Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 4-6)

Tafsir: Fatḥ al-qadīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الاستثناء بقوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتُمْ } . قال الزجاج إنه يعود إلى قوله { بَرَاءةٌ } والتقدير براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين من المشركين إلا الذين لم ينقضوا العهد منهم . وقال في الكشاف إنه مستثنى من قوله { فَسِيحُواْ } والتقدير فقولوا لهم فسيحوا ، إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقصوكم ، فأتموا إليهم عهدهم . قال والاستثناء بمعنى الاستدراك ، كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ، ولا تجروهم مجراهم . وقد اعترض عليه بأنه قد تخلل الفاصل بين المستثنى والمستثنى منه ، وهو { وَأَذَانٌ مّنَ ٱللَّهِ } إلخ . وأجيب بأن ذلك لا يضرّ ، لأنه ليس بأجنبي . وقيل إن الاستثناء من المشركين المذكورين قبله ، فيكون متصلاً وهو ضعيف . قوله { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } أي لم يقع منهم أيّ نقص . وإن كان يسيراً ، وقرأ عكرمة ، وعطاء بن يسار " ينقضوكم " بالضاد المعجمة ، أي لم ينقضوا عهدكم ، وفيه دليل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده . ومنهم من ثبت عليه ، فأذن الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد من نقض ، وبالوفاء لمن لم ينقض إلى مدّته { وَلَمْ يُظَـٰهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً } المظاهرة المعاونة أي لم يعاونوا عليكم أبحداً من أعدائكم { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ } أي أدّوا إليهم عهدهم تاماً غير ناقص { إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } التي عاهدتموهم إليها ، وإن كانت أكثر من أربعة أشهر ، ولا تعاملوهم معاملة الماكثين على القتال بعد مضي المدّة المذكورة سابقاً ، وهي أربعة أشهر أو خمسون يوماً على الخلاف السابق . قوله { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } انسلاخ الشهر تكامله جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه ، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه ، وأصله الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده ، فاستعير لانقضاء الأشهر ، يقال سلخت الشهر تسلخه سلخاً وسلوخاً بمعنى خرجت منه ، ومنه قول الشاعر @ إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قاتلاً سلخي الشهور وإهلالي @@ ويقال سلخت المرأة درعها نزعته ، وفي التنزيل { وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } يس 37 . واختلف العلماء في تعيين الأشهر الحرم المذكورة هاهنا ، فقيل هي الأشهر الحرم المعروفة التي هي ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرّم ، ورجب ثلاثة سرد ، وواحد فرد . ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم . وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر ، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة ، خمسين يوماً تنقضي بانقضاء شهر المحرم ، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون ، وبه قال جماعة من أهل العلم منهم الضحاك والباقر . وروي عن ابن عباس ، واختاره ابن جرير . وقيل المراد بها شهور العهد المشار إليها بقوله { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } وسميت حرماً ، لأن الله سبحانه حرّم على المسلمين فيها دماء المشركين والتعرّض لهم ، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم منهم مجاهد ، وابن إسحاق ، وابن زيد ، وعمرو بن شعيب . وقيل هي الأشهر المذكورة في قوله { فَسِيحُواْ فِى ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } . وقد روي ذلك عن ابن عباس وجماعة ، ورجحه ابن كثير ، وحكاه عن مجاهد ، وعمرو بن شعيب ، ومحمد بن إسحاق ، وقتادة ، والسديّ ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وسيأتي بيان حكم القتال في الأشهر الحرم الدائرة في كل سنة في هذه السورة إن شاء الله . ومعنى { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } في أيّ مكان وجدتموهم من حلّ أو حرم . ومعنى { خذوهم } الأسر ، فإن الأخيذ هو الأسير . ومعنى الحصر منعهم من التصرّف في بلاد المسلمين إلا بإذن منهم ، والمرصد الموضع الذي يرقب فيه العدوّ ، يقال رصدت فلاناً أرصده ، أي اقعدوا لهم في المواضع التي ترتقبونهم فيها . قال عامر بن الطفيل @ ولقد علمت وما أخالك عالما أن المنية للفتى بالمرصد @@ وقال النابغة @ أعاذل إن الجهل من لذة الفتى وإن المنايا للنفوس بمرصد @@ وكل في { كُلَّ مَرْصَدٍ } منتصب على الظرفية وهو اختيار الزجاج ، وقيل هو منتصب بنزع الخافض أي في كل مرصد ، وخطأ أبو عليّ الفارسي الزجاج في جعله ظرفاً . وهذه الآية المتضمنة للأمر بقتل المشركين عند انسلاخ الأشهر الحرم عامة لكل مشرك ، لا يخرج عنها إلا من خصته السنة ، وهو المرأة ، والصبيّ ، والعاجز الذي لا يقاتل ، وكذلك يخصص منها أهل الكتاب الذين يعطون الجزية على فرض تناول لفظ المشركين لهم ، وهذه الآية نسخت كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذاهم . وقال الضحاك وعطاء والسديّ هي منسوخة بقوله { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } محمد 4 . وأن الأسير لا يقتل صبراً بل يمن عليه أو يفادي . وقال مجاهد وقتادة بل هي ناسخة لقوله { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } ، وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل . وقال ابن زيد الآيتان محكمتان . قال القرطبي وهو الصحيح لأن المنّ والقتل والفداء لم تزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أوّل حرب جاء بهم وهو يوم بدر . قوله { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاة } أي تابوا عن الشرك الذي هو سبب القتل ، وحققوا التوبة بفعل ما هو من أعظم أركان الإسلام ، وهو إقامة الصلاة ، وهذا الركن اكتفى به عن ذكر ما يتعلق بالأبدان من العبادات ، لكونه رأسها ، واكتفى بالركن الآخر المالي ، وهو إيتاء الزكاة عن كل ما يتعلق بالأموال من العبادات ، لأنه أعظمها { فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } أي اتركوهم وشأنهم ، فلا تأسروهم ، ولا تحصروهم ، ولا تقتلوهم { ٱللَّهَ غَفُورٌ } لهم { رَّحِيمٌ } بهم . قوله { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } ، يقال استجرت فلاناً ، أي طلبت أن يكون جاراً أي محامياً ومحافظاً من أن يظلمني ظالم ، أو يتعرّض لي متعرّض . و { أحد } مرتفع بفعل مقدّر يفسره المذكور بعده أي وإن استجارك أحد استجارك ، وكرهوا الجمع بين المفسر والمفسر . والمعنى وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم فأجره أي كن جاراً له مؤمناً محامياً { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } منك ويتدبره حق تدبره ، ويقف على حقيقة ما تدعو إليه { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } أي إلى الدار التي يأمن فيها بعد أن يسمع كلام الله إن لم يسلم ، ثم بعد أن تبلغه مأمنه قاتله فقد خرج من جوارك ورجع إلى ما كان عليه من إباحة دمه ، ووجوب قتله حيث يوجد ، والإشارة بقوله { ذٰلِكَ } إلى ما تقدّم من الأمر بالإجارة ، وما بعده { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } أي بسبب فقدانهم للعلم النافع المميز بين الخير والشر في الحال والمآل . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتُمْ } قال هم قريش . وأخرج أيضاً عن قتادة قال هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبيّ الله زمن الحديبية ، وكان بقي من مدّتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر ، فأمر نبيه أن يوفي بعهدهم هذا إلى مدّتهم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، في قوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتُمْ } قال هم بنو جذيمة ابن عامر من بني بكر بن كنانة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في قوله { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } قال كان بقي لبني مذحج وخزاعة عهد ، فهو الذي قال الله { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ ، في قوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدتُّم مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } قال هؤلاء بنو ضمرة ، وبنو مدلج ، من بني كنانة كانوا حلفاء للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة العُشَيْرة من بطن ينبع { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } ثم لم ينقصوا عهدكم بغدر { وَلَمْ يُظَـٰهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً } قال لم يظاهروا عدوّكم عليكم { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } يقول أجلهم الذي شرطتم لهم { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } يقول الذين يتقون الله فيما حرّم عليهم ، فيوفون بالعهد . قال فلم يعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الآيات أحداً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ ، في قوله { فَإِنَّهُ ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } قال هي الأربعة عشرون من ذي الحجة والمحرّم ، وصفر ، وشهر ربيع الأوّل ، وعشر من ربيع الآخر . قلت مراد السديّ أن هذه الأشهر تسمى حرماً لكون تأمين المعاهدين فيها يستلزم تحريم القتال ، لا أنها الأشهر الحرم المعروفة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك ، في الآية قال هي عشر من ذي القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، سبعون ليلة . وأخرج أبو الشيخ ، عن مجاهد قال هي الأربعة الأشهر التي قال { فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } . وأخرج ابن المنذر ، عن قتادة ، نحو قول السديّ السابق . وأخرج أبو داود في ناسخه ، عن ابن عباس ، في قوله { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } ثم نسخ واستثنى . فقال { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُم } ، وقال { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في قوله { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } يقول من جاءك واستمع ما تقول . واستمع ما أنزل إليك ، فهو آمن حين يأتيك فيسمع كلام الله حتى يبلغ مأمنه من حيث جاء . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، في قوله { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } قال إن لم يوافقه ما يقصّ عليه ويخبر به فأبلغه مأمنه ، وهذا ليس بمنسوخ . وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة في قوله { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } أي كتاب الله . وأخرج أبو الشيخ ، عن سعيد بن أبي عروبة ، قال كان الرجل يجىء إذا سمع كتاب الله ، وأقرّ به ، وأسلم ، فذاك الذي دُعي إليه ، وإن أنكر ولم يقرّ به ، ردّ إلى مأمنه ، ثم نسخ ذلك ، فقال { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـٰتِلُونَكُمْ كَافَّةً } التوبة 36 .