Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 78, Ayat: 31-40)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } هذا شروع في بيان حال المؤمنين ، وما أعدّ الله لهم من الخير بعد بيان حال الكافرين ، وما أعدّ الله لهم من الشرّ ، والمفاز مصدر بمعنى الفوز ، والظفر بالنعمة ، والمطلوب ، والنجاة من النار ، ومنه قيل للفلاة مفازة تفاؤلاً بالخلاص منها . ثم فسّر سبحانه هذا المفاز فقال { حَدَائِقَ وَأَعْنَـٰباً } وانتصابهما على أنهما بدل من مفازاً بدل اشتمال ، أو بدل كلّ من كل على طريق المبالغة بجعل نفس هذه الأشياء مفازة ، ويجوز أن يكون النصب بإضمار أعني ، وإذا كان مفازاً بمعنى الفوز ، فيقدر مضاف محذوف أي فوز حدائق ، وهي جمع حديقة وهي البستان المحوّط عليه ، والأعناب جمع عنب أي كروم أعناب { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } الكواعب جمع كاعبة وهي الناهدة ، يقال كعبت الجارية تكعب تكعيباً وكعوباً ، ونهدت تنهد نهوداً ، والمراد أنهم نساء كواعب تكعبت ثديهن وتفلكت أي صارت ثديهنّ كالكعب في صدورهنّ . قال الضحاك الكواعب العذارى . قال قيس بن عاصم @ وكم من حصان قد حوينا كريمة وكم كاعب لم تدر ما البؤس معصر @@ وقال عمر بن أبي ربيعة @ وكان مجنى دون ما كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبات ومعصر @@ والأتراب الأقران في السنّ ، وقد تقدّم تحقيقه في سورة البقرة { وَكَأْساً دِهَاقاً } أي ممتلئة . قال الحسن ، وقتادة ، وابن زيد أي مترعة مملوءة ، يقال أدهقت الكأس أي ملأتها ، ومنه قول الشاعر @ ألا أسقني صرفا سقاك الساقي من مائها بكأسك الدهاق @@ وقال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد { دِهَاقاً } متتابعة يتبع بعضها بعضاً . وقال زيد بن أسلم { دِهَاقاً } صافية ، والمراد بالكأس الإناء المعروف ، ولا يقال له الكأس إلاّ إذا كان فيه الشراب { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً } أي لا يسمعون في الجنة لغواً ، وهو الباطل من الكلام ، ولا كذاباً أي ولا يكذب بعضهم بعضاً . قرأ الجمهور { كذاباً } بالتشديد ، وقرأ الكسائي هنا بالتخفيف ، ووافق الجماعة على التشديد في قوله { وكذبوا بآياتنا كذاباً } المتقدم في هذه السورة للتصريح بفعله هناك ، وقد قدّمنا الخلاف في { كذاباً } هل هو من مصادر التفعيل ، أو من مصادر المفاعلة ؟ { جَزَاء مّن رَّبّكَ } أي جازاهم بما تقدّم ذكره جزاء . قال الزجاج المعنى جزاهم جزاء ، وكذا { عَطَاء } أي وأعطاهم عطاء { حِسَاباً } قال أبو عبيدة كافياً . وقال ابن قتيبة كثيراً ، يقال أحسبت فلاناً أي أكثرت له العطاء ، ومنه قول الشاعر @ ونعطي وليد الحي إن كان جائعا ونحسبه إن كان ليس بجائع @@ قال ابن قتيبة أي نعطيه حتى يقول حسبي . قال الزجاج حساباً أي ما يكفيهم . قال الأخفش يقال أحسبني كذا أي كفاني . قال الكلبي حاسبهم ، فأعطاهم بالحسنة عشراً . وقال مجاهد حساباً لما عملوه ، فالحساب بمعنى القدر أي يقدّر ما وجب له في وعد الربّ سبحانه ، فإنه وعد للحسنة عشراً ، ووعد لقوم سبعمائة ضعف ، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار كقوله { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } الزمر 10 وقرأ أبو هاشم حساباً بفتح الحاء ، وتشديد السين أي كفافاً . قال الأصمعي تقول العرب حسبت الرجل بالتشديد إذا أكرمته ، ومنه قول الشاعر @ إذا أتاه ضيفه يحسبه @@ وقرأ ابن عباس حساناً بالنون { رَبّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَـٰنِ } . قرأ ابن مسعود ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وزيد عن يعقوب ، والمفضل عن عاصم برفع ربّ و الرحمٰن على أن ربّ مبتدأ ، والرحمٰن خبره ، أو على أن ربّ خبر مبتدأ مقدّر أي هو ربّ ، والرحمٰن صفته ، و { لا يملكون } خبر ربّ ، أو على أن ربّ مبتدأ ، والرحمٰن مبتدأ ثان ، ولا يملكون خبر المبتدأ الثاني ، والجملة خبر المبتدأ الأوّل . وقرأ يعقوب في رواية عنه ، وابن عامر ، وعاصم في رواية عنه بخفضهما على أن ربّ بدل من ربك ، والرحمٰن صفة له . وقرأ ابن عباس ، وحمزة ، والكسائي بخفض الأوّل على البدل ، ورفع الثاني على أنه خبر متبدأ محذوف أي هو الرحمٰن ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وقال هذه القراءة أعدلها ، فخفض ربّ لقربه من ربك ، فيكون نعتاً له ، ورفع الرحمٰن لبعده منه على الاستئناف ، وخبره { لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } أي لا يملكون أن يسألوا إلاّ فيما أذن لهم فيه . وقال الكسائي لا يملكون منه خطاباً بالشفاعة إلاّ بإذنه ، وقيل الخطاب الكلام أي لا يملكون أن يخاطبوا الربّ سبحانه إلاّ بإذنه ، دليله { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } هود 105 وقيل أراد الكفار ، وأما المؤمنون فيشفعون . ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال على ما تقدّم بيانه ، ويجوز أن تكون مستأنفة مقرّرة لما تفيده الربوبية من العظمة والكبرياء . { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً } الظرف منتصب بلا يتكلمون ، أو بلا يملكون ، وصفّاً منتصب على الحال أي مصطفين ، أو على المصدرية أي يصفون صفاً ، وقوله { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ } في محل نصب على الحال ، أو مستأنف لتقرير ما قبله . واختلف في الروح فقيل إنه ملك من الملائكة أعظم من السماوات السبع ، ومن الأرضين السبع ، ومن الجبال ، وقيل هو جبريل قاله الشعبي ، والضحاك ، وسعيد بن جبير . وقيل الروح جند من جنود الله ليسوا ملائكة قاله أبو صالح ، ومجاهد ، وقيل هم أشراف الملائكة قاله مقاتل بن حيان . وقيل هم حفظة على الملائكة قاله ابن أبي نجيح . وقيل هم بنو آدم قاله الحسن ، وقتادة . وقيل هم أرواح بني آدم تقوم صفاً وتقوم الملائكة صفاً ، وذلك بين النفختين قبل أن تردّ إلى الأجسام قاله عطية العوفي . وقيل إنه القرآن قاله زيد بن أسلم . وقوله { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } يجوز أن يكون بدلاً من ضمير يتكلمون ، وأن يكون منصوباً على أصل الاستثناء ، والمعنى لا يشفعون لأحد إلاّ من أذن له الرحمٰن بالشفاعة أو لا يتكلمون إلاّ في حقّ من أذن له الرحمٰن وكان ذلك الشخص ممن { قال صَوَاباً } قال الضحاك ، ومجاهد { صواباً } يعني حقاً . وقال أبو صالح لا إلٰه إلاّ الله . وأصل الصواب السداد من القول والفعل . قيل { لا يتكلمون } يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفاً هيبة وإجلالاً إلاّ من أذن له الرحمٰن منهم في الشفاعة ، وهم قد قالوا صواباً . قال الحسن إن الروح تقوم يوم القيامة لا يدخل أحد الجنة إلاّ بالروح ، ولا النار إلاّ بالعمل . قال الواحدي فهم لا يتكلمون يعني الخلق كلهم إلاّ من أذن له الرحمٰن ، وهم المؤمنون والملائكة ، وقال في الدنيا صواباً أي شهد بالتوحيد ، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى يوم قيامهم على تلك الصفة ، وهو مبتدأ وخبره { ٱلْيَوْمُ ٱلْحَقُّ } أي الكائن الواقع المتحقق { فَمَن شَاء ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبّهِ مَـئَاباً } أي مرجعاً يرجع إليه بالعمل الصالح لأنه إذا عمل خيراً قرّبه إلى الله ، وإذا عمل شرّاً باعده منه ، ومعنى { إِلَىٰ رَبّهِ } إلى ثواب ربه ، قال قتادة مآباً سبيلاً . ثم زاد سبحانه في تخويف الكفار فقال { إِنَّا أَنذَرْنَـٰكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } يعني العذاب في الآخرة ، وكلّ ما هو آت ، فهو قريب ، ومثله قوله { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـٰهَا } النازعات 46 كذا قال الكلبي ، وغيره . وقال قتادة هو عذاب الدنيا لأنه أقرب العذابين . قال مقاتل هو قتل قريش ببدر ، والأوّل أولى لقوله { يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } فإن الظرف إما بدل من عذاب ، أو ظرف لمضمر هو صفة له أي عذاباً كائناً { يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْء } أي يشاهد ما قدّمه من خير أو شرّ ، وما موصولة أو استفهامية . قال الحسن والمرء هنا هو المؤمن أي يجد لنفسه عملاً ، فأما الكافر ، فلا يجد لنفسه عملاً ، فيتمنى أن يكون تراباً ، وقيل المراد به الكافر على العموم ، وقيل أبيّ بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، والأوّل أولى لقوله { وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ ٱلْكَافِرُ يَـٰلَيْتَنِى كُنتُ تُرٰباً } فإن الكافر واقع في مقابلة المرء ، والمراد جنس الكافر يتمنى أن يكون تراباً لما يشاهده مما قد أعدّه الله له من أنواع العذاب ، والمعنى أنه يتمنى أنه كان تراباً في الدنيا فلم يخلق ، أو تراباً يوم القيامة . وقيل المراد بالكافر أبو جهل ، وقيل أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، وقيل إبليس ، والأوّل أولى اعتباراً بعموم اللفظ ، ولا ينافيه خصوص السبب ، كما تقدّم غير مرّة . وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } قال منتزهاً { وَكَوَاعِبَ } قال نواهد { أَتْرَاباً } قال مستويات { وَكَأْساً دِهَاقاً } قال ممتلئاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله { وَكَأْساً دِهَاقاً } قال هي الممتلئة المترعة المتتابعة ، وربما سمعت العباس يقول يا غلام اسقنا ، وادهق لنا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه دهاقاً ، قال دراكاً . وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً قال إذا كان فيها خمر فهي كأس ، وإذا لم يكن فيها خمر ، فليس بكأس . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه عنه أيضاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال " الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس ، وأيد ، وأرجل " ثم قرأ { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً } قال " هؤلاء جند ، وهؤلاء جند " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ } قال هو ملك من أعظم الملائكة خلقاً . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال الروح في السماء الرابعة ، وهو أعظم من السمٰوات والجبال ومن الملائكة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً من الملائكة يجيء يوم القيامة صفاً واحداً . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال إن جبريل يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار ترعد فرائصه فرقاً من عذاب الله ، يقول سبحانك لا إلٰه إلاّ أنت ما عبدناك حق عبادتك ، ما بين منكبيه ، كما بين المشرق والمغرب ، أما سمعت قول الله { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً } . وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ } قال يعني حين تقوم أرواح الناس مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن تردّ الروح إلى الأجساد . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً { وَقَالَ صَوَاباً } قال لا إلٰه إلاّ الله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث والنشور عن أبي هريرة قال يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم ، والدواب ، والطير وكلّ شيء ، فيبلغ من عذاب الله أن يؤخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول كوني تراباً ، فذلك حين يقول الكافر { ٱلْكَافِرُ يَـٰلَيْتَنِى كُنتُ تُرٰباً } .