Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 124-129)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } حكاية منه سبحانه لقية فضائح المنافقين ، أي إذا ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة من كتابه العزيز ، فمن المنافقين { مَن يِقُولُ } لإخوانه منهم { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ } السورة النازلة { إِيمَـٰناً } يقولون هذا استهزاء بالمؤمنين ، ويجوز أن يقولوه لجماعة من المسلمين قاصدين بذلك صرفهم عن الإسلام وزهيدهم فيه ، و { أيكم } مرفوع بالابتداء وخبره زادته . وقد تقدّم بيان معنى السورة . ثم حكى الله سبحانه بعد مقالتهم هذه أن المؤمنين زادتهم إيماناً إلى إيمانهم ، والحال أنهم يستبشرون مع هذه الزيادة بنزول الوحي ، وما يشتمل عليه من المنافع الدينية والدنيوية { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } وهم المنافقون { فَزَادَتْهُمْ } السورة المنزلة { رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } أي خبثاً إلى خبثهم الذين هم عليه من الكفر وفساد الاعتقاد ، وإظهار غير ما يضمرونه ، وثبتوا على ذلك واستمروا عليه إلى أن ماتوا كفاراً منافقين ، والمراد بالمرض هنا الشك والنفاق وقيل المعنى زادتهم إثماً إلى إثمهم . قوله { أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } قرأ الجمهور { يرون } بالتحتية . وقرأ حمزة ويعقوب بالفوقية خطاباً للمؤمنين . وقرأ الأعمش « أو لم يروا » . وقرأ طلحة بن مصرف « أو لا ترى » خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي قراءة ابن مسعود . ومعنى { يُفْتَنُونَ } يختبرون ، قاله ابن جرير ، وغيره ، أو يبتليهم الله سبحانه بالقحط والشدّة ، قاله مجاهد . وقال ابن عطية بالأمراض والأوجاع . وقال قتادة ، والحسن ، بالغزو والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ويرون ما وعد الله من النصر { ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ } بسبب ذلك { وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } و " ثم " لعطف ما بعدها على يرون ، والهمزة في أو لا يرون للإنكار والتوبيخ ، والواو للعطف على مقدّر ، أي لا ينظرون ولا يرون ، وهذا تعجيب من الله سبحانه للمؤمنين من حال المنافقين وتصلبهم في النفاق ، وإهمالهم للنظر والاعتبار . ثم ذكر الله سبحانه ما كانوا يفعلونه عند نزول السورة بعد ذكره لما كانوا يقولونه ، فقال { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } أي نظر بعض المنافقين إلى البعض الآخر قائلين { هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ } من المؤمنين ، لننصرف عن المقام الذي ينزل فيه الوحي ، فإنه لا صبر لنا على استماعه ، ولنتكلم بما نريد من الطعن والسخرية والضحك . وقيل المعنى وإذا أنزلت سورة ذكر الله فيها فضائح المنافقين ومخازيهم ، قال بعض من يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم للبعض الآخر منهم هل يراكم من أحد ؟ ثم انصرفوا إلى منازلهم . وحكى ابن جرير ، عن بعض أهل العلم ، أنه قال { نَظَرَ } في هذه الآية موضوع موضع قال أي قال بعضهم لبعض هل يراكم من أحد ؟ قوله { ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ } أي عن ذلك المجلس إلى منازلهم ، أو عن ما يتقضي الهداية والإيمان إلى ما يقتضى الكفر والنفاق ، ثم دعا الله سبحانه عليهم ، فقال { صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم } أي صرفها عن الخير وما فيه الرشد لهم والهداية ، وهو سبحانه مصرّف القلوب ومقلبها . وقيل المعنى أنه خذلهم عن قبول الهداية . وقيل هو دعاء لا يراد به وقوع مضمونه ، كقولهم قاتله الله . ثم ذكر سبحانه السبب الذي لأجله انصرفوا عن مواطن الهداية ، أو السبب الذي لأجله استحقوا الدعاء عليهم بقوله { صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم } فقال { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } ما يسمعونه لعدم تدبرهم وإنصافهم . ثم ختم الله سبحانه هذه السورة بما يهوّن عنده بعض ما اشتملت عليه من التكاليف الشاقة ، فقال { لَقَدْ جَاءكُمْ } يا معشر العرب { رَّسُولٍ } أرسله الله إليكم ، له شأن عظيم { مّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم في كونه عربياً وإلى كون هذه الآية خطاباً للعرب ذهب جمهور المفسرين . وقال الزجاج هي خطاب لجميع العالم . والمعنى { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ } جنسكم في البشرية { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } " ما " مصدرية . والمعنى شاق عليه عنتكم لكونه من جنسكم ، ومبعوثاً لهدايتكم ، والعنت التعب لهم والمشقة عليهم بعذاب الدنيا بالسيف ونحوه ، أو بعذاب الآخرة بالنار ، أو بمجموعهما { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أي شحيح عليكم بأن تدخلوا النار ، أو حريص على إيمانكم . والأوّل أولى ، وبه قال الفراء . والرؤوف الرحيم ، قد تقدّم بيان معناهما أي هذا الرسول { بِٱلْمُؤْمِنِينَ } منكم أيها العرب أو الناس { رَءوفٌ رَّحِيمٌ } ثم قال مخاطباً لرسوله ومسلياً له ، ومرشداً له ، إلى ما يقوله عند أن يُعصى { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي أعرضوا عنك ولم يعملوا بما جئت به ولا قبلوه { فَقُلْ } يا محمد { حَسْبِىَ ٱللَّهُ } أي كافيّ الله سبحانه المنفرد بالألوهية { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي فوّضت جميع أموري { وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } وصفه بالعظم ، لأنه أعظم المخلوقات . وقد قرأ الجمهور بالجرّ على أنه صفة لعرش . وقرأ ابن محيصن بالرفع صفة لرب . وقد رويت هذه القراءة عن ابن كثير . وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } قال كان إذا نزلت سورة آمنوا بها فزادهم الله إيماناً وتصديقاً ، وكانوا بها يستبشرون . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ ، في قوله { رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } قال شكاً إلى شكهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ } قال يقتلون . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، نحوه وقال بالسنة والجوع . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن ، قال بالعدوّ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، قال بالغزو في سبيل الله . وأخرج أبو الشيخ ، عن بكار بن مالك ، قال يمرضون في كل عام مرّة أو مرّتين . وأخرج ابن مردويه ، عن أبي سعيد ، قال كانت لهم في كل عام كذبة أو كذبتان . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن حذيفة ، قال كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين ، فيضل بها فئام من الناس كثير . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله { نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } قال هم المنافقون . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، قال لا تقولوا انصرفنا من الصلاة ، فإن قوماً انصرفوا ، صرف الله قلوبهم ولكن قولوا قضينا الصلاة . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن ابن عمر ، نحوه . وأقول الانصراف يكون عن الخير ، كما يكون عن الشرّ ، وليس في إطلاقه هنا على رجوع المنافقين عن مجلس الخير ما يدل على أنه لا يطلق إلا على نحو ذلك ، وإلا لزم أن كل لفظ يستعمل في لغة العرب في الأمور المتعدّدة إذا استعمل في القرآن في حكاية ما وقع من الكفار ، لا يجوز استعماله في حكاية ما وقع عن أهل الخير ، كالرجوع والذهاب ، والدخول والخروج ، والقيام والقعود . واللازم باطل بالإجماع ، فالملزوم مثله ، ووجه الملازمة ظاهر لا يخفى . وأخرج عبد بن حميد ، والحارث بن أبي أسامة ، في مسنده ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، في دلائل النبوّة ، وابن عساكر ، عن ابن عباس ، في قوله { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } قال ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريها وربيعها ويمانيها . وأخرج ابن سعد عنه ، في قوله { مّنْ أَنفُسِكُمْ } قال قد ولدتموه يا معشر العرب . وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، وأبو الشيخ ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، في قوله { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } قال لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح " وهذا فيه انقطاع ، ولكنه قد وصله الحافظ الرامهرمزي في كتابه الفاصل بين الراوي والواعي ، فقال حدثنا أبو أحمد ، يوسف بن هارون بن زياد ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال أشهد على أبي يحدثني ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّ بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي " وأخرج ابن مردويه ، عن أنس ، قال « قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } فقال عليّ بن أبي طالب يا رسول الله ، ما معنى { من أنفسكم } ؟ قال " نسباً وصهراً وحسباً ، ليس فيّ ولا في آبائي من لدن آدم سفاح كلنا نكاح " وأخرج الحاكم ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } يعنيمن أعظمكم قدراً . وأخرج ابن سعد عنه نحو حديث على الأول . وأخرج الطبراني عنه أيضاً نحوه . وأخرج ابن سعد ، وابن عساكر ، عن عائشة ، نحوه . وفي الباب أحاديث بمعناه ، ويؤيد ما في صحيح مسلم ، وغيره ، من حديث واثلة بن الأسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، عن العباس بن عبد المطلب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله حين خلق الخلق جعلني من خير خلقه ، ثم حين فرقهم جعلني في خير الفريقين ، ثم حين خلق القبائل جعلني من خير قبيلة ، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم ، ثم حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم ، فأنا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً " وفي الباب أحاديث . وأخرج ابن أبي شيبة ، وإسحاق بن راهويه ، وابن منيع ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل من طريق يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، قال آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي لفظ آخر ما أنزل من القرآن { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } إلى آخر الآية ، وروي عنه نحوه من طريق أخرى أخرجها عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن الضريس ، في فضائله ، وابن أبي داود في المصاحف ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، والخطيب في تلخيص المتشابه ، والضياء في المختارة . وأخرج ابن مردويه ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا نأمنك وتأمنا قال ولم سألتم هذا ؟ قالوا نطلب الأمن ، فأنزل الله هذه الآية { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ } يعني الكفار تولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه ، قال إنما سمي العرش عرشاً لارتفاعه ، وقد رويت أحاديث كثيرة في صفة العرش وماهيته ، وقدره . وإلى هنا انتهى الثلث الأوّل من التفسير المسمى « فتح القدير » الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني ، غفر الله لهما . وكان تمام هذا الثلث في نهار يوم الثلاثاء لعله يوم عشرين من شهر محرّم سنة 1227 هـ . والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين . الحمد لله انتهى سماعاً على مؤلفه . أطال الله مدّته في شهر جمادى الأولى من عام سنة 1235 هـ .