون بسر المركب وأبسر أي وقف لا يتقدّم ولا يتأخر ، وقد أبسرنا أي صرنا إلى البسور . { ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ } أي أعرض عن الحقّ ، وذهب إلى أهله ، وتعظم عن أن يؤمن { فَقَالَ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } أي يأثره عن غيره ويرويه عنه . والسحر إظهار الباطل في صورة الحقّ ، أو الخديعة على ما تقدّم بيانه في سورة البقرة ، يقال أثرت الحديث بأثره إذا ذكرته عن غيرك ، ومنه قول الأعشى @ إن الذي فيه تحاربتما بين للسامع والآثر @@ { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ } يعني أنه كلام الإنس ، وليس بكلام الله ، وهو تأكيد لما قبله ، وسيأتي أن الوليد بن المغيرة إنما قال هذا القول إرضاء لقومه بعد اعترافه أن له حلاوة ، وأن عليه طلاوة إلى آخر كلامه . ولما قال هذا القول الذي حكاه الله عنه ، قال الله عزّ وجلّ { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } أي سأدخله النار ، وسقر من أسماء النار ، ومن دركات جهنم . وقيل إن هذه الجملة بدل من قوله { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } ثم بالغ سبحانه في وصف النار وشدة أمرها فقال { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } أي وما أعلمك أيّ شيء هي ، والعرب تقول وما أدراك ما كذا إذا أرادوا المبالغة في أمره ، وتعظيم شأنه وتهويل خطبه ، وما الأولى مبتدأ ، وجملة { مَا سَقَرُ } خبر المبتدأ . ثم فسر حالها ، فقال { لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ } والجملة مستأنفة لبيان حال سقر ، والكشف عن وصفها . وقيل هي في محل نصب على الحال ، والعامل فيها معنى التعظيم لأن قوله { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } يدل على التعظيم ، فكأنه قال استعظموا سقر في هذه الحال ، والأوّل أولى ، ومفعول الفعلين محذوف . قال السديّ لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً . وقال عطاء لا تبقي من فيها حياً ولا تذره ميتاً . وقيل هما لفظان بمعنى واحد ، كررا للتأكيد كقولك صدّ عني وأعرض عني { لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ } قرأ الجمهور { لوّاحة } بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف . وقيل على أنه نعت لسقر ، والأوّل أولى . وقرأ الحسن ، وعطية العوفي ، ونصر بن عاصم ، وعيسى بن عمر ، وابن أبي عبلة ، وزيد بن عليّ بالنصب على الحال أو الاختصاص للتهويل ، يقال لاح يلوح ، أي ظهر ، والمعنى أنها تظهر للبشر . قال الحسن تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً كقوله { وَبُرّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } النازعات 36 . وقيل معنى { لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ } أي مغيرة لهم ومسوّدة . قال مجاهد والعرب تقول لاحه الحر والبرد والسقم والحزن إذا غيره ، وهذا أرجح من الأوّل ، وإليه ذهب جمهور المفسرين ، ومنه قول الشاعر @ وتعجب هند أن رأتني شاحبا تقول لشيء لوحته السمائم @@ أي غيرته ، ومنه قول رؤبة بن العجاج @ لوّح منه بعد بدن وشبق تلويحك الضامر يطوى للسبق @@ وقال الأخفش المعنى أنها معطشة للبشر ، وأنشد @ سقتني على لوح من الماء شربة سقاها به الله الرهام الغواديا @@ والمراد بالبشر إما جلدة الإنسان الظاهرة ، كما قاله الأكثر ، أو المراد به أهل النار من الإنس ، كما قال الأخفش . { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال المفسرون يقول على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها . وقيل تسعة عشر صنفاً من أصناف الملائكة . وقيل تسعة عشر صفاً من صفوفهم . وقيل تسعة عشر نقيباً مع كل نقيب جماعة من الملائكة ، والأوّل أولى . قال الثعلبي ولا ينكر هذا ، فإذا كان ملك واحدة يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكونوا تسعة عشر على عذاب بعض الخلق . قرأ الجمهور { تسعة عشر } بفتح الشين من عشر ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وطلحة بن سليمان بإسكانها . وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن أبا سلمة بن عبد الرحمٰن قال إن أوّل ما نزل من القرآن { يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ } فقال له يحيى بن أبي كثير يقولون إن أوّل ما نزل { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ } العلق 1 فقال أبو سلمة سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، قلت له مثل ما قلت ، فقال جابر لا أحدّثنك إلاّ ما حدّثنا رسول الله قال " جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري هبطت ، فنوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا ، ونظرت عن شمالي ، فلم أر شيئًا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فحثيت منه رعباً ، فرجعت ، فقلت دثروني فدثروني ، فنزلت { رَّحِيمٌ يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ } إلى قوله { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } " وسيأتي في سورة اقرأ ما يدل على أنها أوّل سورة أنزلت ، والجمع ممكن . وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس { يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ } فقال دثر هذا الأمر ، فقم به . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه { يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ } قال النائم { وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } قال لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب باطل { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } قال الأصنام { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } قال لا تعط تلتمس بها أفضل منها . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه أيضاً . { وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } قال من الإثم . قال وهي في كلام العرب نقيّ الثياب . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً { وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } قال من الغدر ، لا تكن غدّاراً . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري ، وابن مردويه عن عكرمة عنه أيضاً أنه سئل عن قوله { وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } قال لا تلبسها على غدرة ، ثم قال ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع وأخرج الطبراني ، والبيهقي في سننه عنه أيضاً { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } قال لا تعط الرجل عطاء رجاء أن يعطيك أكثر منه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه أيضاً { فَإِذَا نُقِرَ فِى ٱلنَّاقُورِ } قال الصور { يَوْمٌ عَسِيرٌ } قال شديد . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً { ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } قال الوليد بن المغيرة . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل عنه أيضاً أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه فقال يا عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه ، فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله ، قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً ، قال فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له ، وأنك كاره له ، قال وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجنّ ، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئًا من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته قال والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه ، قال فدعني حتى أفكر ، فلما فكر قال هذا سحر يؤثر ، يأثره عن غيره ، فنزلت { ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } . وقد أخرج هذا عبد الرزاق عن عكرمة مرسلاً ، وكذا أخرجه ابن جرير ، وابن إسحاق ، وابن المنذر ، وغير واحد . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن قوله { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } قال غلة شهر بشهر . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } قال ألف دينار . وأخرج هناد عن أبي سعيد الخدري في قوله { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } قال هو جبل في النار يكلفون أن يصعدوا فيه ، فكلما وضعوا أيديهم عليه ذابت ، فإذا رفعوها عادت كما كانت . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس { عَنِيداً } قال جحوداً . وأخرج أحمد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي سعيد ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال " الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً ، ثم يهوي وهو كذلك فيه أبداً " قال الترمذي بعد إخراجه غريب لا نعرفه إلاّ من حديث ابن لهيعة عن درّاج . قال ابن كثير وفيه غرابة ونكارة انتهى ، وقد أخرجه جماعة من قول أبي سعيد . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال { صَعُوداً } صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه . وأخرج ابن المنذر عنه قال جبل في النار . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله { لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ } قال لا تبقي منهم شيئًا ، وإذا بدّلوا خلقاً آخر لم تذر أن تعاودهم سبيل العذاب الأوّل . وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً { لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ } قال تلوح الجلد فتحرقه وتغير لونه ، فيصير أسود من الليل . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { لَوَّاحَةٌ } قال محرقة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن البراء أن رهطاً من اليهود سألوا بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم ، فقال الله ورسوله أعلم ، فجاء جبريل ، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت عليه ساعتئذٍ { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } .