Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 78, Ayat: 1-30)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ } أصله عن ما ، فأدغمت النون في الميم لأن الميم تشاركها في الغنة ، كذا قال الزجاج ، وحذفت الألف ليتميز الخبر عن الاستفهام ، وكذلك فيم وممّ ونحو ذلك ، والمعنى عن أيّ شيء يسأل بعضهم بعضاً . قرأ الجمهور { عمّ } بحذف الألف لما ذكرنا ، وقرأ أبيّ ، وابن مسعود ، وعكرمة ، وعيسى بإثباتها ، ومنه قول الشاعر @ علاما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في دمان @@ ولكنه قليل لا يجوز إلاّ للضرورة ، وقرأ البزي بهاء السكت عوضاً عن الألف ، وروى ذلك عن ابن كثير . قال الزجاج اللفظ لفظ استفهام ، والمعنى تفخيم القصة كما تقول أيّ شيء تريد إذا عظمت شأنه . قال الواحدي قال المفسرون لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبرهم بتوحيد الله ، والبعث بعد الموت ، وتلا عليهم القرآن ، جعلوا يتساءلون بينهم يقولون ماذا جاء به محمد ، وما الذي أتى به ؟ فأنزل الله { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ } قال الفرّاء التساؤل هو أن يسأل بعضهم بعضاً كالتقابل ، وقد يستمعل أيضاً في أن يتحدّثوا به ، وإن لم يكن بينهم سؤال . قال الله تعالى { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } الطور 25 { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ } الصافات 51 الآية ، وهذا يدل على أنه التحدّث ، ولفظ " ما " موضوع لطلب حقائق الأشياء ، وذلك يقتضي كون المطلوب مجهولاً ، فجعل الشيء العظيم الذي يعجز العقل عن أن يحيط بكنهه كأنه مجهول ، ولهذا جاء سبحانه بلفظ " ما " . ثم ذكر سبحانه تساؤلهم عن ماذا ، وبينه فقال { عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ } فأورده سبحانه أوّلاً على طريقة الاستفهام مبهماً لتتوجه إليه أذهانهم ، وتلتفت إليه أفهامهم ، ثم بينه بما يفيد تعظيمه ، وتفخيمه كأنه قيل عن أيّ شيء يتساءلون هل أخبركم به ؟ ثم قيل بطريق الجواب { عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ } على منهاج قوله { لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ } غافر 16 فالجارّ والمجرور متعلق بالفعل الذي قبله ، أو بما يدلّ عليه . قال ابن عطية قال أكثر النحاة عن النبأ العظيم متعلق بـ { يتساءلون } الظاهر ، كأنه قال لم يتساءلون عن النبأ العظيم ، وقيل ليس بمتعلق بالفعل المذكور لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام ، فيكون التقدير أعن النبأ العظيم ؟ فلزم أن يتعلق بـ { يتساءلون } آخر مقدّر ، وإنما كان ذلك النبأ ، أي القرآن عظيماً لأنه ينبىء عن التوحيد ، وتصديق الرسول ، ووقوع البعث والنشور . قال الضحاك يعني نبأ يوم القيامة ، وكذا قال قتادة . وقد استدلّ على أن النبأ العظيم هو القرآن بقوله { ٱلَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } فإنهم اختلفوا في القرآن ، فجعله بعضهم سحراً ، وبعضهم شعراً ، وبعضهم كهانة ، وبعضهم قال هو أساطير الأوّلين . وأما البعث فقد اتفق الكفار إذ ذاك على إنكاره . ويمكن أن يقال إنه قد وقع الاختلاف في البعث في الجملة ، فصدّق به المؤمنون ، وكذب به الكافرون ، فقد وقع الاختلاف فيه من هذه الحيثية ، وإن لم يقع الاختلاف فيه بين الكفار أنفسهم على التسليم والتنزل ، ومما يدلّ على أنه القرآن قوله سبحانه { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } صۤ 67 ، 68 ومما يدلّ على أنه البعث أنه أكثر ما كان يستنكره المشركون وتأباه عقولهم السخيفة . وأيضاً ، فطوائف الكفار قد وقع الاختلاف بينهم في البعث فأثبت النصارى المعاد الروحاني ، وأثبتت طائفة من اليهود المعاد الجسماني ، وفي التوراة التصريح بلفظ الجنة باللغة العبرانية بلفظ " جنعيذا " بجيم مفتوحة ، ثم نون ساكنة ، ثم عين مكسورة مهملة ، ثم تحتية ساكنة ، ثم ذال معجمة بعدها ألف . وفي الإنجيل في مواضع كثيرة التصريح بالمعاد ، وأنه يكون فيه النعيم للمطيعين ، والعذاب للعاصين ، وقد كان بعض طوائف كفار العرب ينكر المعاد كما حكى الله عنهم بقوله { إن هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نحن بمبعوثين } المؤمنون 37 وكانت طائفة منهم غير جازمة بنفيه بل شاكة فيه ، كما حكى الله عنهم بقوله { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } الجاثية 32 وما حكاه عنهم بقوله { وَمَا أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَىٰ رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } فصلت 50 فقد حصل الاختلاف بين طوائف الكفر على هذه الصفة . وقد قيل إن الضمير في قوله { يتساءلون } يرجع إلى المؤمنين والكفار لأنهم جميعاً كانوا يتساءلون عنه ، فأما المسلم ، فيزداد يقيناً واستعداداً ، وبصيرة في دينه ، وأما الكافر فاستهزاء وسخرية . قال الرازي ويحتمل أنهم يسألون الرسول ، ويقولون ما هذا الذي يعدنا به من أمر الآخرة ، والموصول في محل جرّ صفة للنبأ بعد وصفه بكونه عظيماً فهو متصف بالعظم ومتصف بوقوع الاختلاف فيه . { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } ردع لهم وزجر ، وهذا يدل على أن المختلفين فيه هم الكفار ، وبه يندفع ما قيل إن الخلاف بينهم وبين المؤمنين فإنه إنما يتوجه الردع والوعيد إلى الكفار فقط ، وقيل كلاَّ بمعنى حقاً ، ثم كرّر الردع والزجر فقال { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } للمبالغة في التأكيد والتشديد في الوعيد . قرأ الجمهور بالياء التحتية في الفعلين على الغيبة . وقرأ الحسن ، وأبو العالية ، وابن دينار ، وابن عامر في رواية عنه بالفوقية على الخطاب . وقرأ الضحاك الأوّل بالفوقية والثاني بالتحتية . قال الضحاك أيضاً . { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم ، وقيل بالعكس ، وقيل هو وعيد بعده وعيد ، وقيل المعنى { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } عند النزع { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } عند البعث . ثم ذكر سبحانه بديع صنعه ، وعظيم قدرته ليعرفوا توحيده ، ويؤمنوا بما جاء به رسوله فقال { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَـٰداً وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } أي قدرتنا على هذه الأمور المذكورة أعظم من قدرتنا على الإعادة بالبعث ، والمهاد الوطاء ، والفراش ، كما في قوله { ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } البقرة 22 قرأ الجمهور مهاداً وقرأ مجاهد ، وعيسى ، وبعض الكوفيين مهداً والمعنى أنها كالمهد للصبيّ وهو ما يمهد له فينوّم عليه . والأوتاد جمع وتد أي جعلنا الجبال أوتاداً للأرض لتسكن ولا تتحرّك ، كما يرس الخيام بالأوتاد ، وفي هذا دليل على أن التاؤل الكائن بينهم هو عن أمر البعث ، لا عن القرآن ، ولا عن نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قيل لأن هذا الدليل إنما يصلح للاستدلال به على البعث { وَخَلَقْنَـٰكُمْ أَزْوٰجاً } معطوف على المضارع المنفي داخل في حكمه ، فهو في قوّة أما خلقناكم ، والمراد بالأزواج هنا الأصناف أي الذكور والإناث ، وقيل المراد بالأزواج الألوان ، وقيل يدخل في هذا كلّ زوج من المخلوقات عن قبيح وحسن وطويل وقصير { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } أي راحة لأبدانكم . قال الزجاج السبات أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه أي جعلنا نومكم راحة لكم . قال ابن الأنباري جعلنا نومكم قطعاً لأعمالكم لأن أصل السبت القطع ، وقيل أصله التمدّد ، يقال سبتت المرأة شعرها إذا حلته وأرسلته ، ورجل مسبوت الخلق أي ممدوده ، والرجل إذا أراد أن يستريح تمدّد ، فسمي النوم سباتاً ، وقيل المعنى وجعلنا نومكم موتاً ، والنوم أحد الموتتين ، فالمسبوت يشبه الميت ، ولكنه لم تفارقه الروح ، ومنه قول الشاعر @ ومطوية الأقراب أما نهارها فسبت وأما ليلها فذميل @@ ومن هذا قوله { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلاْنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا وَٱلَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِـهَا } الزمر 42 الآية ، وقوله { وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ } الأنعام 60 { وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ لِبَاساً } أي نلبسكم ظلمته ونغشيكم بها كما يغشيكم اللباس . وقال سعيد بن جبير والسديّ أي سكناً لكم ، وقيل المراد به ما يستره عند النوم من اللحاف ونحوه ، وهو بعيد لأن الجعل وقع على الليل ، لا على ما يستتر به النائم عند نومه { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } أي وقت معاش ، والمعاش العيش ، وكلّ شيء يعاش به فهو معاش ، والمعنى أن الله جعل لهم النهار مضيئاً ليسعوا فيما يقوم به معاشهم ، وما قسمه الله لهم من الرزق { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } يريد سبع سماوات قوية الخلق محكمة البناء ، ولهذا وصفها بالشدّة ، وغلظ كلّ واحدة منها مسيرة خمسمائة عام ، كما ورد ذلك . { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } المراد به الشمس ، وجعل هنا بمعنى خلق ، وهكذا قوله { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } وما بعده لأن هذه الأفعال قد تعدّت إلى مفعولين ، فلا بدّ من تضمينها معنى فعل يتعدّى إليهما كالخلق أو التصيير ونحو ذلك . وقيل إن الجعل بمعنى الإنشاء والإبداع في جميع هذه المواضع ، والمراد به الإنشاء التكويني الذي بمعنى التقدير والتسوية . قال الزجاج الوهاج الوقاد ، وهو الذي وهج ، يقال وهجت النار تهيج وهجاً ووهجاناً . قال مقاتل جعل فيه نوراً وحرّاً ، والوهج يجمع النور والحرارة . { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً } المعصرات هي السحاب التي تنعصر بالماء ولم تمطر بعد ، كالمرأة المعتصرة التي قد دنا حيضها ، كذا قال سفيان والربيع ، وأبو العالية ، والضحاك . وقال مجاهد ، ومقاتل ، وقتادة ، والكلبي هي الرياح ، والرياح تسمى معصرات ، يقال أعصرت الريح تعصر إعصاراً إذا أثارت العجاج . قال الأزهري هي الرياح ذوات الأعاصير ، وذلك أن الرياح تستدرّ المطر . وقال الفرّاء المعصرات السحاب التي يتحلب منها المطر . قال النحاس وهذه الأقوال صحاح ، يقال للريح التي تأتي بالمطر معصرات ، والرياح تلقح السحاب فيكون المطر . ويجوز أن تكون هذه الأقوال قولاً واحداً ، ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات المعصرات ماء ثجاجاً . قال في الصحاح والمعصرات السحاب تعتصر بالمطر ، وعصر القوم أي مطروا . قال المبرد يقال سحاب معصر ، أي ممسك للماء يعتصر منه شيء بعد شيء . وقال أبيّ بن كعب ، والحسن ، وابن جبير ، وزيد بن أسلم ، ومقاتل بن حيان المعصرات السماوات . والثجاج المنصبّ بكثرة على جهة التتابع ، يقال ثجّ الماء أي سال بكثرة ، وثجه أي أساله . قال الزجاج الثجاج الصباب . قال ابن زيد ثجاجاً كثيراً . { لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً } أي لنخرج بذلك الماء حباً يقتات ، كالحنطة والشعير ونحوهما ، والنبات ما تأكله الدوّاب من الحشيش وسائر النبات { وَجَنَّـٰتٍ أَلْفَافاً } أي بساتين ملتفّ بعضها ببعض لتشعب أغصانها ، ولا واحد للألفاف كالأوزاع والأخياف . وقيل واحدها لف بكسر اللام وضمها ، ذكره الكسائي . وقال أبو عبيدة واحدها لفيف كشريف وأشراف ، روي عن الكسائي أنها جمع الجمع يقال جنة لفاء ، ونبت لف ، والجمع لف بضم اللام مثل حمر ، ثم يجمع هذا الجمع على ألفاف ، وقيل هو جمع ملتفة بحذف الزوائد . قال الفراء الجنة ما فيه النخيل ، والفردوس ما فيه الكرم . { إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ كَانَ مِيقَـٰتاً } أي وقتاً ، ومجمعاً ، وميعاداً للأوّلين والآخرين يصلون فيه إلى ما وعدوا به من الثواب والعقاب ، وسمي يوم الفصل لأن الله يفصل فيه بين خلقه ، وهذا شروع في بيان ما يتساءلون عنه من البعث ، وقيل معنى { ميقاتاً } أنه حدّ توقت به الدنيا وتنتهي عنده ، وقيل حدّ للخلائق ينتهون إليه { يَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } أي يوم ينفخ في الصور ، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ، والمراد هنا النفخة الثانية التي تكون للبعث { فَتَأْتُونَ } أي إلى موضع العرض { أَفْوَاجاً } أي زمراً زمراً ، وجماعات جماعات ، وهي جمع فوج ، وانتصاب { يَوْمَ يُنفَخُ } على أنه بدل من يوم الفصل ، أو بيان له مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله ، وإن كان الفصل متأخراً عن النفخ ، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أعني ، وانتصاب { أفواجاً } على الحال من فاعل تأتون ، والفاء في { فتأتون } فصيحة تدلّ على محذوف أي فتأتون إلى موضع العرض عقيب ذلك أفواجاً . { وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوٰباً } معطوف على ينفخ ، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي فتحت لنزول الملائكة { فَكَانَتْ أَبْوٰباً } كما في قوله { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَاء بِٱلْغَمَـٰمِ وَنُزّلَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ تَنزِيلاً } الفرقان 25 وقيل معنى { فتحت } قطعت فصارت قطعاً كالأبواب ، وقيل أبوابها طرقها ، وقيل تنحل وتتناثر حتى تصير فيها أبواب ، وقيل إن لكل عبد بابين في السماء باب لرزقه ، وباب لعمله ، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب ، وظاهر قوله { فَكَانَتْ أَبْوٰباً } أنها صارت كلها أبواباً ، وليس المراد ذلك ، بل المراد أنها صارت ذات أبواب كثيرة . قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي { فتحت } مخففاً . وقرأ الباقون بالتشديد { وَسُيّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً } أي سيرت عن أماكنها في الهواء ، وقلعت عن مقارّها ، فكانت هباء منبثاً يظنّ الناظر أنها سراب ، والمعنى أن الجبال صارت كلا شيء ، كما أن السراب يظنّ الناظر أنه ماء ، وليس بماء ، وقيل معنى سيرت أنها نسفت من أصولها ، ومثل هذا قوله { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } النمل 88 . وقد ذكر سبحانه أحوال الجبال بوجوه مختلفة ، ولكن الجمع بينها أن نقول أوّل أحوالها الاندكاك ، وهو قوله { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وٰحِدَةً } الحاقة 14 وثاني أحوالها أن تصير كالعهن المنفوش كما في قوله { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } القارعة 5 وثالث أحوالها أن تصير كالهباء ، وهو قوله { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً } الواقعة 5 ، 6 ورابع أحوالها أن تنسف وتحملها الرياح ، كما في قوله { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } النمل 88 . وخامس أحوالها أن تصير سراباً أي لا شيء ، كما في هذه الآية . ثم شرع سبحانه في تفصيل أحكام الفصل فقال { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } قال الأزهري المرصاد المكان الذي يرصد الراصد فيه العدوّ . قال المبرد مرصاداً يرصدون به أي هو معدّ لهم يرصد به خزنتها الكفار . قال الحسن إن على الباب رصداً لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليهم ، فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجيء بجواز حبس . وقال مقاتل محبساً ، وقيل طريقاً وممرّاً . قال في الصحاح الراصد للشيء الراقب له يقال رصده يرصده رصداً ، والرصد الترقب ، والمرصد موضع الرصد . قال الأصمعي رصدته أرصده ترقبته ، ومعنى الآية أن جهنم كانت في حكم الله ، وقضائه موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها ، أو هي في نفسها متطلعة لمن يأتي إليها من الكفار ، كما يتطلع الرصد لمن يمرّ به ويأتي إليهم ، والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمعمار ، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار . ثم ذكر من هي مرصد له فقال { لّلطَّـٰغِينَ مَـئَاباً } أي مرجعاً يرجعون إليه ، والمآب المرجع ، يقال آب يئوب إذا رجع ، والطاغي هو من طغى بالكفر ، و { للطاغين } نعت لـ { مرصاداً } متعلق بمحذوف ، و { مآباً } بدل من { مرصاداً } ، ويجوز أن يكون للطاغين في محل نصب على الحال من { مآباً } قدّمت عليه لكونه نكرة ، وانتصاب { لَّـٰبِثِينَ فِيهَا } على الحال المقدّرة من الضمير المستكنّ في الطاغين . قرأ الجمهور { لابثين } بالألف . وقرأ حمزة ، والكسائي لبثين بدون ألف ، وانتصاب { أَحْقَاباً } على الظرفية أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب ، وهي لا تنقطع ، وكلما مضى حقب جاء حقب ، وهي جمع حقب بضمتين ، وهو الدهر ، والأحقاب الدهور ، والحقب بضم الحاء ، وسكون القاف ، قيل هو ثمانون سنة ، وحكى الواحدي عن المفسرين أنه بضع وثمانون سنة ، السنة ثلثمائة وستون يوماً ، اليوم ألف سنة من أيام الدنيا . وقيل الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق ، فإذا انقضت ، فيكون لهم نوع آخر من العذاب . وقال السديّ الحقب سبعون سنة . وقال بشير بن كعب ثلثمائة سنة . وقال ابن عمر أربعون سنة ، وقيل ثلاثون ألف سنة . قال الحسن الأحقاب لا يدري أحد كم هي ، ولكن ذكروا أنها مائة حقب ، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة ، اليوم منها كألف سنة . وقيل الآية محمولة على العصاة الذين يخرجون من النار ، والأولى ما ذكرناه أوّلاً من أن المقصود بالآية التأبيد لا التقييد . وحكى الواحدي عن الحسن أنه قال والله ما هي إلاّ أنه إذا مضى حقب دخل آخر ، ثم آخر ، ثم كذلك إلى الأبد . وجملة { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } مستأنفة لبيان ما اشتملت عليه من أنهم لا يذوقون في جهنم ، أو في الأحقاب برداً ينفعهم من حرّها ، ولا شراباً ينفعهم من عطشها إلاّ حميماً ، وهو الماء الحارّ ، وغساقاً وهو صديد أهل النار ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير الطاغين ، أو صفة للأحقاب ، والاستثناء منقطع عند من جعل البرد النوم ، ويجوز أن يكون متصلاً من قوله { شَرَاباً } وقال مجاهد ، والسديّ وأبو عبيدة ، والكسائي ، والفضل بن خالد ، وأبو معاذ النحوي البرد المذكور في هذه الآية هو النوم ، ومنه قول الكندي @ بردت مراشفها عليّ فصدّني عنها وعن تقبيلها البرد @@ أي النوم . قال الزجاج أي لا يذوقون فيها برد ريح ولا ظل ولا نوم فجعل البرد يشمل هذه الأمور . وقال الحسن ، وعطاء ، وابن زيد برداً أي روحاً وراحة . قرأ الجمهور غساقاً بالتخفيف . وقرأ حمزة ، والكسائي بتشديد السين ، وقد تقدّم تفسيره ، وتفسير الحميم ، والخلاف فيهما في سورة صۤ . { جَزَاء وِفَـٰقاً } أي موافقاً لأعمالهم ، وجزاء منتصب على المصدر ، ووفاقاً نعت له . قال الفرّاء ، والأخفش جازيناهم جزاء وافق أعمالهم ، قال الزجاج جوزوا جزاء وافق أعمالهم . قال الفرّاء الوفاق جمع الوفق ، والوفق والموافق واحد . قال مقاتل وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار . وقال الحسن ، وعكرمة كانت أعمالهم سيئة ، فأتاهم الله بما يسوؤهم { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً } أي لا يرجون ثواب حساب . قال الزجاج كانوا لا يؤمنون بالبعث ، فيرجون حسابهم ، والجملة تعليل لاستحقاقهم الجزاء المذكور { وَكَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا كِذَّاباً } أي كذبوا بالآيات القرآنية ، أو كذبوا بما هو أعم منها تكذيباً شديداً ، وفعال من مصادر التفعل . قال الفرّاء هي لغة فصيحة يمانية ، تقول كذبت كذاباً ، وخرقت القميص خراقاً . قال في الصحاح وكذبوا بآياتنا كذاباً هو أحد مصادر المشدّد لأن مصدره قد يجيء على تفعيل مثل التكليم ، وعلى فعال مثل كذاب ، وعلى تفعلة مثل توصية ، وعلى مفعل مثل { وَمَزَّقْنَـٰهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } سبأ 19 قرأ الجمهور { كذاباً } بالتشديد . وقرأ عليّ بن أبي طالب بالتخفيف . وقال أبو عليّ الفارسي التخفيف والتشديد جميعاً مصدر المكاذبة . وقرأ ابن عمر كذاباً بضم الكاف والتشديد ، جمع كاذب . قال أبو حاتم ونصبه على الحال . قال الزمخشري وقد يكون يعني على هذه القراءة بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، تقول رجل كذاب كقولك حسان وبخال . { وَكُلَّ شَىْء أَحْصَيْنَـٰهُ كِتَـٰباً } قرأ الجمهور { وكل } بالنصب على الاشتغال أي وأحصينا كل شيء أحصيناه . وقرأ أبو السماك برفعه على الابتداء ، وما بعده خبره ، وهذه الجملة معترضة بين السبب والمسبب ، وانتصاب { كتاباً } على المصدرية لأحصيناه لأن أحصيناه في معنى كتبناه ، وقيل هو منتصب على الحال أي مكتوباً ، قيل المراد كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة ، وقيل أراد ما كتبه الحفظة على العباد من أعمالهم ، وقيل المراد به العلم لأن ما كتب كان أبعد من النسيان ، والأوّل أولى لقوله { وَكُلَّ شىْء أَحْصَيْنَـٰهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ } يۤس 12 { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } هذه الجملة مسببة عن كفرهم ، وتكذيبهم بالآيات . قال الرّازي هذه الفاء للجزاء ، فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدّم شرحه من قبائح أفعالهم ومن الزيادة في عذابهم أنها كلما نضجت جلودهم بدّلهم جلوداً غيرها ، وكلما خبت النار زادهم الله سعيراً . وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس { عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ } قال القرآن وهذا مرويّ عن جماعة من التابعين . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } قال مضيئاً { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ } قال السحاب { مَاء ثَجَّاجاً } قال منصباً . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً { ثَجَّاجاً } قال منصباً . وأخرج الشافعي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً } قال يبعث الله الريح ، فتحمل الماء ، فيمرّ به السحاب ، فتدرّ كما تدرّ اللقحة ، والثجاج ينزل من السماء أمثال العزالي فتصرّفه الرياح فينزل متفرّقاً . وأخرج ابن جرير ، وابن الأنباري في المصاحف عن قتادة قال في قراءة ابن عباس { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ } بالرياح . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله { وَجَنَّـٰتٍ أَلْفَافاً } قال ملتفة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال يقول التفّ بعضها ببعض . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله { وَسُيّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً } قال سراب الشمس الآل . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { لَّـٰبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً } قال سنين . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن سالم بن أبي الجعد قال سأل عليّ بن أبي طالب هلال الهجري ما تجدون الحقب في كتاب الله ؟ قال نجده ثمانين سنة كل سنة منها اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوماً كل يوم ألف سنة . وأخرج سعيد بن منصور ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال الحقب الواحد ثمانون سنة . وأخرج البزار عن أبي هريرة رفعه قال الحقب ثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً ، واليوم كألف سنة مما تعدّون . وأخرج عبد بن حميد عنه قال الحقب ثمانون عاماً اليوم منها كسدس الدنيا . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه . قال السيوطي بسند ضعيف عن أبي أمامة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم { لَّـٰبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً } قال " الحقب ألف شهر ، والشهر ثلاثون يوماً ، والسنة اثنا عشر شهراً ثلاثمائة وستون يوماً كل يوم منها ألف سنة مما تعدون ، فالحقب ثلاثون ألف سنة " وأخرج البزار ، وابن مردويه ، والديلمي عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال " والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقاباً ، والحقب بضع وثمانون سنة ، كل سنة ثلثمائة وستون يوماً ، واليوم ألف سنة مما تعدّون " قال ابن عمر فلا يتكلنّ أحد أنه يخرج من النار . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن عبد الله ابن عمرو قال الحقب الواحد ثمانون سنة . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحقب أربعون سنة " وأخرج ابن جرير عن خالد بن معدان في قوله { لَّـٰبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً } وقوله { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } هود 108 إنهما في أهل التوحيد من أهل القبلة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال زمهرير جهنم يكون لهم من العذاب لأن الله يقول { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } . وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي قوله { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً } قال " قد انتهى حرّه { وَغَسَّاقاً } قد انتهى حرّه ، وإن الرجل إذا أدنى الإناء من فيه سقط فروة وجهه ، حتى يبقى عظاماً تقعقع " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { جَزَاء وِفَـٰقاً } قال وافق أعمالهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عبد الله بن عمرو قال ما أنزلت على أهل النار آية قط أشدّ منها { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } فهم في مزيد من عذاب الله أبداً .