Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 34-35)
Tafsir: Fatḥ al-qadīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما فرغ سبحانه من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان المتخذين لهم أرباباً ذكر حال المتبوعين فقال { إِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلأَحْبَارِ } إلى آخره ، ومعنى أكلهم لأموال الناس بالباطل أنهم يأخذونها بالوجوه الباطلة كالرشوة ، وأثبت هذا للكثير منهم لأن فيهم من لم يلتبس بذلك ، بل بقي على ما يوجبه دينه من غير تحريف ولا تبديل ، ولا ميل إلى حطام الدنيا ، ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان من علماء الإسلام من لا يأتي عليه الحصر في كل زمان ، فالله المستعان ، قوله { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي عن الطريق إليه وهو دين الإسلام ، أو عن ما كان حقاً في شريعتهم قبل نسخها بسبب أكلهم لأموال الناس بالباطل . قوله { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } قيل هم المتقدّم ذكرهم من الأحبار والرهبان ، وإنهم كانوا يصنعون هذا الصنع . وقيل هم من يفعل ذلك من المسلمين ، والأولى حمل الآية على عموم اللفظ ، فهو أوسع من ذلك ، وأصل الكنز في اللغة الضم والجمع ، ولا يختص بالذهب والفضة . قال ابن جرير الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها . انتهى . ومنه ناقة كناز أي مكتنزة اللحم ، واكتنز الشيء اجتمع . واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزاً أم لا ؟ فقال قوم هو كنز ، وقال آخرون ليس بكنز . ومن القائلين بالقول الأوّل أبو ذر . وقيده بما فضل عن الحاجة . ومن القائلين بالقول الثاني عمر بن الخطاب ، وابن عمر ، وابن عباس ، وجابر ، وأبو هريرة ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيرهم ، وهو الحق لما سيأتي من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز . قوله { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } اختلف في وجه إفراد الضمير مع كون المذكور قبله شيئين ، هما الذهب والفضة ، فقال ابن الأنباري إنه قصد إلى الأعمّ الأغلب ، وهو الفضة قال ومثله قوله تعالى { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } البقرة 45 ردّ الكناية إلى الصلاة لأنها أعمّ ، ومثله قوله { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَـٰرَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّواْ إِلَيْهَا } الجمعة 11 أعاد الضمير إلى التجارة لأنها الأهمّ . وقيل إن الضمير راجع إلى الذهب والفضة معطوفة عليه ، والعرب تؤنث الذهب وتذكره . وقيل إن الضمير راجع إلى الكنوز المدلول عليها بقوله { يَكْنِزُونَ } وقيل إلى الأموال . وقيل للزكاة ، وقيل إنه اكتفى بضمير أحدهما عن ضمير الآخر مع فهم المعنى ، وهو كثير في كلام العرب ، وأنشد سيبويه @ نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف @@ ولم يقل راضون ، ومثله قول الآخر @ رماني بأمر كنت منه ووالدي برياً ومن أجل الطوى رماني @@ ولم يقل بريين ، ومثله قول حسان @ إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ـود ما لم يعاض كان جنونا @@ ولم يقل يعاضا . وقيل إن إفراد الضمير من باب الذهاب إلى المعنى دون اللفظ لأن كل واحد من الذهب والفضة جملة وافية ، وعدّة كثيرة ، ودنانير ودراهم ، فهو كقوله { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } الحجرات 9 . وإنما خص الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال لكونهما أثمان الأشياء . وغالب ما يكنز وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز ، قوله { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } هو خبر الموصول ، وهو من باب التهكم بهم كما في قولهتحية بينهم ضرب وجيع . وقيل إن البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة لتأثيره في القلب ، سواء كان من الفرح أو من الغمّ . ومعنى { يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ } أن النار توقد عليها وهي ذات حمى وحرّ شديد . ولو قال يوم تحمي أي الكنوز لم يعط هذا المعنى . فجعل الإحماء للنار مبالغة . ثم حذف النار وأسند الفعل إلى الجارّ ، كما تقول رفعت القصة إلى الأمير ، فإن لم تذكر القصة قلت رفع إلى الأمير ، وقرأ ابن عامر « تحمى » بالمثناة الفوقية ، وقرأ أبو حيوة « فيكوى » بالتحتية . وخص الجباه ، والجنوب والظهور لكون التألم بكيها أشدّ لما في داخلها من الأعضاء الشريفة . وقيل ليكون الكيّ في الجهات الأربع من قدّام ، وخلف ، وعن يمين ، وعن يسار . وقيل لأن الجمال في الوجه ، والقوّة في الظهر والجنبين ، والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوّة . وقيل غير ذلك مما لا يخلو عن تكلف . قوله { هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ } أي يقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم أي كنزتموه لتنفتعوا به ، فهذا نفعه على طريقة التهكم والتوبيخ { فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } ما مصدرية أو موصولة أي ذوقوا وباله ، وسوء عاقبته ، وقبح مغبته ، وشؤم فائدته . وقد أخرج أبو الشيخ ، عن الضحاك ، في قوله { إِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ } يعني علماء اليهود والنصارى { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَـٰطِلِ } والباطل كتب كتبوها لم ينزلها الله فأكلوا بها أموال الناس ، وذلك قول الله تعالى { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَـٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } البقرة 79 . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } قال هؤلاء الذين لا يؤدّون الزكاة من أموالهم ، وكل ما لا تؤدي زكاته كان على ظهر الأرض أو في بطنها فهو كنز ، وكل مال أدّيت زكاته ، فليس بكنز ، كان على ظهر الأرض أو في بطنها . وأخرجه عنه ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، من وجه آخر . وأخرج مالك ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عمر ، نحوه . وأخرج ابن مردويه ، عنه ، نحوه مرفوعاً . وأخرج ابن عديّ ، والخطيب عن جابر ، نحوه مرفوعاً أيضاً . وأخرجه ابن أبي شيبة ، عنه ، موقوفاً . وأخرج أحمد في الزهد ، والبخاري ، وابن ماجه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عمر ، في الآية قال إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت الزكاة جعلها الله طهرة للأموال ، ثم قال ما أبالي لو كان عندي مثل أحد ذهباً أعلم عدده وأزكيه ، وأعمل فيه بطاعات الله ؟ وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو الشيخ ، عن عمر بن الخطاب قال ليس بكنز ما أدّى زكاته . وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي عن أمّ سلمة ، مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، في مسنده ، وأبو داود ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } كبر ذلك على المسلمين ، وقالوا ما يستطيع أحد منا لولده ما لا يبقى بعده ، فقال عمر أنا أفرج عنكم ، فانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبيّ الله ، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية ، فقال " إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم " ، فكبر عمر ، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم " ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرّته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته " وقد أخرجه أحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، عن سالم بن أبي الجعد من غير وجه عن ثوبان . وحكى البخاري أن سالماً لم يسمعه من ثوبان . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } قال هم أهل الكتاب ، وقال هي خاصة وعامة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوقها كنز . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن أبي أمامة قال حلية السيوف من الكنوز ما أحدّثكم إلا ما سمعت . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عراك بن مالك ، وعمر بن عبد العزيز ، أنهما قالا في قوله { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } إنها نسختها الآية الأخرى { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً } التوبة 103 الآية . وأخرج البخاري ومسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا جعل لها يوم القيامة صفائح ، ثم أحمى عليها في نار جهنم ، ثم يكوى بها جنباه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين الناس فيرى سبيله ، إما إلى الجنة ، وإما إلى النار " وأخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن زيد بن وهب ، قال مررت على أبي ذرّ بالربذة ، فقلت ما أنزلك بهذه الأرض ؟ فقال كنا بالشأم فقرأت { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } الآية ، فقال معاوية ما هذه فينا ، ما هذه إلا في أهل الكتاب ، قلت إنها لفينا وفيهم .