Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 113-114)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما بيّن الله سبحانه في أول السورة وما بعده أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة ، بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيداً ، وصرّح بأن ذلك متحتم ، ولو كانوا أولي قربى ، وأن القرابة في مثل هذا الحكم لا تأثير لها . وقد ذكر أهل التفسير أن { ما كان } في القرآن يأتي على وجهين الأوّل على النفي نحو { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } آل عمران 145 ، والآخر على معنى النهي نحو { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } الأحزاب 53 و { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } وهذه الآية متضمنة لقطع الموالاة للكفار ، وتحريم الاستغفار لهم ، والدعاء بما لا يجوز لمن كان كافراً ، ولا ينافي هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال يوم أحد حين كسر المشركون رباعيته وشجوا وجهه اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، لأنه يمكن أن يكون ذلك قبل أن يبلغه تحريم الاستغفار للمشركين . وعلى فرض أنه قد كان بلغه ، كما يفيده سبب النزول ، فإنه قبل يوم أحد بمدّة طويلة ، وسيأتي . فصدور هذا الاستغفار منه لقومه إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدّمه من الأنبياء ، كما في صحيح مسلم عن عبد الله ، قال كأني أنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه ، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول " ربّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " وفي البخاري ، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر نبياً قبله شجه قومه ، فجعل النبي يخبر عنه بأنه قال " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " قوله { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَحِيمِ } هذه الجملة تتضمن التعليل للنهي عن الاستغفار ، والمعنى أن هذا التبين موجب لقطع الموالاة لمن كان هكذا ، وعدم الاعتداد بالقرابة لأنهم ماتوا على الشرك . وقد قال سبحانه { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } النساء 48 . فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده . قوله { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرٰهِيمَ لأَبِيهِ } الآية ذكر الله سبحانه السبب في استغفار إبراهيم لأبيه ، أنه كان لأجل وعد تقدّم من إبراهيم لأبيه بالاستغفار له ، ولكنه ترك ذلك وتبرأ منه لما تبين له أنه عدوّ لله ، وأنه غير مستحق للاستغفار ، وهذا يدلّ على أنه إنما وعده قبل أن يتبين له أنه من أهل النار ، ومن أعداء الله ، فلا حاجة إلى السؤال الذي يورده كثير من المفسرين ، أنه كيف خفي ذلك على إبراهيم ، فإنه لم يخف عليه تحريم الاستغفار لمن أصرّ على الكفر ومات عليه ، وهو لم يعلم ذلك إلا بإخبار الله سبحانه له بأنه عدوّ الله ، فإن ثبوت هذه العداوة تدلّ على الكفر ، وكذلك لم يعلم نبينا بتحريم ذلك إلا بعد أن أخبره الله بهذه الآية ، وهذا حكم إنما يثبت بالسمع لا بالعقل . وقيل المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه إلى الإسلام ، وهو ضعيف جداً . وقيل المراد بالاستغفار في هذه الآية النهي عن الصلاة على جنائز الكفار ، فهو كقوله { وَلاَ تُصَلّ عَلَىٰ أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } التوبة 84 ولا حاجة إلى تفسير الاستغفار بالصلاة ولا ملجىء إلى ذلك ، ثم ختم الله سبحانه هذه الآية بالثناء العظيم على إبراهيم . فقال { إِنَّ إِبْرٰهِيمَ لأَوَّاهٌ } وهو كثير التأوّه ، كما تدل على ذلك صيغة المبالغة . وقد اختلف أهل العلم في معنى الأوّاه ، فقال ابن مسعود ، وعبيد بن عمير إنه الذي يكثر الدعاء . وقال الحسن ، وقتادة إنه الرّحيم بعباد الله . وروي عن ابن عباس أنه المؤمن بلغة الحبشة . وقال الكلبي إنه الذي يذكر الله في الأرض القفر . وروي مثله عن ابن المسيب ، وقيل الذي يكثر الذكر لله من غير تقييد ، روي ذلك عن عقبة بن عامر . وقيل هو الذي يكثر التلاوة ، حكي ذلك عن ابن عباس . وقيل إنه الفقيه ، قاله مجاهد والنخعي . وقيل المتضرع الخاضع ، روى ذلك عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد . وقيل هو الذي إذا ذكر خطاياه استغفر لها ، روي ذلك عن أبي أيوب . وقيل هو الشفيق قاله عبد العزيز بن يحيى . وقيل إنه المعلم للخير . وقيل إنه الراجع عن كل ما يكرهه الله ، قاله عطاء . والمطابق لمعنى الأوّاه لغة أن يقال إنه الذي يكثر التأوّه من ذنوبه ، فيقول مثلاً آه من ذنوبي آه ، مما أعاقب به بسببها ، ونحو ذلك ، وبه قال الفراء ، وهو مروي عن أبي ذرّ ، ومعنى التأوّه هو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء . قال في الصحاح وقد أوّه الرجل تأويهاً ، وتأوه تأوهاً إذا قال أوّه ، والاسم منه آهة بالمدّ ، قال @ إذا ما قمت أرحلها بليل تأوّه آهة الرجل الحزين @@ و { الحليم } الكثير الحلم ، كما تفيده صيغة المبالغة ، وهو الذي يصفح عن الذنوب ، ويصبر على الأذى . وقيل الذي لا يعاقب أحداً قط إلا لله . وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه ، قال لما حضرت الوفاة أبا طالب دخل النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أي عمّ ، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله " ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ، وأبو جهل وعبد الله ، يعاندانه بتلك المقالة . فقال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك " ، فنزلت { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ } الآية ، وأنزل الله في أبي طالب { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء } القصص 56 . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، والضياء في المختارة ، عن عليّ قال سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقلت تستغفر لأبويك وهما مشركان ؟ فقال أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ } الآية . وأخرج ابن سعد ، وابن عساكر ، عن عليّ قال أخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب ، فبكى ، فقال " اذهب فغسله وكفنه ، وواره غفر الله له ورحمه " ، ففعلت ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له أياماً ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ } الآية . وقد روي كون سبب نزول الآية استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب من طرق كثيرة منها عن محمد بن كعب ، عند ابن أبي حاتم وأبي الشيخ ، وهو مرسل . ومنها عن عمرو بن دينار ، عند ابن جرير ، وهو مرسل أيضاً . ومنها عن سعيد بن المسيب ، عند ابن جرير ، وهو مرسل أيضاً . ومنها عن عمر بن الخطاب عند ابن سعد ، وأبي الشيخ وابن عساكر . ومنها عن الحسن البصري عند ابن عساكر ، وهو مرسل . وروي أنها نزلت بسبب زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لقبر أمه ، واستغفاره لها ، من طريق ابن عباس عند الطبراني وابن مردويه ، ومن طريق ابن مسعود عند ابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وعن بريدة عند ابن مردويه ، وما في الصحيحين مقدّم على ما لم يكن فيهما ، على فرض أنه صحيح ، فكيف وهو ضعيف غالبه . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ } إلى قوله { كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا } الإسراء 24 قال ثم استثنى فقال { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ } إلى قوله { إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ } قال تبين له حين مات وعلم أن التوبة قد انقطعت منه . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وأبو بكر الشافعي في فوائده ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس قال لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما مات تبين له أنه عدوّ لله ، فتبرأ منه . وأخرج ابن مردويه ، عن جابر ، أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر ، فقال رجل لو أن هذا خفض صوته ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعه فإنه أوّاه " وأخرج الطبراني وابن مردويه ، عن عقبة بن عامر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو النجادين " إنه أوّاه " ، وذلك أنه كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء . وأخرجه أيضاً أحمد قال حدّثنا موسى بن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن عليّ بن رباح ، عن عقبة بن عامر ، فذكره . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد قال قال رجل يا رسول ، الله ما الأوّاه ؟ قال " الخاشع المتضرّع الدّعاء " وهذا إن ثبت وجب المصير إليه وتقديمه على ما ذكره أهل اللغة في معنى الأوّاه ، وإسناده عند ابن جرير هكذا حدّثني المثنى ، حدثني الحجاج بن منهال ، حدّثنا عبد الحميد بن بهرام ، حدّثنا شهر بن حوشب ، عن عبد الله بن شداد ، فذكره . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله { إِنَّ إِبْرٰهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } قال كان من حلمه أنه كان إذا أذاه الرجل من قومه قال له هداك الله .