Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 83, Ayat: 18-36)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { كَلاَّ } للردع ، والزجر عما كانوا عليه ، والتكرير للتأكيد ، وجملة { إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلأَبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ } مستأنفة لبيان ما تضمنته ، ويجوز أن يكون كلا بمعنى حقاً ، والأبرار هم المطيعون ، وكتابهم صحائف حسناتهم . قال الفراء عليين ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له ، ووجه هذا أنه منقول من جمع عليّ من العلوّ . قال الزجاج هو إعلاء الأمكنة . قال الفراء والزجاج فأعرب كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع ، ولا واحد له من لفظه نحو ثلاثين ، وعشرين ، وقنسرين . قيل هو علم لديوان الخير الذي دوّن فيه ما عمله الصالحون . وحكى الواحدي عن المفسرين أنه السماء السابعة . قال الضحاك ، ومجاهد ، وقتادة يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين . وقال الضحاك هو سدرة المنتهى ينتهي إليه كل شيء من أمر الله لا يعدوها ، وقيل هو الجنة ، وقال قتادة أيضاً هو فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى ، وقيل إن عليين صفة للملائكة ، فإنهم في الملأ الأعلى ، كما يقال فلان في بني فلان أي في جملتهم { وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ * كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ } أي وما أعلمك يا محمد أيّ شيء عليون على جهة التفخيم والتعظيم لعليين ، ثم فسره فقال { كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ } أي مسطور ، والكلام في هذا كالكلام المتقدم في قوله { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ * كِتَـٰبٌ مَّرْقُومٌ } المطففين 8 ، 9 وجملة { يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } صفة أخرى لكتاب ، والمعنى أن الملائكة يحضرون ذلك الكتاب المرقوم ، وقيل يشهدون بما فيه يوم القيامة . قال وهب وابن إسحاق المقرّبون هنا إسرافيل ، فإذا عمل المؤمن عمل البرّ صعدت الملائكة بالصحيفة ، ولها نور يتلألأ في السمٰوات كنور الشمس في الأرض حتى تنتهي بها إلى إسرافيل ، فيختم عليها . ثم ذكر سبحانه حالهم في الجنة بعد ذكر كتابهم ، فقال { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ } أي إن أهل الطاعة لفي تنعم عظيم لا يقادر قدره { عَلَى ٱلأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } الأرائك الأسرة التي في الحجال ، وقد تقدّم أنها لا تطلق الأريكة على السرير إلا إذا كان في حجلة . قال الحسن ما كنا ندري ما الأرائك حتى قدم علينا رجل من اليمن ، فزعم أن الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير . ومعنى { يُنظَرُونَ } أنهم ينظرون إلى ما أعدّ الله لهم من الكرامات ، كذا قال عكرمة ، ومجاهد ، وغيرهما . وقال مقاتل ينظرون إلى أهل النار ، وقيل ينظرون إلى وجهه ، وجلاله . { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } أي إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة لما تراه في وجوههم من النور ، والحسن ، والبياض ، والبهجة ، والرونق ، والخطاب لكلّ راء يصلح لذلك ، يقال أنضر النبات إذا أزهر ونوّر . قال عطاء وذلك أن الله زاد في جمالهم ، وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف . قرأ الجمهور { تعرف } بفتح الفوقية ، وكسر الراء ، ونصب نضرة ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، ويعقوب ، وشيبة ، وطلحة ، وابن أبي إسحاق بضم الفوقية ، وفتح الراء على البناء للمفعول ، ورفع نضرة بالنيابة { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ } قال أبو عبيدة ، والأخفش ، والمبرد ، والزجاج الرحيق من الخمر ما لا غشّ فيه ، ولا شيء يفسده . والمختوم الذي له ختام . وقال الخليل الرحيق أجود الخمر ، وفي الصحاح الرحيق صفرة الخمر . وقال مجاهد هو الخمر العتيقة البيضاء الصافية ، ومنه قول حسان @ يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل @@ قال مجاهد { مَّخْتُومٍ } مطين كأنه ذهب إلى معنى الختم بالطين ، ويكون المعنى أنه ممنوع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه للأبرار . وقال سعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ختامه آخر طعمه . وهو معنى قوله { خِتَـٰمُهُ مِسْكٌ } أي آخر طعمه ريح المسك إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك . وقيل مختوم أوانيه من الأكواب ، والأباريق بمسك مكان الطين ، وكأنه تمثيل لكمال نفاسته ، وطيب رائحته . والحاصل أن المختوم ، والختام إما أن يكون من ختام الشيء وهو آخره ، أو من ختم الشيء وهو جعل الخاتم عليه ، كما تختم الأشياء بالطين ، ونحوه . قرأ الجمهور { ختامه } وقرأ عليّ ، وعلقمة ، وشقيق ، والضحاك ، وطاووس ، والكسائي " خاتمه " بفتح الخاء ، والتاء ، وألف بينهما . قال علقمة أما رأيت المرأة تقول للعطار اجعل خاتمه مسكاً أي آخره ، والخاتم ، والختام يتقاربان في المعنى ، إلا أن الخاتم الاسم ، والختام المصدر ، كذا قال الفراء قال في الصحاح والختام الطين الذي يختم به ، وكذا قال ابن زيد . قال الفرزدق @ وبتن بجانبي مصرّعات وبت أفضّ أغلاف الختام @@ { وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَـٰفِسُونَ } أي فليرغب الراغبون ، والإشارة بقوله { ذلك } إلى الرحيق الموصوف بتلك الصفة ، وقيل إن في بمعنى إلى ، أي وإلى ذلك ، فليتبادر المتبادرون في العمل ، كما في قوله { لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَـٰمِلُونَ } الصافات 61 وأصل التنافس التشاجر على الشيء ، والتنازع فيه ، بأن يحب كل واحد أن يتفرد به دون صاحبه ، يقال نفست الشيء عليه أنفسه نفاسة أي ظننت به ، ولم أحبّ أن يصير إليه . قال البغوي أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ، فيريده كل واحد لنفسه ، وينفس به على غيره أي يضن به . قال عطاء المعنى فليستبق المستبقون . وقال مقاتل بن سليمان فليتنازع المتنازعون ، وقوله { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } معطوف على { خِتَـٰمُهُ مِسْكٌ } صفة أخرى لرحيق أي ومزاج ذلك الرحيق من تسنيم ، وهو شراب ينصبّ عليهم من علو ، وهو أشرف شراب الجنة ، وأصل التسنيم في اللغة الارتفاع ، فهي عين ماء تجري من علوّ إلى أسفل ، ومنه سنام البعير لعلوّه من بدنه ، ومنه تسنيم القبور ، ثم بيّن ذلك فقال { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ } وانتصاب عيناً على المدح . وقال الزجاج على الحال ، وإنما جاز أن تكون { عيناً } حالاً مع كونها جامدة غير مشتقة لاتصافها بقوله { يَشْرَبُ بِهَا } وقال الأخفش إنها منصوبة بـ { يسقون } أي يسقون عيناً ، أو من عين ، وقال الفرّاء إنها منصوبة بـ { تسنيم } على أنه مصدر مشتق من السنام ، كما في قوله { أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً } البلد 14 ، 15 والأوّل أولى ، وبه قال المبرّد . قيل والباء في بها زائدة أي يشربها ، أو بمعنى من أي يشرب منها . قال ابن زيد بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش ، قيل يشرب بها المقرّبون صرفاً ، ويمزج بها كأس أصحاب اليمين . ثم ذكر سبحانه بعض قبائح المشركين فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ } وهم كفار قريش ، ومن وافقهم على الكفر { كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ } أي كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين ويسخرون منهم { وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ } أي وإذا مرّ المؤمنون بالكفار وهم في مجالسهم { يَتَغَامَزُونَ } من الغمز ، وهو الإشارة بالجفون والحواجب أي يغمز بعضهم بعضاً ، ويشيرون بأعينهم وحواجبهم ، وقيل يعيرونهم بالإسلام ، ويعيبونهم به { وَإِذَا ٱنقَلَبُواْ } أي الكفار { إِلَىٰ أَهْلِهِمْ } من مجالسهم { ٱنقَلَبُواْ فَـٰكِهِينَ } أي معجبين بما هم فيه متلذذين به ، يتفكهون بذكر المؤمنين ، والطعن فيهم ، والاستهزاء بهم ، والسخرية منهم . والانقلاب الانصراف . قرأ الجمهور " فاكهين " وقرأ حفص ، وابن القعقاع ، والأعرج ، والسلمي { فكهين } بغير ألف . قال الفرّاء هما لغتان ، مثل طمع وطامع ، وحذر وحاذر . وقد تقدّم بيانه في سورة الدخان أن الفكه الأشر البطر ، والفاكه الناعم المتنعم { وَإِذَا رَأَوْهُمْ } أي إذا رأى الكفار المسلمين في أي مكان { قَالُواْ إِنَّ هَـؤُلاَء لَضَالُّونَ } في اتباعهم محمداً ، وتمسكهم بما جاء به ، وتركهم التنعم الحاضر ، ويجوز أن يكون المعنى وإذا رأى المسلمون الكافرين قالوا هذا القول ، والأوّل أولى ، وجملة { وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَـٰفِظِينَ } في محل نصب على الحال من فاعل قالوا أي قالوا ذلك أنهم لم يرسلوا على المسلمين من جهة الله موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم . { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } المراد باليوم اليوم الآخر { مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } والمعنى أن المؤمنين في ذلك اليوم يضحكون من الكفار حين يرونهم أذلاء مغلوبين قد نزل بهم ما نزل من العذاب ، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا ، وجملة { عَلَى ٱلأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } في محل نصب على الحال من فاعل { يضحكون } أي يضحكون منهم ناظرين إليهم ، وإلى ما هم فيه من الحال الفظيع ، وقد تقدّم تفسير الأرائك قريباً . قال الواحدي قال المفسرون إن أهل الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعداء الله ، وهم يعذبون في النار ، فضحكوا منهم ، كما ضحكوا منهم في الدنيا . وقال أبو صالح يقال لأهل النار اخرجوا ، ويفتح لهم أبوابها ، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج ، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك ، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم ، فذلك قوله { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } . { هَلْ ثُوّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } الجملة مستأنفة لبيان أنه قد وقع الجزاء للكفار بما كان يقع منهم في الدنيا من الضحك من المؤمنين ، والاستهزاء بهم ، والاستفهام للتقرير ، وثوّب بمعنى أثيب ، والمعنى هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلونه بالمؤمنين ؟ وقيل الجملة في محل نصب بينظرون ، وقيل هي على إضمار القول أي يقول بعض المؤمنين لبعض هل ثوّب الكفار ، والثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله ، ويطلق على الخير والشرّ . وقد أخرج ابن المبارك في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر من طريق شمر بن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله { إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ } قال روح المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء ، ففتح لها أبواب السماء ، وتلقاها الملائكة بالبشرى حتى تنتهي بها إلى العرش ، وتعرج الملائكة ، فيخرج لها من تحت العرش رقّ ، فيرقم ويختم ويوضع تحت العرش لمعرفة النجاة لحساب يوم الدين . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { لَفِى عِلّيّينَ } قال الجنة ، وفي قوله { يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } قال أهل السماء . وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والطبراني ، وابن مردويه عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين " وأخرج ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب في قوله { نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } قال عين في الجنة يتوضئون منها ويغتسلون ، فتجري عليهم نضرة النعيم . وأخرج عبد بن حميد ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وهناد ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث عن ابن مسعود في قوله { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ } قال الرحيق الخمر ، والمختوم يجدون عاقبتها طعم المسك . وأخرج ابن أبي شيبة ، وهناد ، وابن المنذر عنه في قوله { مَّخْتُومٍ } قال ممزوج { خِتَـٰمُهُ مِسْكٌ } قال طعمه وريحه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله { مِن رَّحِيقٍ } قال خمر ، وقوله { مَّخْتُومٍ } قال ختم بالمسك . وأخرج الفريابي ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن ابن مسعود في قوله { خِتَـٰمُهُ مِسْكٌ } قال ليس بخاتم يختم به ، ولكن خلطه مسك ، ألم تر إلى المرأة من نسائكم تقول خلطه من الطيب كذا وكذا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن أبي الدرداء { خِتَـٰمُهُ مِسْكٌ } قال هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شرابهم ، ولو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها ، لم يبق ذو روح إلا وجد ريحها . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال { تَسْنِيمٍ } أشرف شراب أهل الجنة ، وهو صرف للمتقين ، ويمزج لأصحاب اليمين . وأخرج ابن المبارك ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } قال عين في الجنة تمزج لأصحاب اليمين ، ويشربها المقرّبون صرفاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن ابن عباس أنه سئل عن قوله { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } قال هذا مما قال الله { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } السجدة 17 .