Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 115-119)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما نزلت الآية المتقدّمة في النهي عن الاستغفار للمشركين ، خاف جماعة ممن كان يستغفر لهمَ العقوبة من الله بسبب ذلك الاستغفار ، فأنزل الله سبحانه { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً } إلخ أي أن الله سبحانه لا يوقع الضلال على قوم ، ولا يسميهم ضلالاً بعد أن هداهم إلى الإسلام ، والقيام بشرائعه ، مالم يقدموا على شيء من المحرّمات بعد أن يتبين لهم أنه محرّم ، وأما قبل أن يتبين لهم ذلك ، فلا إثم عليهم ولا يؤاخذون به ، ومعنى { حَتَّىٰ يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } حتى يتبين لهم ما يجب عليهم اتقاؤه من محرّمات الشرع { إِن ٱللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } مما يحلّ لعباده ، ويحرم عليه ، ومن سائر الأشياء التي خلقها ، ثم بين لهم أن له سبحانه ملك السموات والأرض لا يشاركه في ذلك مشارك ، ولا ينازعه منازع يتصرف في ملكه بما شاء من التصرفات التي من جملتها أنه يحيى من قضت مشيئته بإحيائه ، ويميت من قضت مشيته بإماتته ، وما لعباده من دونه من وليّ يواليهم ، ولا نصير ينصرهم ، فلا يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ، فإن القرابة لا تنفع شيئاً ولا تؤثر أثراً ، بل التصرف في جميع الأشياء لله وحده . قوله { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِىّ } فيما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الإذن في التخلف ، أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين . وليس من لازم التوبة أن يسبق الذنب ممن وقعت منه أوله ، لأن كل العباد محتاج إلى التوبة والاستغفار . وقد تكون التوبة منه تعالى على النبي من باب أنه ترك ما هو الأولى ، والأليق ، كما في قوله { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } التوبة 43 . ويجوز أن يكون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأجل التعريض للمذنبين بأن يتجنبوا الذنوب ، ويتوبوا عما قد لابسوه منها ، وكذلك تاب الله سبحانه على المهاجرين والأنصار ، فيما قد اقترفوه من الذنوب . ومن هذا القبيل ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله " إن الله اطلع على أهل بدر ، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ثم وصف سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم الذين اتبعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلم يتخلفوا عنه ، وساعة العسرة هي غزوة تبوك ، فإنهم كانوا في عسرة شديدة ، فالمراد بالساعة جميع أوقات تلك الغزاة ، ولم يرد ساعة بعينها ، والعسرة صعوبة الأمر . قوله { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ } في { كاد } ضمير الشأن ، و { قلوب } مرفوع بـ { يزيغ } عند سيبويه . وقيل هي مرفوعة بـ { كاد } ، ويكون التقدير من بعد ما كان قلوب فريق منهم تزيغ . وقرأ الأعمش وحمزة وحفص « يزيغ » بالتحتية . قال أبو حاتم من قرأ بالياء التحتية ، فلا يجوز له أن يرفع القلوب بـ { كاد } . قال النحاس والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجمع ، ومعنى { تزيغ } تتلف بالجهد والمشقة والشدّة . وقيل معناه تميل عن الحق وتترك المناصرة والممانعة . وقيل معناه تهمّ بالتخلف عن الغزو لما هم فيه من الشدّة العظيمة . وفي قراءة ابن مسعود « من بعد ما زاغت » وهم المتخلفون على هذه القراءة . وفي تكرير التوبة عليهم بقوله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ } تأكيد ظاهر واعتناء بشأنها ، هذا إن كان الضمير راجعاً إلى من تقدّم ذكر التوبة عنهم ، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار . قوله { وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلّفُواْ } أي وتاب على الثلاثة الذين خلفوا أي أخروا ، ولم تقبل توبتهم في الحال كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم . قال ابن جرير معنى خلفوا تركوا ، يقال خلفت فلاناً فارقته . وقرأ عكرمة بن خالد « خلفوا » بالتخفيف أي أقاموا بعد نهوض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الغزو . وقرأ جعفر بن محمد « خالفوا » وهؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، أو ابن ربيعة العامري ، وهلال ابن أمية الواقفي ، وكلهم من الأنصار ، لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبتهم ، حتى نزل القرآن بأن الله قد تاب عليهم وقيل معنى { خلفوا } فسدوا ، مأخوذ من خلوف الفم . قوله { حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } معناه أنهم أخروا عن قبول التوبة إلى هذه الغاية ، وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، و " ما " مصدرية أي برحبها ، لإعراض الناس عنهم وعدم مكالمتهم من كل أحد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الناس أن يكالموهم . والرحب الواسع . يقال منزل رحب ورحيب ورحاب . وفي هذه الآية دليل على جواز هجران أهل المعاصي تأديباً لهم لينزجروا عن المعاصي . ومعنى ضيق أنفسهم عليهم أنها ضاقت صدورهم بما نالهم من الوحشة وبما حصل لهم من الجفوة ، وعبر بالظن في قوله { وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ } عن العلم أي علموا أن لا ملجأ يلجؤون إليه قط ، إلا إلى الله سبحانه بالتوبة والاستغفار . قوله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ } أي رجع عليهم بالقبول والرحمة ، وأنزل في القرآن التوبة عليهم ليستقيموا أو وفقهم للتوبة فيما يستقبل من الزمان إن فرطت منهم خطيئة ليتوبوا عنها ، ويرجعوا إلى الله فيها ويندموا على ما وقع منهم { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ } أي الكثير القبول لتوبة التائبين ، { ٱلرَّحِيمِ } أي الكثير الرحمة لمن طلبها من عباده . قوله { وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } هذا الأمر بالكون مع الصادقين بعد قصة الثلاثة فيه الإشارة إلى أن هؤلاء الثلاثة حصل لهم بالصدق ما حصل من توبة الله ، وظاهر الآية الأمر للعباد على العموم . وقد أخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ } قال نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الأسارى . قال لم يكن لكم أن تأخذوه حتى يؤذن لكم ، ولكن ما كان الله ليعذب قوماً بذنب أذنبوه { حَتَّىٰ يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } قال حتى ينهاهم قبل ذلك . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في الآية قال بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة ، وفي بيانه طاعته ومعصيته عاما ما فعلوا أو تركوا . وأخرج ابن جرير ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس ، أنه قال لعمر بن الخطاب حدّثنا من شأن ساعة العسرة ، فقال خرجنا مع رسول الله إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، حتى إن الرجل لينحر بعيره ، فيعصر فرثه ، فيشربه ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق يا رسول الله ، إن الله قد عوّدك في الدعاء خيراً فادع لنا ، فرفع يديه ، فلم يرجعهما حتى قالت السماء ، فأهطلت ثم سكبت ، فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر ، فلم نجدها جاوزت العسكر . وقد وقع الاتفاق بين الرواة أن ساعة العسرة هي غزوة تبوك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن منده ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن جابر بن عبد الله ، في قوله { وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلّفُواْ } قال كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، وكلهم من الأنصار . وأخرج ابن منده ، وابن عساكر ، عن ابن عباس ، مثله . وأخرج البخاري ومسلم ، وغيرهما ، عن كعب بن مالك قال لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك ، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر ، ولم يعاتب أحداً تخلف عنها ، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد ، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام ، وما أحبّ أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر منها في الناس وأشهر ، ثم ذكر القصة الطويلة المشهورة في كتب الحديث والسير ، وهي معلومة عند أهل العلم فلا نطول بذكرها . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الضحاك ، في قوله { وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلّفُواْ } قال يعني خلفوا عن التوبة ، لم يتب عليهم حين تاب الله على أبي لبابة وأصحابه . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر ، عن عكرمة نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن نافع ، في قوله { وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } قال نزلت في الثلاثة الذين خلفوا ، قيل لهم كونوا مع محمد وأصحابه . وأخرج ابن جرير ، عن سعيد بن جبير ، في قوله { وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } قال مع أبي بكر وعمر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر ، عن الضحاك في الآية قال مع أبي بكر ، وعمر ، وأصحابهما . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس ، قال مع عليّ بن أبي طالب . وأخرج ابن عساكر ، عن أبي جعفر ، قال مع الثلاثة الذين خلفوا .